أحمد حامد الجبراوي ( المحامي )
الخرطوم — ٩ / ذو القعدة / ١٤٤٠ ھ
بسم الله الرحمن الرحيم
[ - الحضارة في الّلغة مأخوذٌة من الفعل حَضَرَ ، و هي عكس البداوة ، إذ
تعني : { الإستقرار و النمو } .
- و هي اصطلاحاً تعني : { مجموعة المظاهر العلميّة ، و الثّقافية ، و
الأدبيّة ، و الفنِّيَّة الإجتماعية الموجودة في مجتمع ما } .
و كل حضارة جاءت متمّمةً للحضارة التي سبقتها ، و تُسهم هذه الحضارات في
البناء الحضاري الإنساني للعالم بأكمله .
- و أما الحج كما جاء في " لسان العرب " فهو : { القصد } ، حَجَّ إلينا
فلانٌ أي قَدِمَ .
- و الحج : { قصد التوجه إلى البيت بالأعمال المشروعة فرضاً و سُنَّةً } .
- و هو : { قصد الكعبة لأداء أفعال مخصوصة } .
- أو هو : { زيارة مكان مخصوص ، في زمن مخصوص ، بفعل مخصوص } .
و هي عبادة عظيمة اشتملت على جملة من المقاصد و الغايات ، و من ذلك
اشتمالها على مجموعة من المعالم الحضارية ، و من أهمها :
١ - القِدَم في أعماق التاريخ و الإستمرارية :
كلما كانت الحضارة عميقة في جذور التاريخ و مستمرة كانت أقوى و أرسخ ،
و هو ما خصّ الله به هذه الأمّة إذ أورثها أقدم بيت في التاريخ :
( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا
وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ) آل عمران : ٩٦ ،
فهذه الأولية انتظرت هذه الأمة حِقَباً متطاولة تكريماً و تفضيلاً .
و بعد نيل الأمة لها استمرت على رعاية البيت و حراسته ، و ظل شامخاً عظيماً
يستقبل زواره و قاصديه على الدوام ، فهذا القِدَم و الإستمراية دلالة على
رسوخ الحضارة الإسلامية و عظمتها .
٢ - الإتصال بقيم التوحيد و العبودية :
فالحضارة لها مكونان : مادي و معنوي ، متى ما تأخر أحدهما انهارت .
فالجانب المادي واضح ، و أما المعنوى فهو اتصال البيت بعقيدة التوحيد في
أبهى معانيها :
( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ
بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) الحج : ٢٦ .
فالعقيدة هي المدد الروحي لاستمرار الحضارة الإسلامية و استدامة قوتها و
اتصال سيرها و ترابطها .
٣ - التواصل الحضاري :
إن تواصل الحضارة الإسلامية بالحضارات القديمة لَهُوَ عامل قوة و ثراء ،
فقد جمع الله حول البيت أعظم مكونين حضاريين للإنسانية و هما : حضارتا
الفرات و النيل ؛
ليجتمع الساميون و الحاميون في لقاء تاريخي بديع إذ يتزوج إمام الحنفاء
إبراهيم - عليه السلام - " الكلداني " القادم من العراق مهد أعظم الحضارات
الإنسانية بالأميرة النوبية هاجر التي تنتمي إلى
كوش بن حام بن نوح المنتمية لحضارة النوبة مهد الحضارات الإنسانية ؛
و تنجب الحضارتان جد العرب المستعربة إسماعيل - عليه السلام - و الذي يتزوج
من العرب المُساكِنِين له حول البيت .
هذا التلاقي الرائع أعطانا امتداداً و تواصلاً حضارياً بديعاً ليحقق عالمية
حَمَلَة الرسالة الخاتمة و الذين ينتمون إلى كل العالم القديم لتتحقق
إنسانية الرسالة و عالميتها ،
و البيت الحرام هو الرمزية العبقرية لهذا الألق و البهاء و الإشراق .
٤ - رسوخ مركز الحضارة على مدى الأزمان :
إن الحرمين الشريفين هما مركز الحضارة الإسلامية ، و من العجيب أنه فى
فترات ضعف و انهيار حكومات المسلمين فقد ظل هذا المركز محافظاً على قوته و
إلهامة غير متأثر بحالة الضعف التي تعتري مسيرة الأمة الإسلامية ؛
مع أنه في حالة إنهيار معظم الحضارات فإنه في الغالب تنهار مراكزها كما حدث
للحضارة النوبية و البابلية و الفرس و الروم ، فبمجرد إنهيار الدولة ينهار
المركز عدا هذه الأمة التي ميزها بمركز قوى لا ينهار أبد الدهر ، و هذا
مَعْلَمٌ حُقَّ للأمة أن تفاخر به .
٥ - رمزية البيت الحرام :
لقد ظلت الكعبة المشرفة من يومها الأول تمثل صرحاً حضارياً شامخاً لجميع
البشر ،
و هي حرم الله تشريفاً لمكانتها عند الله ، يقول الله تعالى :
( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً
وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ) آل عمران : ٩٦ .
و كانت حرمته قديمة و باقية عبر العصور ، فإن العرب في الجاهلية تعرف هذه
الحرمة و عظمتها ،
ثم جاء الإسلام لإبراز تلك الحرمة و بيانها و هي ميزات خالصة لهذا البيت
عند الله .
و كانت البيوت تُبْنَى قبل بناء إبراهيم - عليه السلام - الكعبة ، لكنها لم
تُبَوَأْ هذه المكانة في تاريخ البشرية ؛ بل لم تقاربها ،
و يلوح هذا المعنى بجلاء أكثر لو تأملنا قوله تعالى :
( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آمِنًا ) آل عمران : ٩٧ ،
فيه تنويه لبعض معالم حضارية خالدة في هذا البيت المبارك ، سَمَّاها (
آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) ،
إشارة إلى آثار محسوسة خلدها التاريخ ، منها :
الحجر الأسود ، و مقام إبراهيم - عليه السلام - و هما ياقوتتان من الجنة
كما صح بذلك الخبر ، و منبع زمزم و غيرها .
و تتصل الرمزية بوفود و مواكب الأنبياء و الرسل الحجيج إليه :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا ، مِنْهُمْ مُوسَى ،
كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ و َعَلَيْهِ عباءتانِ قَطْوانِيَّتانِ ، وَ
هُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ شَنُوءةَ ، مَخْطُومٍ بِخِطَامِ
لِيفٍ لَهُ ضَفْرَانِ ) حسنه الألباني في "صحيح الترغيب " ، فأَعْظِمْ بها
من رمزية وضاءة مميزة .
٦ - المساواة في الحج :
إن من أعظم المعالم الحضارية للحج أن الناسُ مُتساوون في أحكام الحج و
مناسكه من حيث الأصل ،
فليس لأحدٍ ميزة على الآخر ، ولا يختصُّ جنسٌ بحُكْمٍ دون آخر ؛
و لهذا لما زعمت قريشٌ في الجاهليَّة أنهم من أهل الحرم فلا يخرُجون من
الحرم إلى عرفة ، فكانوا يَقفون في مزدلفةَ ، أبطَل الله زعمَهم بقوله :
( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) البقرة : ١٩٩ .
و هذا جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - يُبيِّن كيف أبطَل الرسول صلى الله
عليه و سلم هذا الزَّعْم في وصفه لحجِّ النبي صلى الله عليه و سلم قائلًا :
( فسار رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ولا تَشكُّ قريش إلا أنه واقفٌ عند
المَشْعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسولُ الله صلى
الله عليه و سلم حتى أتى عرفة َ، فوجد القُبَّة قد ضُربت له بنَمِرة َ،
فنزل بها ، حتى إذا زاغتِ الشمسُ أمرَ بالقَصْواءِ فرُحِلَتْ له ، فأتى
بطنَ الوادي ) أخرجه مسلم ،
فيَتبيَّنُ من ذلك أنه لا فرقَ بين قبيلة و أخرى ، أو بين جنسٍ و آخرَ في
أحكام النُّسُك .
هكذا تتجلَّى مظاهرُ المساواة في هذا المَشعَر العظيم ، حيث تجتمع وفودُ
المسلمين من شتَّى أنحاء المعمورة ليرجعوا إلى ديارهم عاملين بمقتضى هذا
المبدأ العظيمِ في الإسلام .
و لعلَّ هذا سرُّ إغتنام النبيِّ المصطفى صلى الله عليه و سلم هذه الفرصةَ
الثمينةَ لإرساء دعائمِ هذا المبدأ العظيم في خطبته في حجة الوداع ، حينما
خطب في الصحابة قائلًاً :
( يا أيها الناس ، إن ربَّكم واحد ٌ، و إن أباكم واحدٌ ، ألا لا فضلَ
لعربيٍّ على عجمي ، ولا عجميٍّ على عربي ٍّ، ولا أحمرَ على أسود َ، ولا
أسودَ على أحمرَ ؛ إلا بالتقوى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ ) ، ألا هل بَلَّغْتُ ؟ ،
قالوا : بلى يا رسول الله ،
قال : فلْيُبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده .
فما أعظمها من مشاعر حضارية تميزت بها أمتنا و ضاعت تحت أقدام مدعي التطور
و التحضر اليوم فبئست إنسانيتهم و خسئت إدعاءاتهم .
٧ - الإهتمام الرسمي و الشعبي بشعيرة الحج :
ظلت الأمة حكاماً و محكومين ترعى عبودية الحج و مقدسات الأمة أتم الرعاية
محبةً و حمايةً و تطويراً و ذلك منذ آماد بعيدة و حقب متعددة .
و مع تزايد الحاجة و تطور الحياة إزداد الإهتمام بالحرمين ليواكب ذلك أشد
المواكبة ،
و خلال العقود الثلاثة الماضية إلى الوقت الراهن يشهد هذا الحرم المبارك
توسعات كبيرة تشمل المشاعر كلها ،
تبرز جهود المملكة العربية السعودية في تفاعلها المتزامن مع معطيات العصر
الحضارية ، و تستغل تقنيات مدنية جديدة ، و وسائل حديثة ، لتسهيل أداء
المناسك على الحجاج .
هدفها إظهار الجانب الحضاري لهذا الدين و أهله ، و تعامل المسلم مع
المعطيات الحضارية و الثمرات العلمية و التقدم المدني في كل مناحي الحياة .
أبرز هذه المظاهر الحضارية الحديثة :
روح التعاون و الإستجابة لمتطلبات ظروف الحج لدى المسلمين ،
و مساعدة الأجهزة الأمنية على تقليل الأخطاء ،
و الإلتزام بالأنظمة و الإستجابة للقوانين ،
و استخدام وسائل النقل من قطارات و سيارات بالطرق السليمة ،
و الترفق في الزحام ، و الحرص على النظافة ، و إعطاء الطرق حقها ،
كلها مظاهر حضارية تليق بالمسلم الذي يستمد منهج حياته من دينه ما يصدر عنه
من أخلاق تنشر السكينة و الإطمئنان .
و الجدير بالذكر أن السودان نال شرفاً من ذلك في كسوة الكعبة ، و محمل
الكعبة ، و إطعام الحجيج .
٨ - إجتماع الأمة و مظاهر الوحدة :
و هي من أعظم المعالم الحضارية ، فلا يشبه إجتماع المسلمين في عبودية الحج
و إنتظام المشاعر للقاصدين خاصة و لغيرهم إجتماع آخر البتة ،
و هو دلالة على عظمة هذا الدين و شعبه لتقريب الأمة و حثها على مظاهر
الوحدة و الإعتصام ، و البعد عن الخلاف ، و هو مظهر مدني متحضر عبودي متجذر
، قال تعالى :
( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ ) آل عمران
: ١٠٣ ،
و قال :
( ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ
مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا
مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا
ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِين َ) الحج : ٣٢ - ٣٤ .
فكل ما يتصل بعبادة الحج يصل الأمة بضرورة الإعتصام و الوحدة ؛ فالإله
الواحد و القرآن المتلو و الرسول المتبع و القبلة الواحدة و وحدة الشعائر و
المشاعر و المناسك و توقيتاتها و غيرها .
و عليه ؛ فإن هذا الإجتماع المبارك ينبغي أن يُسْتَغَل للمزيد من تعميق
أواصر الإخاء الإيماني ، و تقريب وجهات النظر ، و تمديد وسائل التحاور بين
علماء الأمة و منظوماتها و منظماتها و دولها ،
و وضع إستراتيجيات كلية للمزيد من الإلتقاء ، و تجسير الهوة ، و التصدي
الجمعي لمظاهر الفرقة و الشتات ، فما يجمع الأمة أقوى و أعمق و أكبر مما
يفرقها .
ختاماً :
فهذه إلمَاحَات عامة و مختصرة عن بعض المعالم الحضارية_لعبودية الحج
سائلين الله أن يسلم الحجاج ، و يشملنا معهم في الأجر و الثواب ، و يجمعنا
بهم في تلك البقاع الطاهرة .
و الحمد لله رب العالمين ] انتهى .