|
بسم الله الرحمن الرحيم
فما أجمل أن يعيش العبد في هذه الدنيا وهو يحصد الخيرات في مواسم الطاعات ؛
فهذا شهر رمضان بإهلاله تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين
, وينبغي على المكلفين من الإنس والجن المبادرة والمسابقة والمسارعة في فعل
الطاعات وترك المنكرات , وهذا الموسم المبارك فرصة عظيمة لتجديد الحياة
بالإيمان والتماس رضى الرحمن – جل جلاله – والتقرب إليه بالطاعات ومن
أعظمها بعد أداء الفرائض الحرص التام على قراءة القرآن العظيم بالتدبر
وتحريك القلوب عند قراءته وسماعه , وكان الصحابة – رضي الله تعالى عنهم
أجمعين - إذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى الأشعري يقولون : (يا أبا موسى اقرأ
علينا) فيقرأ وهم يستمعون , وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه -
قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (اقرأ عليَّ) . فقلت : يا
رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟! قال: (نعم , إني أحب أن أسمعه من
غيري) ، فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: (فَكَيْفَ إِذَا
جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ
شَهِيدًا) ، قال: (حسبك الآن) فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
والأفضل لمن أراد أن ينتفع بتلاوته لكتاب الله – عز وجل - أن يختار وقتاً
يجمع فيه قوة القلب والهمة على التدبر والتفكر وفهم مراد الله – تبارك
وتعالى – بالآيات ومن بعد ذلك يتعظ وينتفع وتتغير مجريات الحياة للأفضل.
وقد سطَّر العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - كلاماً نفيساً في
كتابه الفوائد عندما قال : (تأمل خطاب القرآن ؛ تجد ملكاً له الملك كله وله
الحمد كله , أزِمَّة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومرادها إليه , مستوياً
على سرير ملكه , لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته , عالماً بما في نفوس
عبيده , مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم , منفرداً بتدبير المملكة , يسمع
ويرى , ويعطي ويمنع , ويثيب ويعاقب , ويكرم ويهين , ويخلق ويرزق , ويميت
ويحيي , ويقدر ويقضي ويدبر , الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها وصاعدة
إليه , لا تتحرك ذرة إلا بإذنه , ولا تسقط ورقة إلا بعلمه . فتأمل كيف تجده
يثني على نفسه , ويمجد نفسه , ويحمد نفسه , وينصح عباده , ويدلهم على ما
فيه سعادتهم وفلاحهم , ويرغبهم فيه , ويحذرهم مما فيه هلاكهم , ويتعرف
إليهم بأسمائه وصفاته , ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه ؛ فيذكرهم بنعمه عليهم ,
ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها , ويحذرهم من نقمه , ويذكرهم بما أعد لهم
من الكرامة إن أطاعوه , وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه , ويخبرهم بصنعه في
أوليائه وأعدائه , وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء , ويثني على أوليائه بصالح
أعمالهم وأحسن أوصافهم , ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم , ويضرب
الأمثال , وينوع الأدلة والبراهين , ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة ,
ويصدق الصادق , ويكذب الكاذب , ويقول الحق , ويهدي السبيل , ويدعو إلى دار
السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها , ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها
وقبحها وآلامها , ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه ,
وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين , ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات ,
وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه , وكل ما سواه فقير إليه بنفسه , وأنه لا
ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته , ولا ذرة من الشر فما
فوقها إلا بعدله وحكمته. ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب , وأنه مع
ذلك مقيل عثراتهم , وغافر زلاتهم , ومقيم أعذارهم , ومصلح فاسدهم , والدافع
عنهم , والمحامي عنهم , والناصر لهم , والكفيل بمصالحهم , والمنجي لهم من
كل كرب , والموفي لهم بوعده , وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه ؛ فهو
مولاهم الحق , ونصيرهم على عدوهم ؛ فنعم المولى ونعم النصير . فإذا شهدت
القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جواداً جميلاً هذا شأنه ؛ فكيف لا
تحبه , وتنافس في القرب منه , وتنفق أنفاسها في التودد إليه , ويكون أحب
إليها من كل ما سواه , ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟! وكيف لا تلهج
بذكره , ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذائها وقوتها ودواؤها ؛ بحيث
إن فقدت ذلك ؛ فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟!).
أبوخلاد ناصر بن سعيد السيف
1 رمضان 1433 هـ
https://twitter.com/Nabukhallad