قال تعالى :( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى
النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ، وإذ قال موسى لقومه
اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبّحون
أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) سورة إبراهيم : 5 ، 6 .
ربنا سبحانه يكلف موسى عليه السلام ، أن يخرج قومه من الظلمات إلى النور ؛ من
ظلمات الذل والاستضعاف ، إلى نور العزة والكرامة والريادة بحمل راية التوحيد
وإقامة الدين . وخلال ذلك ، ولأجل تحقيق ذلك ، يطلب منه أن يذكرهم بأيام الله
.
والأيام كلها أيام الله لكن هذه الأيام لها خصوصية إذ تجلت فيها قدرة الله
تعالى ، فنصر القلة المستضعفة ، وقصم الكثرة المتجبرة ، أو خذلها وردها
بغيظها . إنها أيام ربما سبقها يأس وإحباط واستسلام لظن المستضعفين أنه لا
قبل لهم بالفراعنة والطغاة .
وسرعان ما يقوم موسى عليه السلام ، خطيباً في قومه يذكرهم بيوم من أيام الله
عظيم ، يوم أنجاهم سبحانه من فرعون وجنوده ، وقد كان آل فرعون يسومونهم سوء
العذاب ويذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم . كي يستنهض هممهم ويقوي عزائمهم
للمهمة العظيمة التي ستناط بهم من بعد خروجهم من مصر.
ولا يكتفي موسى عليه السلام بهذا التذكير ، بل يجعل من ذلك اليوم العظيم
مناسبة سنوية يحتفي بها والمؤمنون معه ليترسخ المعنى ويتعمق في القلوب ،
فيصومه عليه السلام ويصومه قومه ، ويستمر الاحتفاء بهذا اليوم وصيامه حتى
زمان المصطفى عليه الصلاة والسلام ، فيسألهم عن صومهم يوم عاشوراء فيقولون :
" هذا يوم صالح ؛ هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى " ،
فيقول النبي عليه السلام : " فأنا أحق بموسى منكم " ، فصامه وأمر بصيامه.
والحديث في الصحيحين .
إن محمداً ، صلى الله عليه وسلم ، قد أمره ربه تعالى ، بما أمر موسى عليه
السلام ، كما جاء في السورة نفسها: ( ألر، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من
الظلمات إلى النور ..) سورة إبراهيم :1 . وإذا كان الهدف واحداً ،والبشر هم
البشر على اختلاف الزمان والمكان ، فلا بد أن يكون المنهج هو المنهج ،
والوسيلة هي الوسيلة ـ التذكير بأيام الله ـ وأهمها عاشوراء . يصومه المصطفى
عليه السلام ، ويأمر بصيامه ، بل يتحراه وينتظره ويستعد له كما يفعل لشهر
رمضان ، احتفاءً بهذه المناسبة العظيمة واستحضاراً لجليل معانيها .
والصيام خير معين للتفكر والتدبر والاستحضار فيما تعجز عن ذلك البطون المتخمة
، وانظر كيف قرن ربنا سبحانه بين صوم رمضان ونزول القرآن ، تأكيدا للتلازم
بين النفوس الزكية والقلوب التقية والعقول المتفتحة لاستقبال النور الإلهي .
فالقرآن الكريم مع أنه ( هدى للناس ) مؤمنهم وكافرهم إلا أنه لا يفيد منه إلا
المتقون ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) .
وحين يقرر النبي عليه السلام أن يصوم التاسع مع العاشر ، فليس ذلك مخالفة
لأهل الكتاب وتميزاً عنهم فحسب ، بل ـ وأيضاً فيما نرجح ـ لمزيد الاعتناء
بهذا اليوم والاستعداد له روحياً وذهنياً .
إن النفوس المستبشرة بنصر الله تعالى وفرجه ، الموقنة بقدرته المنتظرة لرحمته
، هي التي يُرجى تحقق الإنجازات على أيديها ، أما النفوس اليائسة المنقبضة
الكئيبة ، التي تبحث عن الحزن ومناسباته ، فليست بالتي يتوقع منها نصر ولا
تقدم ولا إنجاز . ولقد أمر الله نبيه أن يدعو المؤمنين فيتجاوزوا عن الذين لا
يرجون أيام الله : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله )
الجاثية : 14 ؛ فهم مساكين لا يزال يقعد بهم اليأس فيخشون التحرك للتغيير ،
ويخافون الفراعنة بل وربما عاونوهم ضد من يعملون لإنقاذهم ، وأساءوا إليهم .
ولعل ذلك المعنى الكبير ـ التذكير بأيام الله ـ هو الذي حدا بالفاروق رضي
الله عنه ، وكرام الصحابة في خلافته ، إلى اختيار حدث الهجرة منطلقاً للتأريخ
الإسلامي ، رافضين اتباع الروم أو الفرس ، ومؤثرين الهجرة على سائر المناسبات
النبوية الأخرى كالمولد والبعثة والوفاة .
فلقد كانت الهجرة مفصلاً هاماً في تاريخ الدعوة الإسلامية ، حيث تحول
المسلمون من جماعة مضطهدة مستضعفة ، إلى مجتمع ودولة ذات عزة ومنعة واستقلال
. كان الرسول عليه السلام ، حتى الأمس القريب يرى أصحابه يعذبون فلا يملك إلا
أن يدعوهم إلى الصبر واعداً إياهم بالجنة ، ثم هو بعد الهجرة يسيّر جيشاً إلى
عقر دار الروم في مؤتة رداً على قتل عملاء الروم لأحد رسله .
لقد خلّد القرآن الكريم الهجرة النبوية واصفاً إياها بالنصر لرسوله : ( إلا
تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ
يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) ، وهذا شبيه ما جرى لموسى عليه السلام ،
إذ كان البحر من أمامهم والفرعون بجنوده من ورائهم ، فأسقط في أيدي قومه
وأيقنوا أنهم مدركون ، فرد عليهم موسى بكل ثقة وإيمان : ( كلا إن معي ربي
سيهدين ) ، وقد كان .
إن كاتب هذه المقالة لا يقصد إلى الدخول في جدل حول شرعية الاحتفال بالهجرة
النبوية ، وليس مع جعلها عيداً أو عطلة رسمية، ولكنه يدعو حمَلة اللواء
لإخراج الأمة من الظلمات إلى النور ، ليكثروا من التذكير بأيام الله .