بسم الله الرحمن الرحيم
كان السبب الداعي لكتابة هذا المقال هو ما
أثاره بعض الباحثين حين اعتقد أن قاعدة
الإعذار بالجهل تشمل ساب الله ورسوله ,
بناء على ما فهمه من قاعدة أهل السنة
والجماعة في التفرق بين الفعل والفاعل ,
فكان لا بد من كتابة مقال تأصلي يُقَرر
فيه حقيقة الإعذار بالجهل عند أهل السنة
وتشرح فيه فلسفته بشكل مختصر .
فمما لا شك فيه أن من الأصول الكبرى التي
يقوم عليها مذهب أهل السنة والجماعة في
باب الأسماء والأحكام والتفكير : التفريق
بين الفعل والفاعل , بحيث أن حكم الفعل لا
ينطبق على فاعله مباشرة وبمجرد الفعل ,
وإنما لا بد من توفر الشروط وانتفاء موانع
.
وقد لخص ابن تيمية حقيقة هذا الأصل في
مقولة مركزة قال فيها :" :" نصوص الوعيد
التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة
بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم
ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت
الشروط وانتفت الموانع , لا فرق في ذلك
بين الأصول والفروع . هذا في عذاب الآخرة
, فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته
وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار أو
غير خالد وأسماء هذا الضرب من الكفر
والفسق يدخل في هذه القاعدة , سواء كان
بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية أو بسبب
فجور في الدنيا وهو الفسق بالأعمال . فأما
أحكام الدنيا فكذلك أيضا.." (الفتاوى ,
ابن تيمية (10/372) .
ولكن هذا الأصل ليس مسألة رياضية بحتة
بحيث تطبيق تطبيقا رياضيا , وإنما هي قضية
علمية عميقة مبنية على أصول نفسية وشرعية
عديدة , وقد شرحت ذلك في كتابي الذي سيخرج
في معرض الرياض عن مركز " نماء" بعنوان (
إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي )
.
وخلاصة تلك العملية : أن من يقع في
المكفرات لا يخلو من حالين :
الحالة الأول :
ألا يكون منتسبا إلى الإسلام أصلا ,
كاليهود والنصارى , فمن كان حاله كذلك فهو
كافر , سواء كان عالما أو جاهلا أو متأولا
, فكل هؤلاء لا يعطون أحكام الإسلام في
الدنيا , ويعاملون بأحكام الكفار التي
حددها الشرع المطهر ؛ ولا يقال فيهم إنهم
معذورون بالجهل فلا يحكم بكفرهم , لأن
الشريعة بينت أنه لا يوجد في الناس إلا
كافر أو مسلم , كما قال تعالى :( هو الذي
خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) , فإذا لم
يكن مؤمنا ولا مسلما فهو كافر بالضرورة ,
وكذلك بينت أن من اتخذ غير الإسلام دينا
فهو غير مقبول منه , كما قال تعالى :(ومن
يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) ,
وكذلك فأحكام الإسلام - مثله مثل جميع
الملل والطوائف - لا تعطى إلا لمن انتسب
إليه , فكيف يعطى اليهودي أو النصراني
أحكام الإسلام ويحكم بإسلامه لأنه جاهل أو
متأول وهو لم ينتسب إلى الإسلام أصلا؟!
هذا حكمه في الدنيا أو حكمه في الآخرة ,
فمن كان من اليهودي جاهلا بالحق ولم تبلغه
بنوة محمد صلى الله عليه وسلم أو بلغته
مشوهة , ففي مصيره يوم القيامة خلاف مطول
, ومن أرجح الأقوال أنه يمتحن يوم القيامة
, فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار ,
وأما من علم بنبوة النبي وأبى أن يتبعه
فهو خالد مخلد في النار .
الحالة الثانية : أن يكون الواقع
في المفكرات ممن ينتسب إلى الإسلام , وثبت
له وصف الإسلام , فالمكفرات التي وقع فيه
منقسمة إلى قسمين :
القسم الأول : المكفرات التي لا
تتعلق بأصل الإقرار بعبودية الله ولا بأصل
الإقرار بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم
, وإنما هي راجعة إلى أفراد ما يتحقق به
عبودية الله وما يتحقق به الإتباع والرضى
بالنبي عليه السلام , وهذا القسم كثيرا ما
يقع من جهالا المسلمين ومتأويلهم .
ومن أمثلة ذلك : إنكار بعض الصفات الإلهية
أو تأويلها , ومن أمثلتها أيضا الاستغاثة
بالقبور والتعلق بها والذبح والنذر لها ,
فهذه الأفعال أمور كفرية شركية توجب
الخروج من الإسلام , ولكنها لا تناقض أصل
الإقرار بوجوب إفراد الله العبودية ,
وإنما هي متعلقة بأفراد ما يتحقق به إفراد
الله بالعبودية , فلو سألنا من يستغيث
بالقبور هل تعلم أنه لا يجوز صرف العبادة
لغير الله؟! لقال : نعم , ولكنه لا يعلم
أن ما فعله يدخل في دائرة الشرك , فهو لا
يجهل أصل الإقرار بإفراد الله بالعبودية
وإنما يجهل فردا من أفراد ما يدخل في ذلك
الإقرار , ففعله كفر بلا شك , ولكنه لا
يكفر حتى تقام عليه الحجة وتنتفي عنه
الشبهة .
وفلسفة هذا الحكم تقوم على أن ذلك العبد
تعارض في حقه ظاهران : أما الأول : فهو
الظاهر الذي يوجب له وصف الإسلام , وهو
إقراره بالشهادتين واتخاذ الإسلام دينا ,
وإعلان التصديق المطلق للنبي عليه الصلاة
والسلام والالتزام بجملة أصول الدين
وفروعه في الحياة.
وأما الظاهر الثاني : فهو وقوعه فيما
يناقض أصل دينه الذي أقر به من الشرك
الأكبر أو غيره من المكفرات , وظهور ذلك
منه .
وقدم قدم أهل السنة الأخذ بالظاهر المثبت
للإسلام على غيره , وهذا ما يفسر كثرة
تحذير العلماء من الإقدام على تكفير
المسلم من غير بينة توجب ذلك وبرهان قوي
يدل على انتفاء وصف الإسلام عن المعين .
ولكن أهل السنة قرروا مع ذلك أن هذا
التقديم ليس على جهة الاستدامة , بحثت
يغلق باب التكفير فلا يحكم بكفر كل من ثبت
له عقد الإسلام , وإنما هو تقديم أولي
يمكن أن ينتقل عنه إذا وجدت أدلة وبيانات
توجب ذلك بحيث تثبت لنا أن الظاهر الموجب
للكفر هو المقدم على الظاهر الموجب
للإسلام .
ومن هنا جاء أهل السنة بقضية شروط التكفير
وموانعه , فإنهم إنما جاؤوا بها حتى
يتمكنوا من الترجيح بين الأحوال المتعارضة
في حكم المنتسب إلى الإسلام إذا وقع في
بعض المكفرات ليحققوا العدل معه , ولو كان
المعتبر عندهم الحكم بالظاهر من غير أي
قيد لما جاؤوا بشروط التكفير وموانعه .
فمذهب أهل السنة والجماعة قائم على مراعاة
مقتضيات النصوص الشرعية مع مراعاة طبائع
الأحوال البشرية , فلما تعارض عندهم في
المنتسب إلى الإسلام ظاهران ذهبوا إلى
المرجحات , التي تبين حقيقة ما عليه العبد
وتكشف حقيقة حاله , فإذا وجدنا أن المعين
إنما وقع في المكفر لأجل تكذيب طرأ عليه
أو عناد أو جحود قام به , أو إعراض عن
الحق أو تكاسل عن الالتزام به , أو تهاون
بشأنه فهو كافر خارج عن ملة الإسلام , وإن
كان فعله للمكفر راجعا إلى أنه لم يعلم
بأن ما فعله يؤدي به إلى الخروج من دينه ,
فإنه يبقى على الأصل وهو ثبوت وصف الإسلام
له , وهذا أمر يحصل كثيرا من المسلمين ,
فإن العبد المقر بالإسلام والمصدق بالنبي
قد يكون مكذبا أو منكرا لأمور لا يعلم أن
الرسول قالها أو أخبر بها أو أمر بها ,
ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر , بل خضع
وأناب وامتثل ( الفتاوى , ابن تيمية
(7/237) .
القسم الثاني : مكفرات لا يعذر
فيها بالجهل والتأويل , وهي المكفرات التي
تتعلق بأصل الإقرار بالعبودية لله تعالى
أو بأصل الإقرار بنبوة محمد عليه الصلاة
والسلام , كمثل الجهل المتعلق بوجوب إفراد
الله بالعبادة أو بوجود التسليم بنبوة
النبي صلى الله عليه وسلم , فمن جهل أنه
لا يجوز صرف العبادة لغير الله أو من كان
يعتقد أنه يجوز أن يعبد غير الله فهو كافر
سواء كان جاهلا أو متأولا ؛ لأن من كان
حاله كذلك فجهله في الحقيقة متعلق بأصل
الدين الذي يثبت به عقد الإسلام ,وكذلك من
لم يقر بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام ,
فهو كافر سواء كان جاهلا أو متأولا .
ومن المكفرات التي لا يعذر فيها بالجهل
والتأويل : المكفرات المتعلقة بأصل
الإيمان بتعظيم الله تعالى وتعظيم نبيه ,
كمثل من يسب الله أو يسب نبيه صلى الله
عليه وسلم أو يلقي القرآن في القاذورات ,
فمن فعل ذلك فهو كافر سواء كان جاهلا أو
متأولا ؛ لأن مثل هذه الأمور مناقضة لأصل
التعظيم الذي يقوم عليه الإيمان , وتدل
دلالة ضرورية على انتفائه من القلب , فلا
يتصور معها أن يكون الشخص مسلما مؤمنا في
الباطن , ولا نحتاج فيها أن نبحث عن شروط
التفكير وموانعه في المعين ؛ لأن دلالة
فعله دلالة ضرورية على انتفاء الإيمان من
قلبه , ولا يجب علينا إلا شيء واحد فقط ,
وهو البحث فيما ما صدر منه هل يدخل في باب
السب أم لا؟ , فإن ثبت أنه سب واستخفاف
فإنه وصف الكفر ينطبق عليه من غير توقف .
وفي بيان هذا الحكم يقول ابن تيمية :" إن
سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا و باطنا
سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان
مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا
مذهب الفقهاء و سائر أهل السنة القائلين
بأن الإيمان قول و عمل" ( الصارم المسلول
513) .
ونقل عن ابن راهوية - أحد أئمة الإسلام من
الشافعية -أنه قال :" وقد أجمع المسلمون
أن من سب نبيا من أنبياء الله أو سب رسول
الله عليه الصلاة و السلام أو دفع شيئا
مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله
أنه كافرا بذلك و إن كان مقرا بما أنزل
الله " ( الصارم المسلول 513)
ويقول ابن تيمية في موطن آخر :" السب
الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا وباطنا
, هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة و
الجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية
والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة
و القول بلا عمل من أعمال القلب مع أنه
إنما ينافيه في الظاهر وقد يجامعه في
الباطن" ( الصارم المسلول 375) .
والأمر الغريب أن بعض الباحثين ينقل نصوص
ابن تيمية التي فيها التأكيد على ضرورة
التفريق بين الفعل والفاعل ليستدل على
إعذار الساب لله ورسوله بالجهل أو
بالتأويل , وأغفل نصوص الأخرى التي يذكر
فيها أن الساب لا يدخل في هذه القاعدة ,
والمنهجية العلمية تقتضي أن يجمع كلام ابن
تيمية كله , ويستخرج مذهبه ورأيه من
مجموعها , ونحن إذا فعلنا ذلك نجد أن
قاعدة الإعذار بالجهل والتأويل لا تنطبق
على الساب لله ورسوله ؛ لأن فعله ليس مما
يمكن أن يتصور فيه الجهل ؛ لأنه مناقض
لأجل التعظيم والرضى بالله ربا وبالنبي
رسولا نبيا .
وقد اقتصرت كثيرا على شرح مذهب أهل السنة
في هذه القاعدة العظيمة , ولم أكثر من نقل
النصوص والتقريرات والأدلة التي اعتمدوا
عليها طلبا للاختصار , ولأنها قريبة جداً
من القراء.