|
ما زال بعض أوفياء القلوب وإن كنت يحيا الحاضر ، يعيش ذاك الزمن الغابر ، زمن
طيب القلوب وسعة الصدور وسماحة النفوس ... أنعم به زمنًا وأنعم بأهله أهلا ،
كانوا ـ مع ما هم عليه من جهل وفقر وقلة ذات يد ـ على حظ كبير من حسن أخلاق
وجميل عادات ، كانوا يحبون التواصل والتزاور ، ويحيون التكافل والتعاون ، ويسود
بينهم التعاطف والتراحم .
زمن له نفسي تتوق وتشتهي *** عودًا إلى طيب به وتكافل
زمن الأجداد ، كانوا فيه محدودي الآفاق ، لكنهم كانوا على وئام
ووفاق .
زمن الأجداد ، كان لا يستنكر القريب فيه قريبه ولا الجار جاره .
زمن الأجداد ، كانت البيوت متقاربة ، والقلوب متآلفة .
زمن الأجداد ، كانت الجيوب خالية ، والتقوى عالية ، والقناعة بادية .
زمن الأجداد ، لا مناص للقريب من قريبه ولا للجار من جاره ، إذ كانوا على الشدة
يجتمعون ، وللقمة يتقاسمون ، وفي المناسبات يتكاملون ويتعاونون .
زمن الأجداد ، أموال قليلة ، وأحوال متشابهة ، الأرجل على الحفاء ، والرؤوس بلا
غطاء ، أجساد شبه عارية ، وبطون طاوية ، وجيوب خالية ، وملابس موحدة ، فعلام
الحسد وعلام الغبطة ...
أما اليوم ، فيا ويح اليوم !!
نعم في ازدياد ، وخيرات في انقياد ، ودنيا متسعة ، ورؤوس مرتفعة ، وظائف تفرق ،
ومناصب تبدد .
جيبي مترع بالمال ، فما ينفعني الوصال .
إذا رضي عني مديري ورئيس العمل ، فلتغضب علي القبيلة والفصيلة .
همي زيادة رصيدي ، وتزويق منزلي ، وفخامة مركبي ... فإذا حصلت فلا حاجة لي
بالآخرين .
ما نشكو منه اليوم هو عدم الإحساس بالآخرين ؛ بناء على نظرية المصلحة والنفعية
؛ لأننا صرنا ـ شعرنا أو لم نشعر ـ ندور في فلك الرأسمالية ، قل لي كم معك وما
هو منصبك ، يتحدد لدي قدرك ومكانتك .
أحد الإخوان ، عين في إدارة إحدى الدوائر الصغيرة ، وفي أيامه الأولى ، كان
يحضر ليطلع على العمل ، دون أن يتسلم الإدارة رسميًا ، فكان يجلس مع المدير
السابق في مكتبه ؛ لتتم إجراءات التسليم والتسلم ، جاء أحد المراجعين فسلم على
المدير السابق سلامًا حارًّا ، وأحرجه بدعوات حارّة للغداء أو العشاء ، وصاحبنا
يقلب رأسه يتمنى أن تكون هذه العزمات من نصيبه ، لكنه لم يحصل أكثر من سلام
بارد ، برودة وجه ذلكم المراجع ، الذي ما إن خرج من المكتب حتى بلغه من
الموظفين أن المدير السابق قد انتهى تكليفه بنهاية دوام هذا اليوم ، وأن من كان
جالسًا عنده هو الذي سيتسلم الإدارة من صباح غد ، فما كان منه إلا أن رجع ؛ لا
إلى المدير السابق هذه المرة ، ولكن إلى المدير اللاحق ، الذي سيتقلد المناصب
غدًا ، وسلم عليه سلامًّا أحر من قيض ( نجد ) وسموم ( الدهناء ) بعد سلامه
القطبي السابق ، وجعل يتحفى به تحفيًا لا مزيد عليه ، ويلح عليه بزيارته في
البيت ، وأكل غدائه أو عشائه ... ( عجبًا لهذا التحول الكبير والمفاجئ )
لكن صاحبنا كان واسع الصدر ، عارفًا بنفسه وقدرها ، فما زاده إلحاح ذلك (
الحرباء ) إلا إصرارًا على موقفه الذي بناه على أساس أنه إذا شبع البطن ارتخت
العين ( كما يقال في أمثالنا ) ورد عليه ردًّا (برَّد وجهه ) وجعله يخرج يائسًا
.
لعلي خرجت عن الموضوع ... لكنها حياتنا ، يجب أن نعرف إيجابياتها فندعمها ،
وسلبياتها فنحاربها ونتخلص منها .
إننا بحاجة إلى الاحتساب في كل ما نأتي وما نذر من أعمالنا وتصرفاتنا ، فاحتساب
الأجر عند الله ـ عز وجل ـ تهون به الصعاب ، ويقرب به البعيد ، ويرخص الغالي ،
وتتسع به الصدور ، وترق القلوب ، وتسمح النفوس ، ومن ثم تتكسر عوائق الشيطان
أمام الإنسان ، فيصل من قطعه ، ويعطي من منعه ، ويحسن إلى من أساء إليه ،
ويَصدُقُ مَن كَذَبَه ، ويقدر من استهان به ، ولا سيما إذا كان قريبًا ذا رحم .
يوم كان الاحتساب وطلب الأجر هو المحرك الأساس ، لم تكن الوسائل لتقف أمام الأخ
ليصل أخاه ، أو القريب ليزور قريبه ، أو الصديق فيسامر صديقه ويؤانسه ، كان
أحدهم يركب جمله أو حماره أو يترجل حافيًا ، قاطعًا ما لا طاقة لأحدنا به ، من
أجل أن له في مكان كذا قريبًا لا بد من صلته وزيارته ، أو صديقًا تحلو مسامرته
ومنادمته ، أو معرفة لا يحسن هجره ومقاطعته ...
ويوم إن فقد الاحتساب وقل ، لم تُجدِ سرعة سيارة أو فخامة طيارة ، أو قوة
اتصالات أو توفر هواتف ...
وقد يتعلل بعض الناس بأعمال تشغله ، أو ارتباط يمنعه ، أو تجارة تحبسه ، لكنه
لا يجد كل ذلك ، لو أراد أن يزور مديره أو رئيسه أو من يظن أن لديه مالا فيعطيه
، أو أن أحد هؤلاء سيزوره ويدخل منزله ..
ولا ندعي أن ذلك هو وضع الأمة كلها ، فإن فيها أناسًا ضربوا لصلة الأرحام أمثلة
حية ، وآخرين هم في الوفاء قمم لا تطاولها قمم ، فالخير باق في هذه الأمة إلى
قيام الساعة ، لكن الأكثرين تغرهم الحياة الدنيا بمباهجها وزخارفها ، فينسون
ويغفلون ، فكان من الواجب أن يكون لنا دور في تذكيرهم وإيقاظهم ، بمكالمة نسأل
فيها عن أحوالهم ، أو رسالة جوال ندعو فيها لهم ، أو زيارة خاطفة لا نثقل فيها
عليهم ، مع بث الوعي الديني في أوساطهم بوجوب الصلة وأهمية التعاون ، وحرمة
القطيعة وضرر التفكك ، عن طريق توزيع الأشرطة والكتب والرسائل والمطويات ، التي
تناولت هذه الموضوعات .
وختامًا ،، لا يخفى أهمية التسامح والتصافح ، والعفو عن الزلات وتجاوز القصور ،
وأن يعذر بعضنا بعضًا ، ويحاول كل أن يكون هو البادئ ببذل المعروف والندى ، وكف
المنكر ودفع الأذى .
نسأل الله أن يهدينا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا ، إنه جواد كريم .