|
الرّافعيُّ : أبو السّامي مصطفى صادق ، ذاك الطودُ الشامخُ ، والعلمُ السامقُ ،
الأصمُّ الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وهو لا يسمعُ ، والذي لا يحملُ من العلمِ
الرسميِّ ألا الشهادةَ الابتدائيةَ ، ومع ذلكَ فقدَ أودى بردودهِ كبارَ
الدكاترةِ والعباقرةِ من الأدباءِ في عصرهِ .
لهُ نثرٌ ساحرٌ أخّاذٌ ، وهو شاعرٌ على جفافٍ في أكثرِ شعرهِ ، وجزالةٍ في
بعضهِ ، وسموٍّ في أغراضهِ .
الكلامُ عن الرّافعيِّ وسيرتهِ ومكانتهِ ، لهُ موضوعٌ خاصٌّ ، جمعتهُ في
وريقاتٍ ويحتاجُ إلى تهئةٍ وصفٍ ليُنشرَ في المنتدياتِ ويذاعَ .
ولكنّي هنا سأنقلُ لكم بعضاً من الرسائلِ التي جرتْ بينهُ ، وبينِ أبي ريّةَ
محمودٍ ، وهي من أرقِّ الرسائلِ وأعذبها ، وكذلكَ من أجملها أسلوباً ، وأصدقها
نقداً ، وفيها جرأةٌ وشفافيةٌ كبيرةٌ .
وهي من الكتبِ التي نفدت من قديمٍ ، ولم يُعدْ طبعها ، وكانَ آخرَ طبعاتها -
وهي الثانيةُ - في سنةٍ 1969 م ، والعثورُ عليها شبهُ متعذّرٍ .
وأرجو أن تحوزَ على رضاكم ، وسأنقلُ لكم بعضها ، حتى تستطيبوا وقتها ، وتستلذوا
قراءتها ، وتحتذوا حذوها في الترسّلِ .
وهذه هيَ :
1 - رأيهُ في أمتع ِ كتبِ النحوِ
( لمّا صحت نيتي على أن أتصلَ بشيخنا الرافعيّ – رحمه الله – رأيتُ أن أسألهُ
عن أفضل كتبِ النحو والصرفِ – وقد كنتُ سألتُ قبل ذلكَ عن هذا الأمر المغفورَ
لهُ الشيخ عبدالعزيز جاويش رحمه الله فأجابني أن خير كتبِ النحو ِ كتابُ سيبويه
والمفصّل للزمخشري - )
طنطا في 20 ديسمبر سنة 1912
أيّها الأديبُ الفاضلُ
السلامُ عليكم ، وبعدُ ،
فإنّي أشكرُ لكَ ما أطريتَ وأحمدُ إليكَ كما أثنيتَ ، وأرجو أن تكونَ أهلاً
لخير ٍ ممّا وصفتني بهِ – إن شاءَ اللهُ - ، فإنّ الأدبَ يرقبُ نوابغهِ دائماً
من بينِ المعجبينَ بهِ والراغبينَ فيهِ وذوي الحرصِ عليهِ . أمّا ما سألتَ من
أمرِ كتبِ النحو ِ والصرفِ ، فيشقُّ علي أن أدلّكَ على غرضكَ منها ، لأنّي لستُ
على بيّنةٍ من قوّتكَ في فهم كتبِ القوم ِ ، والبصر ِ بها ، غير أنّكَ لو
سألتني عن أنفعِ وأمتعِ كتابٍ طُبعَ في النحوِ ، لدللتكَ على " شرحِ الكافيةِ
للرضي " ، وهو كتابٌ ضخمٌ ليسَ في كتبِ العربيةِ ما يساويهِ بحثاً وفلسفةً .
وللرضي أيضاً شرحٌ على الشافيةِ في الصرفِ ، هو كصنوهِ في النحوِ لا يعدلهُ
غيرهما ، فاشترهما ، وضُمّ إليهما كتابَ " متن ِ التوضيحِ " لابن هشام ٍ ،
وشرحه ِ ، فإن لم تنتفعْ بالأولين انتفعتَ بالآخرين ِ .
وإلى اللهِ الدعاءُ في توفيقكَ وتسديدكَ ، وأذكرُ أنّي معجبٌ برغبتكَ في الأدبِ
وإخلاصكَ لأهلهِ .
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مصطفى صادق الرافعي
2 – رأيهُ في دراسةِ الأدبِ العربيّ
( لمّا جاءني أوّل كتابٍ من الرافعيّ – رحمهُ اللهُ – فرحتُ بهِ فرحاً شديداً ،
وجعلتهُ ممن يجبُ الرجوعُ إليهم في أمرِ الأدبِ العربي ودراستهِ ، وقد عنّ لي
أن أعرفَ رأيهُ في دراستهِ – وهو الإمامُ الحجة ُ – فكتبتُ إليهِ خطاباً في
ذلكَ ، كانَ الجوابُ عنهُ هذا الكتابُ ) :
طنطا في 30 ديسمبر سنة 1912
أيّها الفاضلُ
إنّ أعمالي كثيرةٌ في هذه الأيام ِ ولذا أراني أبطأتُ في الردِ على كتابكَ ،
وإنّي مجيبك عنهُ بإيجازٍ ، لأنّ ما سألتَ عنهُ يصعبُ التبسّطُ فيهِ على وجهٍ
واحدٍ .
إنّكَ تريدُ امتلاكَ ناصيةِ الأدبِ – كما تقولُ - ، فينبغي أن تكونَ لكَ مواهبُ
وراثية ٌ تؤديكَ إلى هذه الغايةِ ، وهي مالا يُعرفُ إلا بعدَ أن تشتغلَ
بالتحصيل ِ زمناً ، فإن ظهرَ عليكَ أثرها وإلا كنتَ أديباً كسائرِ الأدباءِ ،
الذينَ يستعيضونَ من الموهبةِ بقوّةِ الكسبِ والاجتهادِ .
فإذا رغبتَ في أقربِ الطرق ِ إلى ذلكَ فاجتهدْ أن تكونَ مفكّراً منتقداً ،
وعليكَ بقراءةِ كتبِ المعاني قبلَ كتبِ الألفاظِ ، وادرسْ ما تصلُ إليهِ يدكَ
من كتبِ الاجتماعِ والفلسفةِ الأدبيةِ في لغةٍ أوربيةٍ أو فيما عرّبَ منها .
واصرف همّكَ من كتبِ الأدبِ العربي – بادىء ذي بدءٍ – إلى كتابِ كليلةَ ودمنة
والأغاني ورسائلَ الجاحظِ وكتابَ الحيوان ِ والبيانِ والتبيين لهُ ، وتفقّه في
البلاغةِ بكتابِ " المثل ِ السائرِ " ، وهذا الكتابُ وحدهُ يكفلَ لكَ ملكةً
حسنة ً في الانتقادِ الأدبي ، وقد كنتُ شديدَ الولعُ بهِ .
ثمّ عليكَ بحفظِ الكثيرِ من ألفاظِ كتابِ " نُجعةِ الرائدِ " لليازجي والألفاظِ
الكتابيّةِ للهمذانيّ ، وبالمطالعةِ في كتابِ " يتيمةِ الدهرِ " للثعالبيّ
والعقدِ الفريدِ لابن عبدربه وكتابِ " زهرِ الآدابِ " الذي بهامشهِ .
وأشيرُ عليكَ بمجلّتينِ تُعنى بقراءتهما كل العنايةِ " المقتطف والبيان " ،
وحسبكَ " الجريدةُ من الصحفِ اليومية و " الصاعقة " من الأسبوعية ، ثم حسبكَ ما
أشرتُ عليكَ بهِ فإنّ فيهِ البلاغ كلّهُ ، ولا تنسَ شرحَ ديوان ِ الحماسةِ
وكتابَ نهجِ البلاغةِ فاحفظْ منهما كثيراً .
ورأسُ هذا الأمر ِ بل سرّ النجاح ِ فيهِ أن تكونَ صبوراً ، وأن تعرفَ أن ما
يستطيعهُ الرجلُ لا يستطيعهُ الطفلُ إلا متى صارَ رجلاً ، وبعبارةٍ صريحةٍ إلا
من انتظرَ سنواتٍ كثيرة .
فإن دأبتَ في القراءةِ والبحثِ ، وأهملتَ أمرَ الزمن ِ – طالَ أو قصرَ – انتهى
بكَ الزمنُ إلى يوم ٍ يكونُ تاريخاً لمجدكَ ، وثواباً لجدّكَ .
والسلامُ عليكَ ورحمة ُ اللهِ .
الرافعي
3 رأيّهُ في الكتبِ التي وعدَ الناسَ بها
( انقطعَ حبلُ المراسلةِ بيني وبين الرافعي – رحمه الله – زهاءَ ثلاث سنين ،
كانت كالفترةِ التي انقطعَ فيها الوحيُ عن الرسول – صلواتُ الله عليهِ - ، ثم
ترادفتْ علي بعد ذلك رسائلهُ ، وهذا هو أوّل كتابٍ منه بعد هذه الفترةِ ) :
طنطا في 21 يونيو سنة 1915
أيّها الأديبُ الفاضلُ
السلامُ عليكم ورحمة ُ اللهِ ، وبعدُ ،
فإنّي معتذرٌ إليكَ من تأخير ِ الرّدِ إلى الآن بالمرضِ الذي شغلني بنفسي منذ
شهرينِ ، فقد كددت رأسي طويلاً وآن لي أن أستريحَ قليلاً .
أمّا كتابكم فقد تلوتهُ مستبشراً بميلكم هذا الميلَ إلى الأدبِ ، ويسرّني أن
تستوعبوا ما تقرءونهُ حتى أتى لكم أن تستخرجوا أسماء الكتبِ التي سألتم عنها
كالقرائحِ العربيةِ وغيرها ، ومن أجل ذلك لا أرتابُ في أنّ لك يوماً – إن شاء
اللهُ – وهو سبحانهُ المسئولُ أن يأخذَ بيدكم إلى القصدِ ممّا تطلبون .
وأمّا هذه الكتبُ التي وعدتُ النّاسَ بها فالنيّةُ معقودة ٌ عليها ، وحسبكَ من
جهتي أنا صحّة النيّةِ ، ولكن ماذا أصنعُ والناسُ عندنا ما تعلمونَ تخاذلاً
وتقصيراً وبخلاً بالدراهمِ القليلةِ ينفقونها على الأدبِ ، وكيف لي أن أملأ
الأسواقَ كتبي ، ويدي فارغةٌ .... ؟ .
لقد وضعتُ كتاباً صغيراً هذه الأيّام وهو " كتابُ المساكين " وأظنّكَ تُعجبُ به
لو قرأتهُ ، غيرَ أنّي لم أجد من يُعينني على طبعهِ فطويتهُ وكنتُ أوشكتُ أن
أتمّهُ ، وليسَ طبعهُ بالمُعجزِ ، فإنّه لا يُنفقُ فيهِ أكثرُ من خمسة وعشرين
جنيهاً ! ، ولكنّي لا أجدها الآن فأينَ هي ؟! ، بل أين من يقولُ هاهي ؟! .
والجزءُ الثالثُ من التاريخِ لموعدكَ به بعد سنتين – إن شاءَ اللهُ – مع أنّي
أكتبُ فيهِ أكثرَ من بضعة أشهر ٍ حتى يمثلَ للطبع ِ ، ولكن العجزُ في التكاليفِ
... فدعني ونفسي إنّ الشرقَ لا يزالُ شرقاً .
سألتني عن قاموس ٍ عربي تشتريهِ فليسَ أحسنَ ولا أوفى من " لسان ِ العرب " فإن
أعياكَ أن تجدَه لقلةِ نسخهِ فالتمس تاجَ العروس ِ وأظنّهُ كثيرَ الوجود ِ ،
وينبغي أن تجمعَ إليهِ " القاموسَ المحيطَ " للفيروزبادي " فإن التاجَ شرحٌ
عليهِ ، وضمّ إليهما " أساسَ البلاغةِ " للزمخشري فلا غنى لأديبٍ عنهُ وهو
رخيصٌ كذلكَ .
واعذرني أن لا أطيلَ في الكتابةِ ، فإن رأسي متألّمٌ ، وقد تركتُ القلمَ حتى
يرزقَ اللهُ العافيةَ بحولهِ وقوّتهِ .
والسلامُ عليكم ورحمة الله .
الداعي
مصطفى صادق الرافعي
4 – رأيهُ في طبع كتبهِ
( لمّا جاءني هذا الكتابُ خاطبتُ الشيخ عبدالرحمن البرقوقي – رحمه اللهُ – في
أن تتولّى مكتبةُ البيانِ طبع " كتابِ المساكين " على نفقتها ولم يكن في ذلك من
عاب ، وعلى أن البرقوقي صهرٌ لشيخنا الرافعي وبينهما من الصلاتِ الأدبيةِ غير
ذلك ما بينمها ، فقد تأثّر جداً وبعثَ إلي بهذا الخطابِ ) :
طنطا في 19 ديسمبر سنة 1915
أيّها الأخُ
السلامُ عليكَ ، وبعدُ ،
فإنّي شاكرٌ لكَ أدبكَ وغيرتكَ ومروءتكَ ، غيرَ أنّي أعتبُ عليكَ إذ كتبتَ
للشيخِ البرقوقي ما كتبتَ ، فإنّي في كتابي الآخر إنّما اعتذرتُ عن عدمِ طبعِ
كل كتبي لأنّي لا أملأ السوقَ ويدي خالية ٌ لا أستطيعُ أن أملأها ، وفرقٌ بينَ
عدم ِ امتلاءِ اليدِ ، وبين ضيقها ، فإنّي – والحمدُ للهِ – في يُسرٍ وإن لم
أكنْ في سعةٍ .
على أنّي كنتُ مريضاً يومئذٍ فكتابتي كانت مريضة كذلكَ ، والحمدُ للهِ على
العافيةِ ، أسأله تعالى أن يدمها لي ولكم .......... ،
....... وأختمُ بالشّكرِ لكَ مرّة أخرى والسلامُ .
مصطفى صادق الرافعي
5 – رأيّهُ في كتابِ ذكرى أبي العلاء
( كتبنا إليهِ أن أحد الأدباءِ يقولُ : إن كتبَ الرافعي أكثر ثمناً من غيرها –
وطلبنا منه أن يبيّن رأيهُ في كتابِ " ذكرى أبي العلاءِ " للدكتور طه حسين –
وكذلكَ ذكرنا لهُ خطأ استعمال ِ لفظةِ " المستلم " التي جاءت في إيصالاتِ
اشتراكِ " كتابِ المساكين " فجاءَ منهُ هذا الجوابُ ) :
طنطا في 30 ديسمبر 1915
أيّها الأخُ
السلامُ عليكم ، وبعدُ ،
... وذكرتم في كتابكم أنّ قائلاً يقولُ ... إنّ الغبنَ أن تكونَ 426 صفحة ً من
ذكرى أبي العلاءِ بعشرةِ قروشٍ ، و 250 صفحة من كتابِ المساكين ِ بمثلها – أو
كما قالَ - ، فهذا – ويحفظكَ اللهُ – سببٌ من أكبرِ أسبابِ سقوطِ الأدبِ عندنا
، إذ يُريدُ الناس ألا يعرفوا التأليف وكدّ العقول ِ إلا تجارة الورق ِ .... ،
كما يصنعُ أصحابُ المكاتبِ الذين يشترونَ ورقاً أبيضَ ويبيعونهُ ورقاً أسود ،
وكما يصنعُ سقاط المؤلفين الذينَ يصنعون هذا الصنيع لأنّه لا فرقَ بين صاحب
مكتبةٍ يطبعُ كتابَ رجل ٍ ماتَ ، وبين مؤلّفٍ ينقلُ عن رجالٍ ماتوا ، كلاهما لا
عملَ لهُ إلا نقلٌ وتصحيحٌ وما أهونهُ عملاً ! .
لقد قيلَ لي – مراراً – إن كتبي أكثر الكتبِ العربيّةِ رواجاً - ولعلّها كذلكَ
- ، ولكنّي مع هذا لا أبيعُ حياتي بالثمن ِ البخس ِ ، وأنا واثقٌ أنّ لي عدداً
من القرّاءِ يشترونَ كتبي بأي ثمن ٍ وجدوها به ، فما ضرّني أن أجعل القاريء
منهم بخمسةٍ من مثل ذلك القائل ..... ! .
إنّها أسطرُ ضائعة ٌ أخطّها في هذا المعنى .... ! .
لم أقرأ " ذكرى أبي العلاءِ " ولا أعرفُ ما هي ، ولكن أخبرني أحدُ الذينَ
ساعدوا في تأليفها – وهم ثلاثةٌ غيرَ صاحبها – أنّها ليست ممّا يُقالُ إنّهُ
هناكَ ، ولا علمَ لي بالغيبِ وأستغفرُ اللهَ ولعلها من الكتبِ الممتعةِ .
غيرَ أنّ ثمنها ليس في تسعيرةِ أثمان ِ الموادِ الغذائيةِ ، فكيف يُريدُ صاحبكم
أن يوجبَ على المؤلفينَ أن يبيعوا كل 42 صفحة بقرش ٍ واحدٍ ! .
أمّا لفظة ُ " المستلم ِ " فقد وقعتْ خطأ ، وقد طلبَ أحدهم إلى أبي عبيدة َ أن
يكتبَ له كتاباً يستشفعُ بهِ إلى رجل ٍ من الأمراءِ ، فأملى أبو عبيدة على
كاتبٍ وقال لهُ : اكتبْ والحن ، فإنّ اللحنَ مجدودٌ – أي محفوظٌ – صاحبهُ ... !
.
لا أعرفُ موعدَ صدورِ الكتابِ فللمطابعِ المصريةِ مواعيدُ غير معروفةٍ .....
وساعةُ المواعيدِ في مصرَ لا ضبطَ لها ولا يمكنُ أن تضبطَ إلا في يدِ نبيٍّ
مصريٍّ – إن ظهرَ في مصرَ نبيٌّ آخرُ .... ! .
أختمُ كتابي بالشكرِ لكَ ... والسلام عليك .
من الداعي مصطفى
6 – يُثني علينا ويدعو لنا
طنطا في 2 يناير سنة 1916
أيّها الأخُ
السلامُ عليكَ ،
وإنّي شاكرٌ همّتكَ مُثن ٍ على مروءتكَ ، وأنتَ من أهل ِ الثناءِ والشكرِ ، وإن
إخلاصَ مثلكَ لمن يُعاني الأدبَ لخليقٌ أن يكونَ ثواباً يغتبطُ بهِ الأدباءُ .
أسألُ اللهَ أن يسرّني بنبوغكَ ، وأن يجعلَ هذه المسرّةَ دانيةً قريبةً فإنّي
أرى فجركَ قد بدأتْ تباشرهُ .
وسلامهُ تعالى ورحمته وبركاتهُ .
الداعي مصطفى صادق الرافعي
7 – رأيهُ في طريقةِ الجاحظِ في دراسةِ الأدبِ
( نزلتْ بنا نكبةٌ ماليّةٌ ذهبتْ بكل ما كانَ يملكُ أبي وخرجَ حكمُ قريتنا من
بيتنا بعد أن ظلّ فيهِ قروناً طويلة يتولاّهُ الخلفُ منهم عن السلف ، وكنتُ قد
أشرتُ إلى ذلكَ في كتابٍ أرسلتهُ إليهِ ، فجاءَ كتابُ منهُ هذه صورتهُ ) :
طنطا في 10 يناير سنة 1916
أيّها الأخُ
السلامُ عليكَ ،
وقد جاءني كتابكَ وكأنّما هو جرحٌ دامٍ يحملُ السهمَ الذي أدماهُ ، فدع ِ
الأمرَ للذي قدّرَ الأمرَ ، وكأيّن من كارثةٍ انجلتْ عن نعمٍ كثيرةٍ .... ،
وأمّا العملُ الذي طلبتهُ فلا أرى أينَ أجدُه لكَ ، وكيفَ أجدهُ في هذه الضائقة
التي تركت الناسَ كأنّهم على بعثٍ لا يقولُ الواحدُ منهم إلا نفسي ! .
إنّنا في وقتٍ لا ينفذُ فيه النورُ فلا أدري كيفَ أشيرُ عليكَ أن تنفذَ أنت ،
ولكنّي أسأل الله أن يهبكَ حظّاً من التوفيقِ فما يفتحُ اللهُ للناس ِ من رحمةٍ
فلا ممسكَ لها .
كتبتُ لكَ أسماءَ بعض ِ كتبِ الاجتماع ِ والفلسفةِ الأدبيةِ ، ومن هذه الأسماءُ
" كتاب الفلسفةِ النظريةِ " وفيهِ وحدهُ الكفاية ُ ، وقد طبعَ منه ستة أجزاء في
علم الاجتماع والمنطق والفلسفةِ وعلم التربيةِ والأخلاق ، والكتابُ أصلهُ اثنا
عشر جزءاً وهو تأليف قوم ٍ من أعلم ِ الناس ِ بتلكَ الفنون ِ ، وكان تعريبهُ
وطبعهُ في بيروت ولكن أينَ منّا بيروتُ ؟! .
اقرأ كل ما تصل إليهِ يدكَ فهي طريقة ُ شيخنا الجاحظِ ، وليكن غرضكَ من
القراءةِ اكتساب قريحةٍ مستقلةِ وفكرٍ واسع ٍ وملكةٍ تقوّي على الابتكار .
فكل كتابٍ يرمي إلى إحدى هذه الثلاث فاقرأهُ ، وما دمتَ لا تعرفُ غيرَ العربيةِ
فالتمس مجلداتِ المقتطفِ وخذ منها كل ما عثرت به ، فإنهُ مدرسة في بعض ِ
الأغراض التي تتوخى إليها .... ، أرجو لكَ الخيرَ ، وأدعو لكَ بالتوفيق ِ .
وأختمُ بالسلام ِ عليك .
مصطفى صادق الرافعي
( أمّا الكتبُ التي أشار إليها فهي ) :
تاريخ التمدّن لكيزو ( طُبع من زمن بعيد )
سر تقدّم الإنجليز
سر تطور الأمم
إميل القرن التاسع عشر
التربية الحديثة لمؤلف سر تقدّم الإنجليز
كتاب الفلسفة النظرية ( طبع في بيروت )
مجلة المقتبس – وفيها شيءٌ كثيرٌ من الموضوعاتِ الاجتماعية –
كتاب الواجب تعريب طه حسين
السلطة والحرية لتولستوي تعريب بعض الأقباط
أما كتبُ التاريخ لإهمها : تاريخ الطبري أو ابن الأثير ، أو ابن خلدون ، ولا
غنى عن تاريخ ِ أبي الفداء وتاريخ القرماني لجمعهما واستيفائهما .
وكتبُ التاريخ ِ كثيرة وفي بعضها كفاية لغير المؤرخ ، أمّا هذا فحاجتهُ في كل
كلّها .
8 – رأيهُ في أخلاق سادتنا الكبراء !
طنطا في 29 يناير سنة 1916
أيّها الأخُ
السلامُ عليكم ، وبعدُ ،
فقد أخذتُ كتابكم وأنا على سفرٍ إلى مصر فلم أستطع الرد يومئذٍ ، وإنّي أشكرُ
لكم عنايتكم فقد وفيتم بما فوق الأمل ِ – باركَ الله فيكم وفي إخلاصكم - .
أمّا ما وصفتم من أمرِ صاحبكم – الرجل الكبير – الذي أمّلتَ أن تكبرَ به ! ،
فكأنّكَ لمّا تعرف هؤلاءِ الكبراء ، ولم تقرأ قولهُ تعالى : (( ربنا إنّا أطعنا
سادتنا وكبراءنا فأضلّونا )) ، فلعنة ُ الله على كل 999 من الألف من هذه الفئةِ
.... ! .
إن الناس على خوفٍ وتوثّبٍ وكلّهم يفزعُ بنفسهِ ويفزعُ من نفسهِ ولعل اللهَ
يُحدثُ بعد ذلكَ أمراً .
حدّثني عنكم صاحبُ البيان ِ بما سرّني من أخلاقكم وشمائلكم وذلكَ ما كنتُ
أتوسّمهُ ، فليتَ اللهيجعلكَ من كبار ِ الأغنياءِ أو يجعلَ في كبار ِ الأغنياءِ
مثلكَ ، حتى لا نضيعَ ولا يضيعَ الأدبُ ، وآه من " ليتَ " هذه إنّها من أكبر
علل الدنيا ! .
أختمُ بإهدائكم طيّبَ التحيّاتِ وبالدعاءِ لكم ، واللهُ المستعانُ .
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته .
الداعي مصطفى صادق الرافعي
9 – رأيه في مؤلفاته وطبعها
طنطا في 30 يناير سنة 1916
أيُّها الأخُ الفاضلُ :
السلامُ عليكم ، وبعدُ ،
فقد كتبتُ إليكم أمس بعد حضوري من مصر ، لأنّي لبثتُ هناكَ أيّاماً لتنسّم
الرَّوحِ الأدبي الذي اختصّت به تلك العاصمةُ الجميلةُ ..... ،
أمّا ما أشرت إليهِ من طبع ِ كل ما أكتبهُ فليس ذلك من همّي ولا أنا ميّالٌ
إليهِ ولا مبالٍ به ، وقد كان بعضُ أبناءِ عمومتي يستميلني كتباً ورسائلَ في
معانٍ مختلفةً ، حتى اجتمعَ لهُ بعد ذلك جملةٌ صالحةٌ ، فأرادَ طبعها ولكنّي
نهيتُهُ وأعلمتهُ أنّي أبرأ منها إذا هو نشرها .
وهنا أشياءُ أخرى لا أريدُ أن أبوحَ بها ، ولكنها في الجملةِ أشياءُ أساعدُ بها
رِفداً ، فينتحلها أهلها وينشرونها بأسمائهم وأنا بذلك راضٍ ومسرورٌ .
وليتَ الزمانَ يهيءُ لي أسبابَ التفرّغِ للكتابةِ والشعرِ ، ويغنيني عن
التكسّبِ من الوظيفةِ التي أنا فيها – وهي في المحكمةِ الأهليةِ هنا – ولكن
ماذا أصنعُ والأمّةُ خاملةٌ كما ترونَ ، فلا تكادُ تقومُ بعيشِ أديبٍ واحدٍ
ليخدمها مدّة عمرهِ ، دعنا من هذا الهمِّ فكم شيءٌ في مصر ضياعٌ والحمدُ للهِ
ولا كفرانَ للهِ .
وذكرت قطعة البخيلِ التي نُشرت في " البيانِ " فهذه القطعة صدرُ روايةٍ طويلةٍ
ممّا يُنشرُ في " المساكينِ " ، وكذلك قصيدةُ ( على الكواكبِ الهاويةِ ) وهي
أيضاً فصلٌ في المساكينِ ، وقد كنتُ نظمتها لحفلةِ الأوبرا ، ومن أجلِ ذلكَ لم
أشرْ فيها إلى طلبةِ الأزهرِ ، بل جعلتها عامّةً كما رأيتمْ .
كنتُ أحبُّ أن أطيلَ كتابي ولكن بي مرضاً من البردِ تتألمُ لهُ الصحيفةُ
والقلمُ ، فأعتذرُ إليكم .
والسلامُ عليكم .
الداعي مصطفى صادق الرافعي
10 – يريدُ العملَ ولكنّهُ يجدُ العوائقَ
طنطا في 23 مارس سنة 1916
أيّها الأخُ :
السلامُ عليكم ورحمةُ الله ، وبعدُ ،
فلقد تلقّيتُ كتابكم ويسرّني أن تكونَ لكم هذه الغيرةُ على الأدبِ وأهلهِ فإن
ذلكَ ممّا يدلّ على أن لكم نفساً عظيمةً تبرزُ بمواهبها شيئاً فشيئاً ، حقّقَ
اللهُ الأملَ فيكم ، وكان لكم بعونهِ وتوفيقهِ .
وفي كتابكم فصولٌ :
فأمّا الكلامُ عن الكتّابِ والشعراءِ فلهُ وقتٌ يأتي – إن شاءَ اللهُ – بعد أن
يفرغَ الذرعُ لما هو أهمّ وأولى بالتقديم ِ .
وإنّي أستشفُ من كتابكَ أنّكَ لا ترى صورتي من نفسكَ إلا في تقويمٍ فلكيّ ،
فمتى ذكرتني قلتَ هو الآن يوشكُ أن يلقي قلمهُ من آخرِ صفحةٍ في كتابِ الشعراءِ
، وفي شهرِ كذا يكونُ قد أنجزَ ... وفي كذا يكونُ قد أنهى وهلمّ من هذا التنجيم
ِ ، فأنا أريدُ أن أعملَ كثيراً ، ولكنّي أضجرُ وأمرضُ وأجدُ من العوائقِ أكثرَ
ممّا أجدُ من الإرادةِ ، وفي الثلاثةِ الأشهرِ الأخيرةِ مرضتُ نحو ثلثيها ،
فتركتُ المساكينَ وغيرَ المساكينِ واهتممتُ لنفسي .
ثمّ إنّ هذا الكتابَ " المساكين " سيتأخرُ أكثرَ ممّا قدّرتُ لهُ ، ولا حيلةَ
لي في ذلكَ ما دامت الدنيا كلّها تدورُ كالإعصارِ ، وممّا يسرّكم أن مشيل بك
لطف الله اشتركَ منه في مئةِ نسخةٍ مرةً واحدةً ، ودفعَ ثمنها مع أنّي لم أطلبْ
إليهِ ، ولكنّ بعضَ الأصدقاءِ عرضَ لهُ بذلكَ .
فالكتابُ يتأخّرُ لا من ضعفٍ ولا من تقصيرٍ ولا من قلةٍ ، ولكن لأنّ الأعمالَ
لا بدّ أن تتأخرَ في مطابعنا ، أو لأنّ كتابَ المساكينِ لا بدَّ أن يكونَ
مسكيناً مثلهم ... فصبراً ... ، وأمّا الشيخُ علي فهو رجلٌ حقيقيٌّ كما وصف "
البيانُ " ، ولو رأيتهُ لاستولى على نفسكَ ولأعجبكَ من جنونهِ العقلُ كلّهُ ...
.
وأمّا " ذكرى أبي العلاءِ " فلم أقرأهُ إلى الآن ، ولا أنا أميلُ إلى قراءتهِ
ولكنّي اطّلعتُ على فصلينِ قصيرينِ ، أحدهما عن بغداد في " المقطمِ " ، والثاني
عن نشأةِ المعرّي في مجلةِ " فتاةِ الشرقِ " .
فإن كان كل ما في الكتابِ على هذا النمطِ فليسَ في الكتابِ إلا ... فإنّ فصلَ
بغداد منقولٌ ببعضِ التصرّفِ عن " معجمِ ياقوت " ، ومع ذلكَ ففيهِ خطأ كبيرٌ ،
لأنّ ياقوت وصفَ أموراً تتعلقُ ببغداد في مواد مختلفةٍ من معجمهِ ، وقصرَ طه في
الاطلاعِ عليهِ ، ومن هنا تطرّقَ إليهِ الخطأ .
والفصلُ الآخرُ حشفٌ وسوءُ كيلةٍ – كما يُقالُ – لأن آراءِ المؤلفِ ضعيفةٌ
واهيةٌ ، ويخيّلُ إليّ أنَ أكبرَ غرضهِ في هذا التأليفِ أن يجيءَ بكلامٍ كثيرٍ
يخرجُ في مجلدٍ ضخمٍ ، فهو يزن الكلامَ بالرّطلِ ... ومع ذلكَ فربّما كان
الكتابُ مفيداً وربّما كان جيّداً ، ولكنّ الفصلينِ اللذينِ وقفتُ عليهما لا
شيءَ ولا شيءَ .
ولا يمكنكم أن تظفروا بكتابِ " الفلسفةِ النظريةِ " إلا من بيروت ... وهذا
الكتابُ عميقٌ يحتاجُ إلى كدِّ الفكرِ ، على أنّهُ لم يطبعْ كلهُ لأنّهُ 12
جزءاً ، طُبعَ منه سبعةُ أجزاءٍ على ما أتذكرُ .
أختمُ بطيبِ التحيّاتِ- إنّي كسولٌ في هذه الأيامِ وأراني في حاجةٍ إلى الكسلِ
أيضاً - .
والسلامُ عليكم ورحمة الله .
من الداعي مصطفى صادق الرافعي
11 – ما أصابهُ من تعبٍ في إعجازِ القرآن
طنطا في 28 مارس سنة 1916
أيّها الأخُ :
السلامُ عليكم .... ،
أمّا قطعةُ " زهرِ الربيعِ " فإنّي أريدُ كتابتها ولكن متى جاءَ وقتها ، وهذا
الوقتُ لا أدري متى هو ، فإنّي لا أكتبُ عندما أريدُ ، ولكن يضطرني الموضوعُ
نفسهُ إلى الكتابةِ فيهِ .
وأحبُّ أن أعلمكم – وحدكم – أنّ كتابَ " المساكين " لا يزالُ منه فصلٌ لمّا
يكتبْ ، لأنّ الأشهرَ الماضيةَ كانت كثيرةَ الأمراضِ عليَّ كما أعلمتكم من قبلُ
، وأمراضي كلّها عصبيةٌ وقد ترادفتْ منذُ فرغتُ من الجزءِ الثاني من " التاريخِ
" ، لأنّي تعبتُ فيهِ إلى أقصى ما يتحمّلُ جسمي وعقلي .
ولذلك تراني أكتبُ يومينِ أو ثلاثة ، ثمّ أضطرُ إلى تركِ الكتابةِ عشرة أيّامٍ
أو أكثر ، مع أنّ جسمي – والحمد لله – غيرُ ضعيفٍ ولكن أعصابي قد تأثرتْ من
دماغي كثيراً ، ذكرتُ لكم كلَّ هذا لكيلا تستعجلوا " بالمساكين " ولا تسأموا
الانتظارَ .
والسلامُ عليكم ورحمة الله .
مصطفى صادق الرافعي
12 – رأيهُ في كتب المنطقِ والبلاغةِ وفي " المنفلوطي "
طنطا في 16 أبريل سنة 1916
أيّها الأخُ :
السلامُ عليكم ،
ولقد وصلَ كتابكم الآن وإنّي أعجلُ بالرّدِ لأنّ عليَّ أعمالاً كثيرةً أريدُ أن
أفرغَ لها ، أمّا كتبُ المنطقِ فلا فائدةَ منها إلا في تفتيقِ الذهن ِ ، وهذه
الفائدةُ على أتمّها في كتبِ الكلامِ العربي " كالمقاصدِ " و " المواقف "
وغيرهما ، على أنّ ذلكَ لا يمنعُ من قراءةِ المنطقِ العربي اليوناني .
ولكنّ المتأخرينَ جعلوا هذا الفرعَ من العلمِ غايةً في الترتيبِ والسهولةِ
والفائدةِ – وأريدُ بالمتأخرينَ علماءَ الإفرنجِ - ، ومن أجزاءِ " الفلسفةِ
النظريةِ " جزءٌ خاصٌ في المنطقِ .
ورأي – أنا – أن علمَ المنطقِ كعلمِ البلاغةِ لا فائدةَ في كليهما لمن لا
يستطيعُ أن يكونَ منطقيّاً وبليغاً بدرسهِ وبحثهِ .
وإنّي أذكرُ لكم خبراً عن نفسي :
فقد كنتُ أوّل الطلبِ منذُ 17 سنةً قصدتُ مصر واجتمعتُ هناكَ بطائفةٍ من أهلِ
الفكرِ ، وكانَ منهم " عبدالعزيز الثعالبي " ، وهو رجلٌ تونسيٌ مؤرخٌ سياسي كان
يدرس في أوربا بعض فروع المشرقيّاتِ ، ومن أمرهِ أنّه لا يتكلّمُ إلا الفصحى ،
فساجلتهُ الحديثَ بلغتهِ وطريقتهِ المنطقيةِ – ولم أكن قرأتُ في المنطقِ شيئاً
غير فصلٍ واحدٍ من كتابٍ أزهريٍّ يبتديءُ به المجاورون وقد أنسيتُ اسمه - ،
فقال لي أخيراً : على من درستَ المنطقَ ؟ ، قلتُ لهُ : من الذي وضعَ هذا العلمَ
؟ ، قالَ : أرسطو ، قلتُ : ولم لا تكونُ قريحتي في ذلكَ كقريحةِ أرسطو ؟ ... .
أسوقُ لكم هذه العبارةَ لتعلموا أنّ الفنّ نفسه غيرُ ضروريٌّ على ما هو في
كتبهِ ، فإنّ زمن المصطلحاتِ المنطقيّةِ قد مضى ، وكانت هذه المصطلحاتُ لازمةً
للجدلِ ، ولا جدلَ اليومَ ... ويمكنكم أن تبدأوا القراءةَ في الكتبِ المقرّرةِ
لطلبةِ الأزهرِ ، وهي شروحٌ وحواشٍ كلّها مفيدٌ ... .
وأمّا الكلامُ عن الشعراءِ والكتّابِ ، فلا أستطيعُ أن أقولَ قولاً أؤخذُ بهِ ،
ورأيّ علماءِ العربِ في ذلك هو رأي فلاسفةِ النقدِ اليومَ ، وذلك أنّهم يكرهون
الكلامَ عن رجل ٍ لا يزالُ حيّاً ، ولكن متى ختم تاريخهُ تكلّموا فيهِ ، لأنّ
من الناسِ من ينبغُ في آخرِ عمرهِ نبوغاً يفوقُ الوصفَ ، ومنهم من يكونُ نبوغهُ
في الكهولةِ أو في الشبابِ وهكذا ، وفي " حاصلِ المطلوباتِ " أنّ كتابَ الشعراء
والكتّابِ لا يكونُ إلا بعد سنين طويلةٍ – إن فسح اللهُ في الأجل ِ - ، إذ هو
في الحقيقةِ تاريخٌ للأدبِ العصري .
أمّا كلماتُ " المنفلوطي " فلها خبرٌ ، وذلكَ أنّه ظهرت منذ 12 سنة – على ما
أتذكرُ – مقالةٌ عن الشعراءِ في مجلّةِ " الثريا " كان لها دويٌ بعيدٌ واشتغلت
بها الصحفُ والمجلاّتُ كلّها ، ونسبتُ هذه المقالة إليّ أنا ، ووصلتُ إلى
الخديو فقام " شوقي وقعدَ " ، ثم شمّر لها السيّدُ " البكريُّ " ، وهو الذي
أوعزَ إلى المنفلوطي أن ينقضها واستأجرهُ لذلكَ ، فكتبَ المنفلوطي كلماته في
مجلةِ " سركيس " وهذه الكلماتُ غيّر ترتيبها ثلاث مراتٍ ، حتى صارت إلى الحالةِ
التي نشرتْ بها أخيراً .
ففي المرةِ الأولى كان رأسُ شعرائها السيّدُ " البكري " ، وفي المرةِ الأخيرةِ
صار " شوقي " ... وهذا هو السببُ في ذم المنفلوطي إيّايّ بتلكَ العباراتِ التي
كتبها عنّي .
أمّا قبلَ ذاكَ فكانَ الرجلُ يقرّظني و ... ينافقُ لي على أنّي من يومئذٍ
طرحتهُ ولم أعدْ أكلّمهُ ، لأنّي لا أتمسّكُ بشيءٍ كالأخلاقِ ، ولذلكَ لا أرجعُ
عن كلمةٍ قلتها ، ومتى انصرفتْ نفسي عن شيءٍ لا تقبلُ إليهِ آخرَ الدهرِ .
فأنت ترى أنّ " المنفلوطي " لا يكتبُ عن بحثٍ ولا روايةٍ ، وإنّما هي كلماتٌ
يصوّرُ بها ما في نفسهِ .
وإنّي أعجبُ لسخافةِ كلمتهِ في الشيخ ِ " جاويش " و " فريد وجدي " ، وهما
عالمانِ من كبارِ أهلِ الفضلِ وأصحابِ الأثرِ في هذه النهضةِ ، ومن ذوي
الأخلاقِ الراقيةِ ، ولو رأيتم الشيخَ " عبدالعزيز " لرأيتم الأدبَ والرّقةَ
والذّكاءَ والأنفةَ والتواضعَ في رجلٍ واحدٍ ، وهو بعدُ عالمٌ مدققٌ يحملُ
شهادةَ علمِ النفسِ وفنّ التصويرِ من جامعةِ " كمبردج " وشهادة " دار العلوم "
، في حين أنّ الذي كتبَ عنهُ إنّما يحملُ شهادةَ التقرّبِ من " سعد باشا زغلول
" ، وبهذه الكلماتِ أرادَ أن يرضيَهُ ويّرضيَ أخاهُ المرحومَ " فتحي باشا " ،
وفي هذا كفايةٌ .
والخلاصةُ : أنّ " المنفلوطي " يُحسنُ أن يكتبَ ولكنّ الكتابةَ غيرُ الدرسِ ،
وما الذي يكتبُ الحكمَ كالذي يُصدرَ الحكمَ .
فألحّوا على الشيخِ " البرقوقي " أن يستوفيَ مقالاتِ الأدبِ العصريِّ فإنّي لم
أرَ خيراً منها .
كنتُ ذكرتُ لكم أنّ في " المساكين ِ " فصلاً لم يُكتب ، فقد كُكتبَ – والحمدُ
للهِ – وأنا مُجدٌّ في إظهارهِ ، واللهُ المُستعانُ .
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتهُ .
الداعي مصطفى صادق الرافعي
13 – رأيه في " البارودي "
طنطا في 5 يوليو سنة 1916
أيّها الأخُ الفاضلُ :
السلامُ عليكم ..... ،
وأمّا الباروديُّ فقد كان نابغةَ دهرهِ الذي نشأ فيهِ ، ولم يكنْ في عصرهِ – أي
من اربعينَ سنةٍ – أحدٌ يساويهِ ، وكانت ابنتهُ قد شرعت في طبعِ ديوانهِ ،
ورأيتُ منه ملزمةً من خمسِ سنواتٍ ، وكانت هذه الملزمةُ في حرفِ الراءِ وآخرها
ص 256 ، فإلى ذلك العهدِ كان قد طبعَ من الديوانِ 256 صفحةً ... فهذا قدرٌ
كبيرٌ ، ومع ذلك فقد كان الطبعُ في القوافي التي على الراء ، على أنّ الرجلَ
أخبرني أنّ شعرهُ قليلٌ ، وربّما لا يتجاوزُ اربعةَ آلافِ بيتِ ، ولا أدري كيف
هذا ؟ .
ولو كانت عندي تلك الملزمةُ لأعطيتها لكم ، ولكنّي مزّقتها من يمئذ لأني قليل
المبالاة بالشعر ... على أنك تجد نحو 200 بيت من أحسن شعر البارودي في الجزء
الثاني من كتاب " الوسيلة الأدبية " للمرصفي ، وهو كتاب قديم ، طبع من أربعين
سنة ، وكان " المرصفي " استاذ الرجل .
ولا تنسى أيضا أن تطلبَ قصيدته المسمّاة " كشف الغمة في مدح سيد الأمة " ، وهي
مطبوعة على حدة عارض بها بردة " البوصيري " – رضي الله عنه – وتبلغُ أربعمائة
بيتٍ .
والكلام في البارودي وطريقة شعره طويل ، وكنت كتبت عنه مقالة في مجلة " المقتطف
" بعد وفاته وذلك بطلب من أصحاب " المقتطف " ، ولكنّي لا أتذكّرُ في أي عددٍ هي
.
وبالجملةِ فإن الرجل شاعر فحل مجوّد وإن كان ضيق الفكر ضعيف الحيلة في إبراز
المعاني واختراعها .
هذا أختمُ بالسلام .
الداعي مصطفى صادق الرافعي
14 – جوابات عن ألفاظ المتكلمين وأهل البلاغة
( منع الجاحظ أن يستعمل الخطيب إذا كان متكلّماً ألفاظ المتكلّمين إذا عبر عن
شيء من صناعة الكلام واصفا أو مجيبا وحرّم العسكري على الأديب استعمال تلك
الألفاظ في أي غرض ، وأوجب ابن الأثير على الكاتب أن يعرف مصطلحات كل صناعة وأن
يلم بكل علم وفن ، فسألتُ شيخنا الرافعي - رحمه الله – عن هذه الآراء الثلاثة ،
وسألته كذلك عمّا أخذه ابن الأثير على الصابيء من أنه يرادف السجع في المعنى
الواحد ، ثم رغبتُ إليه أن يفضي برأيه فيما ذكرهُ المنفلوطي – رحمه الله – من
أن الشعرَ الجاهلي شعر ساذج ، فجاءني هذا الجواب الشامل ) :
أيها الأخ :
السلامُ عليكم ورحمة الله ... وبعدُ ،
فإنه يسرني أن أعرف لكم هذه العناية بالأدب والتوفر عليه ، ولعلكم واجدون فيه
شيئاً من التعزيةِ عمّا ترونهُ في حادثاتِ الدهر من سوء الأدبِ ... أما الأسئلة
فإني مجيبكم عنها بإيجاز ولو أعان الله على إظهارِ ما بقي من أجزاء " تاريخ
آداب العرب " لرأيتم فيه الجواب مطولاً مبسوطاً .
أما كلام " الجاحظ " فصحيح لأنه يريد بالمتلكم الرجل من أهل الجدل وعلماء
الكلام وهذا اذا هو استعمل ألفاظ صنعتهِ في مخاطبةِ الناس من أهله وجيرانهِ ،
أو الكتابة إلى من هو في حكمهم أو الخطابة عليهم كان ذلك مرذولا منه ، وعد
متكلفا ، ودخل في باب الغريب الذي يسمونه " العي الأكبر " ، ولكن الجاحظ لم
يمنع ان يفيض المتكلم مع المتكلمين بمثل تلك الالفاظ بل هو نبه على ان ذلك
محمود منه .
والأصل هو ما ورد في الحديث : (( خاطبوا الناس على قدر عقولهم )) ، وصاحب "
المثل السائر " لا يرمي في كلامه الى ما أروده " الجاحظُ " ، بل هو يريدُ أن
يلم الكاتب بمصطلحات كل صناعة ويشارك في كل علم وفن ، إذ يجد في ذلك مادة وربما
احتاج إليها في توليد معنى او في الكتابة عن واحد من أهل تلك الصناعات او في
ديوان من دواوين الإنشاء القديمة ، والتي كانت تتناول أكثر أمور الدولة يمئذ
ففيها كاتب الرسائل ، وكاتب الخراج ، وكاتب الحساب ، وكتّاب آخرون ، وكانت تلك
أغراض الكتابة من حيث هي صناعة .
على أن ألفاظ العلوم الخاصة بها ممّا يصطلح عليه لا يجوز ان يستعان بها في
الإنشاء إلا لغرض يستدعيها ، وإلا كانت من العي والفهاهة ، ونزلت منزلة الحشو
ووقعت أكثر ما تقع لغوا ، وهذا هو غرض " العسكري " .
وأما عيب صاحب " المثل السائر " على " الصابيء " في ترادف السجع فأنا أراه في
موضعه من النقد ، لأن السجع سناعة لا سجية ، والترادف قد يحسن في الاسلوب
المرسل لمتانة السياق وقوة السرد ، كما تجد في كتابة " الجاحظ " وغيره ، ولكن
الذي يسجع لا يضطر إليه لأن كل سجعة فاصلة فهو من باب الحشو لا غير .
و" الصابيء " على قوته في الترسل ضعيف في السجع ، لا يبلغ فيه منزلة " البديع "
ولا جرم كان ذلك من ضعفهِ فيه .
وأما شعر الجاهلية وسذاجته فلم أقرأ ما كتبه " المنفلوطي في ذلك " ولكن شعر
الجاهلية كشعر غيرهم إنما يصف أحوال الحياة التي شهدودها فيقع فيه ما يقع في
سواه من القوة والضعف ، ويكون فيه الجيد والسخيف .
على أن شعر فحول الجاهلية لا يتعلق به شيء من شيء من شعر غيرهم في صناعة البيان
لا في صناعة الشعر إذ هم أهل اللغة وواضعوها .
وفي الجزء الثالث من " تاريخ الأدب " زهاء أربعممائة صفحة في تاريخ الشعر
العربي وفلسفته وأدواره إلخ .
على أني أحب لك أن لا تحفل كثيرا بأقوال المتأخرين وكتابتهم ومحاوراتهم فيما
يختص بالأدب العربي وتاريخه ، لأنهم جميعا ضعاف لم يدرسوه ولم يفكروا فيه ،
فابحث أنت وفكر واجتهد لنفسك فهذه هي السبيل .
يسوءني ما تصف من حالك وتقلّب الدهر بك ... فدع الأمر للذي يقدر الأمور واصبر
إن الله مع الصابرين ... .
كتبت على عجلة ساعة الانصراف ففكر في الجواب واستخرج من قليله ما لا يكون به
قليلا .
والسلام عليكم ورحمة الله .
4 أكتوبر سنة 1916
الداعي مصطفى صادق الرافعي
15 – رأيه فيما يرتقي به الكبراء
طنطا 19 أكتوبر سنة 1916
أيّها الأخ :
السلام عليكم ،
وقد وصل كتابكم وشكوتم فيه ما لقيتم من فلان وفلان فلا تحسبوا الكبراء قد صاروا
كبراء عفوا بلا ثمن ، بل الكذب والتمليق من حقهم على الناس ومن حق من هو اكبر
منهم عليهم ، وهل ينهض بذي الحاجة إلا ذو المروءة ، ومتى كانت المروءة في هؤلاء
الكبراء خلقاً طبيعاً ؟ ... .
والسلامُ عليكم ورحمة الله .
الداعي مصطفى صادق الرافعي
16- رأيه في أن نصف الفقر فقر كاذب
9 ديسمبر سنة 1916
أيها الأخ :
السلام عليكم ورحمة الله ... ، وبعد ،
فقد تألمت لما في كتابكم ، والأمر لله ، على أن رأي الشيخ علي أن نصف الفقر فقر
كاذب ، لأن الإناسان يتألم بالوهم أكثر مما يتألم بالحقيقة ، وربما كان الضيق
الذي يمضي به وقته أو المصيبة التي لا بد أن تضمحل فلا يتألم المصاب أو
المستضيق على قدر ذلك ، ولكن على قدر سخطه وبكل ما في نفسه من الغيظ ، ولا يرضى
بذلك دون أن يضيف إليه تاريخ مصايبه كلها ، فيجمع على نفسه ألم العمر لحادث
ساعة واحدة أو يوم واحد أو بضعة أيام .
إن الفيلسوف لا يغضب لأنه يعرف ألا منفعة في الغضب ، ولأن الفلسفة الصحيحة تجعل
صاحبها كأنه قطعة من الزمن ، وماذا يضر الليل أنه مظلم ؟ ، وماذا ينفع النهار
أنه مضيء ؟ ، وإنما الزمن منهما جميعا وكيف تريد تريد أن تكون رابط الجأش إلا
عند الخوف ؟ ، وأن تكون شجاعا إلا عند الفزع ؟ ، وأن تكون فيلسوفا إلا عند
المصايب ؟ .
ليس من فضيلة إلا هي قائمة على أنقاض رذيلة ، ولا من رذيلة إلا كان أساسها
فضيلة متهدمة ، فكن رجلا أكثره من روحه ، فإنك إن فعلت وحاولت أن تستطيع رأيت
أكثر الألم بعيد عنك ، ورأيت في كل ضائقة بابا مفتوحا من السماء .
وأنت الآن تحمل روحك فتنوء بك وتعجزك ولكنك يومئذ تكون روحك هي التي تحملك فتخف
بها وتخف بك ، وحسبك من السعادة هذا المعنى .
هون عليك يا أبا رية ، وقل مع القائل :
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعا فلا بد منه مكرها غير طائع
وما أنت وحدك المسكين ، فقد تقدمك من لا يحصيهم إلا الله ، وكل شيء ينتهى ،
وإنما الشأن أن لا ينزل الرجل عن حد الرجولة ، وما أنت حي كما تريد أن تكون ،
ولا كما تريد أن تكون الحياة ، إنما أنت حي بشروط ، ولعل منها هذا الذي تعانيه
، والغيب مجهول ، فلست تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا .
اجتهد أن تستتم في الكتابة والأدب – كما قلت لك – فإن لم تساعدك المعيشة فلا
تساعدها على نفسك .
والسلام عليكم ورحمة الله .
الداعي مصطفى صادق الرافعي
كتبت هذه الأسطر أمس ثم طويت الكتاب لعلي أغير منه أو أزيد فيه ، ثم أنسيته وما
نبهني الآن إلا مرور نسوة وأطفال صغار يلطمن ويصرخن ويحاولن أن يعلن سكان
السماء بمصيبتهن في عائلهن ، الذي قضت عليه محكمة الجنايات ، وكأنها قضت عليهن
معه ، فقلت وأين هذا مما يشكو منه أبو رية ؟ .
اللهم إنه لا نعمة كالعافية والأمن ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
فاحمد الله على أنك لا تشكو إلا حرارة الماء ، فإنك ترى من يشكو لهب الجمر ! ،
ورزق ربك خير وأبقى .
17 – رأيه في بيت من شعر البارودي
أيها الأخ :
يسرني أن يكون فيما كتبته إليك بعض السلوى وعسى تأخذ نفسك بأدب الحكماء
والفلاسفة ، فإن نصف هذا الأدب ازدراء الدنيا وحوادثها .... .
وأما بيت البارودي فهو كما ذكرتم وقد أخطأ الشارح في ضبطه وشرحه ، كما أخطأ في
كثير ، ولقد ابتلي البارودي – رحمه الله – في حياته بنكبات عدة ، وابتلي بعد
موته بهذا الشارح الذي أفسد عليه ديوانه ، وصرف رغبات الناس عنه بهذا الخلط
الذي جمعه وسمّاه شرحا .
وحماسة البحتري كتاب طبعه اليسوعيون في بيروت وهو في حجم جزء من ديوان البارودي
، واختار فيه البحتري أشعارا كثيرة ، على نحو ما فعل أبو تمام في حماسته ... ،
ولم يبق بعد مختارات البارودي حاجة إلى هذا الكتاب ، إلا لمن يريد غرضا خاصا ،
أما من أراد الشعر ففي المختارات ما يكفي .
ولا أدري لماذا لا تتفق لك الآمال التي ذهب زمانها ، كأنما ذهب زمنك أيضا ،
فأنت الآن كالشيخ علي يعيش في زمن مطلق لا يقبل التقسيم إلى ماض وحاضر ومستقبل
، فكل الأمر لله وانتظر ما يطلع به الغيب .
والسلام عليكم ورحمة الله .
16 ديسمبر 1916
مصطفى صادق الرافعي
18 – بينه وبين جرجي زيدان
طنطا في 13 يونيو سنة 1917
حضرة الأخ :
السلام عليكم ، وبعد ،
فإني في كتابكم روحا يدل على أن شيئا من حالكم قد تحسن ، أو جانبا قد تردم ...
، إن كتابتك عن المساكين بعنوان " كلمة مسكين " مما يحسن وقعه لأنك تعبر عن
شعور فقري صحيح ... .
ولم اطلع على ما كتبته " الثمرات " فإن كان عندك العدد فاقتطع منه تلك الكلمات
وأرسلها .
أما " الأخبار " فعلمت أن الذي كتب فيها رجل قسيس من " الفرير " ، وقد كتب قطعة
طويلة وليست عندي لأني لا أجمع الصحف التي تكتب عني ، وقد ندمت أخيرا على هذا
الإهمال ولكن لات ساعة مندم .
وكذلك العدد الذي كتبت فيه كلمة الهمزة فقد فقدته ، لأني مكتبي الآن مريض مثلي
، فأنا ألقي عليه مثل هذه الأعداد والأولاد يمزقون ... .
الذي قرّظ " المساكين " في الأهرام هو " الجميل " صاحب مجلة " الزهور " ومجلته
الآن معطلة ، و " الأهرام " تعتمد عليه في بابي الانتقاد والتقريظ .
أما كلمة " المقطم " فيظهر أنك عرفت كاتبها .. و " الهلال " فإني عجبت من
كتابته وقد أخلف ما وعد ، فأحللت نفسي مما وعدته ونويت أن لا أكتب المقالة التي
طلبها .
وصاحب الهلال القديم – المأسوف عليه – كان يجلني ويمدحني ، حتى إذا أصدرت "
تاريخ آداب العرب " تغير لي وأخذ يعرض بي تعريضا في مجلته من غير أن يصرح باسمي
، فكتب بضع مقالات من هذا النمط ، وأظن أن ابنه يشبهه .
ولقد كنت أنا السبب في أن " زيدان " ألف كتابه " تاريخ آداب اللغة العربية " ،
ولذلك تاريخ لا محل له الآن .
أما " أمين بك الرافعي " فهو رجل حر الضمير ، كبير النفس .. ولو رأيت أخاه "
عبدالرحمن بك " لرأيت عجيبا في الأخلاق والفضائل .
أختم بطيب التحية ، وإن كان عندكم شيخ كالشيخ " علي " فاسأله لي الدعوات .
والسلام .. .
مصطفى صادق الرافعي
19 – كتب الأسلوب البليغ وكيف تقرأ ؟
طنطا في 25 نوفمبر سنة 1917
يا أبا رية :
السلام عليك ،
وقد كنت مريضا وسافرت إلى مصر ... لقد تخيلت كثيرا في الوصية التي تطلبها وما
أشبهك برجل لا يصلي ولا يصوم ولا يؤتي الزكاة ولا يحج ، ثم يريد أن يخرج كفارة
تسقط عنه كل ذلك ، ويبقى وادعا مستريحا وله ثواب الصائم بدريهمات معدودة ... .
الإنشاء لا تكون القوة فيه إلا عن تعب طويل في الدرس وممارسة الكتابة والتقلب
في مناحيها والبصر بأوضاع اللغة وهذا عمل كان المرحوم الشيخ " محمد عبده " يقدر
أنه لا يتم للإنسان في أقل من عشرين سنة .
فالكاتب لا يبلغ أن يكون كاتبا حتى يبقى هذا العمر في الدرس وطلب الكتابة .
فإذا أوصيتك فإني أوصيك أن تكثر من قراءة القرآن ومراجعة " الكشاف " ( تفسير
الزمخشري ) .
ثم إدمان النظر في كتاب من كتب الحديث " كالبخاري " أو غيره ، ثم قطع النفس في
قراءة آثار " ابن المقفع " " كليلة ودمنة " " واليتيمة " والأدب الصغير " ، ثم
رسائل " الجاحظ ، وكتاب " البخلاء " ثم " نهج البلاغة " ثم إطالة النظر في كتاب
" الصناعتين " و " المثل السائر " لابن الأثير ، ثم الاكثار من مراجعة " أساس
البلاغة " للزمخشري .
فإن نالت يدك مع ذلك كتاب " الأغاني " أو أجزاء منه و " العقد الفريد " ، و "
تاريخ الطبري " فقد تمت لك كتب الأسلوب البليغ .
اقرأ القطعة من الكلام مرارا كثيرة ، ثم تدبرها ، وقلب تراكيبها ، ثم احذف منها
عبارة أو كلمة ، وضع ما يسد سدها ولا يقصر عنها ، واجتهد في ذلك ، فإن استقام
لك الأمر فترق إلى درجة أخرى .
وهي أن تعارض القطعة نفسها بقطعة تكتبها في معناها ، وبمثل أسلوبها ، فإن جاءت
قطعتك ضعيفة فخذ في غيرها ، ثم غيرها ، حتى تأتي قريبا من الأصل أو مثله .
اجعل لك كل يوم درسا أو درسين على هذا النحو فتقرأ أولا في كتاب بليغ نحو نصف
ساعة ، ثم تختار قطعة منه فتقرأها حتى تقتلها قراءة ، ثم تأخذ في معارضتها على
الوجه الذي تقدم – تغيير العبارة أولا ثم معارضة القطعة كلها ثانيا – واقطع
سائر اليوم في القراءة والمراجعة .
ومتى شعرت بالتعب فدع القراءة أو العمل ، حتى تستجم ثم ارجع إلى عملك ولا تهمل
جانب الفكر والتصوير وحسن التخييل .
هذه هي الطريقة ولا أرى لك خيرا منها ، وإذا رزقت التوفيق فربما بلغت مبلغا في
سنة واحدة :
وأولا رأيك أن تستفيد وآخر رأيك أن تجتهد
هذا بيت عرض لي الآن فربما كان خلاصة الوصية .
... وفي الختام أرجو أن توفق بما تحاول .
والسلام .
الرافعي
في نيتي أن أضع رسالة صغيرة في معارضة " الدرة اليتيمة " لابن المقفع ، بنفس
الأسلوب وعلى الطريقة الأولى في الكتابة العربية ، طريقة المتقدمين ، فما رأيك
في هذا ؟ .
20 – كيف يفلح الأديب في الكتابة
طنطا في 30 يناير سنة 1918
يا أبا رية :
السلام عليك ، وبعد ،
فإني أرجو أن تكون من نفسك في عافية ، وأن يكون قد فتح عليك من الأدب والكتابة
جزاءا بما درست – إن كنت درست - ، وبما صبرت – إن كنت صبرت - ، إنه ليس بين
الشيخ أبي رية الذي نعرفه والشيخ أبي رية الكاتب المشهور إلا سنتان من عمر الجد
والتعب ، وما أرى أحدا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما
نافذا بالأشغال الشاقة الأدبية ، كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية ،
فاحكم على نفسك بهذه الأشغال سنتين أو ثلاثا في سجن " الجاحظ " أو " ابن المقفع
" أو غيرهما ، وهبها كانت في أبي زعبل أو طرة ... .
أنا لا أزال بين مريض وصحيح ، وقد كان مرضي إنذارا لي من طبيعتي فلو تماديت في
العمل لهدمت نفسي هدما لا يرمم ، ولا بد لي من ترك دماغي وشأنه سنة كاملة ، لا
يكون همي فيها إلا الرياضة والهواء ، حتى يتجدد ما اندثر ويشتد ما ضعف ، ولعل
الله يعقب بعد عسر يسرا ، فإن قدر لي أن أكتب في معارضة " اليتيمة " وأنا شديد
الرغبة في ذلك ، فإن ما يكون هذا بعد السنة – إن شاء الله - ... .
إن أذني لا تزال مريضة يا أبا رية ، ولا أكاد أتعزى بما عزيت به الناس ، فادع
الله لي .
والسلام عليكم ورحمة الله .
الداعي مصطفى صادق الرافعي
أرجو أن تحوزَ على رضاكم .
أخوكم : فتى .
دمتم بخير ٍ .