بسم الله الرحمن الرحيم
ربما نفتقد اليوم السكينة التي تتجلى في محراب العابدين ، تقلب ناظريك علها
تظفر بمنظر مهيب ، تراه في جاثم على ركبتيه ، مطرق الرأس ، منكسر القلب ،
يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه ، لترشف منه ابلغ ما تصل له البشرية من عزة و
استعلاء ، و سمو وارتقاء ، حينها ترى مدنية البشر و ضجيجهم كعالم الذر ، و
يدرك بأن واحداً من معاني العبودية لله تبذره في نفسك ، و تتعاهده و تسقيه
، توقن من خلاله بأن ما سواه كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، أو كسراب
بقيعة يحسبه الضمآن ماء !
إن أجمل لوحة يمكن رقمها في هذا الكون و أصدقها ، هي ذاك العبد المنكسر بين
يدي ربه ، يبكي ذنوبه و يئن ، أو يثني و يمدح صاحب العطاء و المن ، فهو
يراوح بين استغفار و دعاء ، و تعظيم لله و ثناء ، يريق ماء وجهه بين يدي
ربه ، و يمرغه بين يديه ، و يجود بما يملكه من عينيه ، قد اقشعر جلده ، و
انكسر قلبه ، حتى لم تبق فيه بقيه ، و لا ادخر شيئاً من كيانه و لا جنانه ،
إلا و هو يبذله و يستعمله ، و يجاهد أن يظهره بين يدي ربه و يعرضه ، ليقول
بلسان الحال و المقال : يا رب هذا بفضلك ما أملكه ، قد بذلته و صرفته ، و
دفقته بين يديك و اهرقته ، و هو يقر و يعترف ، بكل ما اكتسب و اقترف ،
يستحضر بأن الله له الخلق والملك و التدبير ، و أنه العلي الكبير ، ثم
ينكسر بيت يدي ( غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا اله إلا
هو اليه المصير )
إنها لوحة يقف الكون مشدوها أمامها ، و هو يرى هذا العبد يجسد غاية الوجود
، متمثلا في ذاك المنكسر ، الذي استبشرت له الأرض بسهولها و جبالها ، و
تلألات السماء بجلالها و جمالها ، و اتسق الكون بسعته و عظمته مع ذاك القلب
في الجسد النحيل.
فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، حين يمرغ وجهه بين يدي فاطر السموات
و الأرض ، في ابلغ ما يفعله البشر للتعبير عن صدق العبودية و التذلل ، و
يعلل ابن القيم – رحمه الله – سبب هذا القرب " بأنه مقام ذل وانكسار بين
يدي ربه ".
إنها معادلة سهلة و قريبة ، يفهمها كل أحد ، بأن العبد كلما تذلل و انكسر
بين يدي الله عز وجل ، كلما كان اقرب له، فلتفتح على نفسك مصاريع هذا
الباب، لتهب عليك نسائم القرب.
و تأمل قول النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه : إن الله يقول
يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب
العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده ، أما علمت أنك لو
عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك
وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما
علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال:
يا رب، كيف أسقيك، وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما
علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي، رواه مسلم.
قال ابن القيم : فقال في عيادة المريض " لوجدتني عنده " و قال في الاطعام و
الاسقاء " لوجدت ذلك عندي " ففرق بينهما، فإن المريض مكسور القلب و لو كان
من كان، فلا بد أن يكسره المرض فإذا كان مؤمناً قد انكسر قلبه بالمرض كان
الله عنده.
وهذا – و الله أعلم – هو السر في استجابة دعوة الثلاثة : المظلوم ،
والمسافر، و الصائم ، للكسرة التي في قلب كل واحد منهم ، ، فإن غربة
المسافر و كسرته مما يجده العبد في نفسه ، و كذلك الصوم فإنه يكسر سورة
النفس السبعية الحيوانية و يذلها ا.هـ
و جاء في كتاب الزهد للإمام أحمد أن موسى عليه السلام قال : أي رب ، أين
ابغيك ؟ قال : ابغني عند المنكسرة قلوبهم ".
و تفسير هذا الحب و القرب و الفرح الإلهي ، أن هذا الذل و الانكسار هو "
روح العبودية ، ومخها و لبُّها " ، و بها تتحقق الغاية من ايجاد الجن و
الانس ، و الذي جاء بكل وضوح و ابلغ بيان ( و ما خلقت الجن و الانس إلا
ليعبدون ) فالعبودية هي قطب الرحى ، و هي السبب الوحيد الذي لا ثاني له في
ايجادنا و خلقنا ، و مخها و لبها هو : الذل و الانكسار.
فحقيقة العبادة ترجع إلى معان قلبية مخصوصة و هي غاية الحب و نهاية الذل و
التعظيم ، و ما يلزم عن ذلك من الأعمال الظاهرة ، فتأمل قولهم في تعريفها
بأنها " نهاية الذل و التعظيم " ، فكأنها طريق كلما اوغلت فيه و شمرت
اقتربت من الهدف ، ثم يتفاوت السائرون في هذا الطريق ، فالحياة الطيبة و
الانوار و الطمأنينة و الراحة و الانشراح و السعادة ينالها كل من له حظ في
هذا الطريق ، و كلما اوغلت اكثر و اكثر ، نالك النصيب الأكبر ، فمقل و
مستكثر.
و هذا الذل و الانكسار الذي هو لب العبودية ، اشارت اليه آيات القرآن ،
فجاءت في مقام المدح و الثناء ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات و يدعوننا
رغباً و رهبا و كانوا لنا خاشعين ) و في مقام ذم من ترك التضرع و الاستكانة
و الذل لله ( و لقد اخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم و ما يتضرعون ) في
آيات كثيرة تظهر جلية لمن تدبر القرآن ، و لعل من الدقائق في هذا الباب ،
ما جاء في مقام البيان و الاحتجاج على المشركين ، كقوله في سورة لقمان ( و
إذا غشيهم موج كالظلل دعو الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر فمنهم
مقتصد ..) و في يونس ( .. جاءتها ريح عاصف و جاءهم الموج من كل مكان و ظنوا
أنهم احيط بهم دعو الله مخلصين له الدين ....) فتأمل قوله ( مخلصين له
الدين ) فعندما تفزع القلوب في وقت الشدة لله ، و لا يكون هناك أي تعلق أو
رجاء للمخلوقين أياً كانوا ، و تنطلق الاستغاثات و الدعوات لله حتى لا يكون
في الضمير غيره ، يعبر القرآن عن هذه الحال بكل وضوح و توضيح ( مخلصين له
الدين ) فهذا الفزع و الانقطاع و الانكسار و الاستغاثات و التضرع و التعلق
و الرجاء و الأمل هو اخلاص الدين لله ، و لكنه لم ينفع المشركين لأنها كانت
عندهم حالة مؤقته لحين انتهاء الكرب ( فلما نجاهم الى البر إذا هم يشركون )
بخلاف المؤمنين الذين يستصحبون هذه الأحوال و العبادات في كل حين ، ثم
يتفاوتون في مراتبها ، و لكن إشارة القرآن بأنهم ( مخلصين له الدين ) جديرة
بالتأمل و الوقوف ، لاستصحاب هذا الحال في كل وقت و حين ، و ليس وقت
الشدائد فقط ، كما يصنع المشركون.
ثم يستفيض القرآن في شرح أحوال المؤمنين و صفاتهم و أعمالهم و عباداتهم و
محبتهم و خضوعهم و انكسارهم لتحقيق العبودية لله عز و جل و يدعوهم للمزيد و
المزيد ، و المسارعة و المسابقة ، و السعي و المنافسة ، وانهم يبتغون اليه
الوسيلة ( ايهم اقرب ) و عجلتهم لنيل مراضي الرب - جل و علا - ( وعجلت اليك
ربي لترضى ) و انهم يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا ، بل و دعاهم الى أن
يقتطع العبد وقتاً من يومه أو ليلته ، للانقطاع و الخلوة بالله و الانس به
، و الذل و الانكسار بين يديه ( و تبتل اليه تبتيلا ). " مساكين أهل
الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها " معرفة الله و محبته و
التذلل له ، و الانكسار بين يديه ، وألذ ما في الآخرة رؤيته وسماع كلامه
بلا واسطة.
فخذ هذا الأمر بقوة ، و تدرج فيه حتى تتمكن ، و داوم على السداد و المقاربة
، و المنشط و المكره ، و المصابرة و المجاهدة ، حتى تتشربه نفسك ، و يصلب
عودك ، قال ابن الجوزي : أتعتقد أن التوبة قول باللسان ! إنما التوبة نار
تحرق الانسان ، جرد قلبك من الأقذار ، ثم البسه الاعتذار ، ثم حله حُلة
الانكسار ، ثم أقمه على باب الدار.
قال ذو النون المصري : مضيت إلى أحد العباد فسألته : كيف كان بدء أمرك مع
ربك تبارك وتعالى ؟ قال لي: يا فتى كنت إذا عملت بمعصيته صبر علي وتأنى بي
، فإذا عملت بطاعته زادني وأعطاني ، وإذا أقبلت عليه قربني وأدناني ، وإذا
وليت عنه صوت بي وناداني ، وإذا وقفت لفترة رغبني ومناني ، فمن أكرم من هذا
مأمولاً ؟!
و الله إن شرف الدنيا و الآخرة هو الذل و الانكسار بين يديه ..
|