كيفَ تكونُ أديباً ؟
هذه مراسلةٌ جرتْ بيني وبينَ أحدِ الإخوةِ ، وأحببتُ نشرها ، حتى أستفيدَ
ويستفيدَ منها الجميعُ ، ولنكوّنَ لنا مدرسةً خاصّةً بالكتابةِ ، وكذلكَ
لأستفيدَ من آرائكم ومقترحاتكم .
أيّها الأخُ الكريمُ المُباركُ :
السلامُ عليكم ورحمة ُ اللهِ وبركاتهُ
وصلتني رسالتُكَ وصلكَ اللهُ بهداهُ ، وكم سرّني فيها جميلُ لفظكَ ، والذي دلَّ
على كريم ِ أصلكَ ، والنّاسُ لا تزالُ - بحمدِ اللهِ - في خير ٍ ونعمةٍ .
أيّها الأخُ الكريمُ :
الأدبُ نعمة ٌ عظيمة ٌ من نعم ِ اللهِ تعالى ، وبلا شكٍّ أنّ من أعطيها فقد
أعطيَ خيراً كثيراً ، وقد قالَ النبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ : " إنَّ
من البيان ِ لسحراً " ، ولا زالَ النّاسُ يعرفونَ للأديبِ والناثر ِ والشاعر ِ
أقدراهم ، ويُعلونَ ذكرهم ، ويحفظونَ مكانتهم ، وقديماً قالوا في الأمثالِ :
الشعرُ ديوانُ العربِ .
والكلامُ عن أصول ِ الكتابةِ ، وتقويةِ الأسلوبِ طويلٌ ذو فصول ٍ ، ويحتاجُ إلى
وقتٍ ذي فُسحةٍ ، إلا أنّهُ باتفاق ِ علماءِ الأدبِ ، يأتي بالقراءةِ الواسعةِ
، وبالممارسةِ وكثرةِ الكتابةِ ، إضافة ً إلى مُحاكاةِ أساليبِ الكتّابِ
الأقدمينَ ، والسير ِ على طريقتهم ، وانتهاجِ نهجهم ، إلى أن تختصّ بأسلوبٍ
خاصٍّ بكَ .
ومن الناس ِ من لا يكونُ عندهُ ذلكَ الأسلوبُ الحسنُ ، ولا الموهبةُ الكتابيّةُ
، ولا الحسُّ الأدبيُّ ، ولا تكونُ لديهِ ذخيرة ٌ من المعلوماتِ حاضرة ٌ لديهِ
، ولكنّهُ مع كثرةِ البحثِ والقراءةِ وممارسةِ الكتابةِ ، يصبحُ شخصاً مطبوعاً
على الأدبِ وحسن ِ الإنشاءِ .
وهناكَ العديدُ من الكتبِ النافعةِ في مجال ِ النثر ِ وأصولهِ .
منها على سبيل ِ المثالِ :
كتابُ المثلِ السائرِ في أدبِ الكاتبِ والشاعرِ ، لابن الأثير ِ ، وهو كتابٌ
عظيمُ النفع ِ جدّاً ، وفيهِ من الفوائدِ وحُسن ِ الترتيبِ ما يجعلُ قارئهُ لا
يملُّ أبداً ، بل لا أبالغُ لو قلتُ أنّهُ الكتابُ الأوحدُ في هذا البابِ ،
وعنهُ تتشعبُ بقيّة ُ الكتبِ ، ومن فهمهُ فقد فُتحَ عليهِ خيرٌ عظيمٌ في الأدبِ
والكتابةِ والنقدِ .
كتابُ : الصناعتينِ ، لأبي هلال العسكري ، وهو كتابٌ ممتعٌ جداً ، وفيهِ
الكثيرُ من طرق ِ الكتّابِ وطُرقِ استخراج ِ المعاني ، وكذلكَ كيفيّةُ ممارسةِ
النقدِ ، والتف ضيلِ بينَ المعاني والألفاظِ .
كتابُ : البيان ِ والتبيين ِ ، لأبي عثمان الجاحظِ ، وهو كتابٌ فريدٌ في بابهِ
، وقد جمعَ أصولاً هامّةً في البلاغةِ والأساليبِ ، ولكنّهُ غيرُ مرتّبٍ ، ومع
ذلكَ فهو مهمٌّ للغايةِ .
وهناك كتبُ الناثرينَ والكُتّابِ ، والتي اعتنوا فيها بذكرِ مقالاتِهم
وكُتاباتهم ، وكانتْ لهم فيها أساليبُ خاصّة ٌ ، فالقراءة ُ في كتبهم تُثري
القاريءَ ، وتجعلهُ مع مرور ِ الوقتِ يكتسبُ من المهارةِ ما يمكنُ تطويرهُ إلى
أن يُصبحَ إبداعاً منقطعاً النظيرِ .
وزدْ على ذلكَ حفظَ ما تستطيعهُ من أبياتِ شعر ٍ ومن حكم ٍ ومن أمثال ٍ ، وإن
قدرتَ على حفظ القرءان ِ أو كثير ٍ منهُ ، وكذلكَ أحاديثُ النبيِّ صلّى اللهُ
عليهِ وسلّمَ فهو جميلٌ وحسنٌ .
ومن أفضلِ كُتبِ الشعرِ : كتبُ المختاراتِ ، مثلُ الحماسةِ لأبي تمّامٍ ،
وللبحتريِّ ، وكذلكَ ديوانُ المعاني لأبي هلال العسكريِّ ، وكذلكَ مختاراتُ
البارودي ، وهي من أنفسِ وأجودِ المختاراتِ ، وقد كانَ يمدحها الرافعيَّ كثيراً
، بل فضّلها على جميعِ كتبِ المختاراتِ الأخرى .
وهناكَ طريقة ٌ لطيفة ٌ ، كانَ يصنعها ابنُ الأثير ِ ، وسارَ على طريقتها
الرافعيُّ والطنطاويُّ ، وهي أن تأخذَ قطعة ً صغيرة ً ، أو بيتَ شعر ٍ ،
وتقرأهُ ، ثمّ تحاولَ أن تعبّرَ عنهُ بعباراتكَ الخاصّةِ بكَ ، وهكذا حتى تحذقَ
الكتابة َ .
الكلامُ طويلٌ وذو شجون ٍ ، وحسبُكَ من القلادةِ ما يُحيطُ بالعنق ِ ، ولعلّكَ
مع مرورِ الوقتِ ، والصبر ِ ، والتحمّل ِ ، سوفَ تُصبحُ كاتباً ذا شأن ٍ ، ولكَ
أسلوبٌ تحرصُ النّاسُ على احتذاءهِ والاقتداءِ بهِ ، ولكن ما عليكَ سوى الصبر ِ
والجلدِ والتحمّل :
وقلَّ من جدَّ في أمر ٍ يؤملهُ ******** واستعملَ الصبرَ إلا فازَ بالظفرِ