بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين ، و صلى الله على نبينا محمد ، و على آله و صحبه و سلم
قال صلى الله عليه و سلم : " إن لكل دين خلقاً و إن خلق الإسلام الحياء "
أخرجه ابن ماجة رحمه الله – و قال الشيخ الألباني في صحيح الجامع : " حسن "
و معنى هذا أن الحياء ينبغي أن يكون خلق أصيل لدى كل مسلم ، إذ به يتميز و
يعرف ، و أن قلة الحياء عارض ينشأ من الشيطان و النفس الأمارة بالسوء ،
يزول بزوال أسبابه من اتباع الشيطان و هوى النفس متى ما استقام للإنسان
دينه . فقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق عليه " و الحياء شعبة
من الإيمان "
ما هو الحياء ؟
" هو صفة في النفس تحمل الإنسان على فعل ما يجمل و يزين ، و يترك ما يدنس و
يشين ، فتجده إذا فعل شيئاً يخالف المروءة استحيا من الناس ، و إذا فعل
شيئاً محرماً استحيا من الله ، و إذا ترك واجباً استحيا من الله ، و إذا
ترك ما ينبغي فعله استحيا من الناس " .
و بهذا يعلم أن الحياء من الله من الإيمان ، كذلك الحياء من الناس من
الإيمان ، و هذا ليس من الرياء بل يترك المستحيي فعل ما يعاب به تجملاً و
تزيناً ، كما يترك المتقي ما فيه شبهة استبراء لدينه من النقص ، و لعرضه من
الطعن فيه .
فضل الحياء :
1- كفى به فضلاً أنه صفة لله عز و جل ، قال صلى الله عليه و سلم : " إن
الله حيي ستير ، يحب الحياء و الستر ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر " رواه
أحمد ، و أبو داود ، و النسائي – رحمهم الله – و قال الألباني في صحيح
الجامع : " صحيح " .
و هي صفة نثبتها لله عز و جل على الوجه الذي يليق به سبحانه ، دون تكييف و
لا تشبيه و لا تمثيل .
2- و كفى به فضلاً آخر أن الله سبحانه و تعالى يحبه – كما في الحديث السابق
–
3- وهو حلية الأنبياء عليهم صلوات الله و سلامه جميعهم ، وقد كان صلى الله
عليه و سلم أشد حياء من العذراء في خدرها – كما جاء في الحديث المتفق عليه
–
4- و هو سمت الصالحين في الأمم السابقة ، من أمثال المرأة الصالحة بنت
الرجل الصالح التي جاءت إلى موسى عليه الصلاة و السلام على صفة ذكرها الله
في كتابه فقال عز و جل : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي
يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها
حياء تغطيه ، و يحسن بعض القراء في الوقوف على قول الله عز وجل ( تمشي على
استحياء ) فإذا تابع القراءة قرأ ( على استحياء قالت ) ليقع في روع المستمع
أن مشيتها كانت على استحياء ، و كذا قولها و خطابها كان على استحياء . و
تأمل الحياء في قولها : ( إن أبي يدعوك ) بدلاً عن ( تعال معي ) و إلى
البعد عن كل ريب ببيان سبب الدعوة : ( ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) ، و به
يتحقق أيضاً طمأنة المدعو .
5- وهو سمت صالحي هذه الأمة ، قال صلى الله عليه و سلم : " إن عثمان رجل
حيي " أخرجه مسلم .
6- و هو صفة للملائكة ، قال صلى الله عليه و سلم في عثمان – رضي الله عنه -
: " ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " . أخرجه مسلم .
و السؤال : من بقي من المخلوقات ليست صفته
الحياء ؟
7- وردت في الحياء أحاديث عدة تدل على فضله ، و تحث عليه ، أو تحذر من فقده
، و قد سبق بعض منها ، و فيما يلي بعض أخر:
* قال صلى الله عليه و سلم في حديث متفق على صحته : " الحياء لا يأتي إلا
بخير "
* وقال عليه الصلاة و السلام في الحديث الصحيح : " الحياء خير كله " أو "
الحياء كله خير " .
* وقال صلى الله عليه و سلم : " إن الحياء و الإيمان قرنا جميعاً ، فإذا
رفع أحدهما رفع الآخر" قال الألباني : " صحيح "
* و قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : " إن مما أدرك الناس من
كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " .
قصتان كلما تأملتهما عجبت :
* فأما الأولى فقد أوردها البخاري – رحمه
الله – في صحيحه ، و مضمونها : جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه و
سلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحيي من الحق . فهل على المرأة
من غسل إذا احتلمت ؟ قال صلى الله عليه و سلم : " نعم . إذا رأت الماء "
فغطت أم سلمة - تعني وجهها – و قالت : يا رسول الله . و تحتلم المرأة ؟ قال
: " نعم تربت يمينك ، فبم يشبهها ولدها "
فما أدري من أيهما أعجب ، من السائلة – رضي الله عنها – التي فقهت أن
الحياء لا يمنع من السؤال عما تجب معرفته من أمور الدين ، التي قد يستحيا
من ذكرها عادة ، فقدمت بمقدمة بديعة تدل على أدب جم و حياء " إن الله لا
يستحيي من الحق " و كأني بها تقول بلسان الحال : لو لم يكن الأمر دين يتقرب
لله بمعرفته لما سألت . أم أعجب من أم المؤمنين – رضي الله عنها- و المسؤول
زوجها النبي الكريم صلى الله عليه و سلم ، و تغطي وجهها حين تسأله عما
يستحيا من ذكره .
* و أما الثانية فقصة ابن عمر – رضي الله
عنهما- التي يرويها بقوله : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن من
الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، و إنها مَثَلُ المسلم ، فحدثوني ما هي ؟ فوقع
الناس في شجر البوادي ، قال عبد الله : و وقع في نفسي أنها النخلة ،
فاستحييت ، ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله . قال : " هي النخلة " .
فأتذكره – رضي الله عنه - كلما رأيت أحد فتياننا أو فتياتنا أحداثاً صغار
السن يتعاملون مع بعض أقاربهم ، و معلميهم و الباعة ، و جيرانهم ، و غيرهم
معاملة الأنداد و الأقران الذين يتخالفون فيما بينهم و لا يعرفون للخلاف
أدباً يتأدبون به و هم أقران ، فكيف و هم مع من يكبرهم سناً و علماً و
قدراً ، أتذكره – رضي الله عنه – كلما رأيتهم يردون الكلمة بالكلمة ، و
الفعل بالفعل ، دون رادع من خوف أو أدب ، و بعض الكبار يباركون هذا ، و
يشجعونه ، بحجة إبداء الرأي ، و التعبير عنه ، و التعود على الجرأة ، و
البعد عن الكبت ، و ما تنبهوا أنهم بهذا يسلبونهم خصلة يحبها الله في عباده
، قال صلى الله عليه و سلم للأشج العَصَري : " إن فيك خصلتين يحبهما الله
الحلم و الحياء " . أخرجه ابن ماجة – رحمه الله – و قال الألباني – رحمه
الله – " صحيح " .
قولي (… ) لمن قال ( … ) :
هذه عبارات شاع استعمالها بين الناس ، بعضها خطأ محض ، و بعضها تركها أولى
:
1- " لا حياء في الدين " ، و هي عبارة يقصد
بها قصداً صحيحاً ، و هي أن الحياء لا يمنع من السؤال عما يحتاجه المرء من
أمور دينه ، لكن الظاهر أن صياغة العبارة غير سليمة ، و يستعاض عنها بما
قالته الصحابية أم سليم – رضي الله عنها – بين يدي رسول الله صلى الله عليه
و سلم " إن الله لا يستحيي من الحق " .
2- "هذه مسألة خلافية " جملة ما أكثر ما
ترددت على أسماعنا كلما تحدثنا عن أمور ا للباس ، و ستر العورات ، فقولي
لمن قالت ذلك : " و لكن الحياء لا خلاف فيه "
.
3- " قلبي من الداخل سليم ، و نيتي صافية "
عبارة طالما سمعناها ، حتى مللناها ، و كأننا إن طلب منا الحق فبيناه ، أو
ابتدأنا بيانه قد أسأنا الظن بالناس ، و اتهمناهم بفساد ما انطوت عليه
قلوبهم ، واعجباً من هذه الجملة كم صدت عن خير ، و كم أصابت في مقتل ، و كم
تسببت من إحباط ،و كم قوت من شوكة الفساد و الشر، يرددها من لا يفقه معناها
، فهي حجة من أعجزته الحيل ، و انقطعت حجته ، و أفحم بالدليل فما وجد ما
يرد به إلا إياها ، و لو أدرك معناها لعلم أنها حجة له لا عليه ، إذ قد
يتزيا الفاسق بزي الصالحين لإربة له في تقليدهم ، لكن أنى يرضى الصالح أن
يتزيا بزي الفاسقين ، و يظهر في هيئاتهم !! و قد نفهم أن يخدع الإنسان
بمظهر من أمامه فيحسبه خيراً ، و هو من الأشرار ، لكن كيف نفهم أن يكون
القلب خيراً صالحاً ، ثم لا ينبئ الظاهر عنه ، بل يشير إلى خلافه ؟ و
المسلم كيس فطن لا تمر عليه هذه العبارة و أمثالها دون تأمل .
و الخلاصة : أن من قال عن نفسه : إن قلبه سليم ، و تراه مع هذا لا
يبدو في هيئة الصالحين ، و يظهر من مظهره ما يكذب مخبره ، نقول له : تأمل
كم في نصوص الشرع ما رتب فيه الحكم و العقوبة على أمر في الظاهر ، دون
الإشارة لسلامة القلب و حسن القصد أو فساده " مثل : النمص ، الوشم ، الوشر
، تشبه النساء بالرجال في اللباس و العكس ... و اللبيب تكفيه الإشارة ، و
كم من مريد للخير لم يصبه كما قال الصحابي الذي امتلأ علماً عبد الله بن
مسعود – رضي الله عنه " و من رام الخير و استعان بالله هداه الله إليه
بإذنه تكرماً منه و فضلاً .
4- " لا بأس هذه متزوجة – تقال عند الخوض في أحاديث
سمتها قلة الحياء لا حاجة لها و لا خير منها لدنيا و لا لدين ، أو اصبري ،
غداً تتزوجين ، و تفعلين ما بدا لك – و تقال تصبيراً للبنت التي أتعبتها
قيود الحشمة و التستر التي يلزمها بها أبوها – " و كأني بهم يصمون
المتزوجة بقلة الحياء ، و يسلبونها خصلة من شعب الإيمان سبحان الله ! هل
الزواج في الإسلام إلا نقاء و طهر و عفة ، غض بصر ، و إحصان فرج ، فكيف به
مدعاة للتبذل ، و التفسخ ؟ ! نعم المرأة المتزوجة تكون عادة أقدر على
التعبير عن نفسها ، و إبداء رأيها ، و أجرأ غالباً في اتخاذ القرار، لأنها
مسؤولة عن نفسها ، و راعية لرعية استرعاها الله عليها ، لكن أين في الشرع
أو في العرف أن الزواج يسلب الحياء ، أو يقلله ؟ ! سبحانك ربي هذا بهتان
عظيم .
و أخيراً قولي لكل واحدة : بك حبيبة يصبح هذا الخير المفقود ، قليل
الأتباع ، خير عميم ، كثير الأتباع ، بك حبيبة تتغير صورة احتفالاتنا التي
تظهر فيها عورات بعض المسلمات ، و تكشف فيها لحوم بعض البنات و الأمهات ،
كأننا في مجزرة تباع فيها اللحوم فينتقى أجملها ليُنهش و يؤكل ، بعد أن قلب
الناظر بصره لينتقي الأجود أو الأقبح ، و كل بذوقه يأكل ما يريد . لم لا ؟
و قد رخصت البضاعة ، وكثر العرض ، و فاق الطلب ، و إن كثر الطلب !!
بك أخية يتغير العنوان من " خير كله أتباعه قلة " إلى شعار ترتديه المسلمة
حلية فوق الصدور ، و تاجاً فوق الرؤوس ، فيصبح :
" الحياء من الإيمان . . . و هو للحرة
العفيفة عنوان "
اللهم اجعلنا
ممن يستمعون القول ، فيتبعون أحسنه .... آمين
و الحمد لله أولاً و آخراً ، ظاهراً و باطناً ، و صلى الله على نبينا محمد
، و على آله و صحبه ، و من سار على نهجه ، و اقتفى أثره إلى يوم الدين ، و
سلم تسليماً كثيراً .
|