بسم الله الرحمن الرحيم
( ١ )
يعقد بعض الناس حرباً بين الحفظ والفهم في أحد مضمارين : إما مضمار العجز ،
وإما مضمار الرأي المبني على الحجج - قوية كانت أو ضعيفة - والمضمار الأول له
سوق عند صغار الطلبة ، ومتكلفي العلم ، والثاني يقول به بعض من لهم باع في
العلم وقدم ، وحظ منه ليس ينكر ..
قد يقال : لا يهم من يقول بذلك ، فنحن أمام قول علينا أن نزنه بميزان العلم ،
ونعرضه على نار النقد ، فيتبين لنا صحته من زيفه !
نعم .. هذا هو الأصل ، لكن من المهم أن يتبين أن بعض الآراء لم تنشأ في أرضية
علمية ، بل نشأت في أرض عجز وجهل ، فلابد من كشف ذلك وبيانه !
وإنما نحن هنا في مقام نقاش الآراء المبنية على الاجتهاد السائغ ، ولا حيلة لنا
فيمن ذريعته العجز !
( ٢ )
القراءة والتأمل حفظ مصغر ..!
نعم .. إن الحفظ نشأ عن تكرار لعرض المادة المحفوظة على الذهن ، ألا ترى أنك
إذا كررت قراءة نص عدة مرات .. حفظتَه ؟!
قدرٌ من الخلاف لفظيٌّ .. ألا تلاحظ ذلك أخي القارئ ؟!
( ٣ )
ذكر الجاحظ في رسائله من مضار الحفظ : أن الحافظ يتكل على محفوظه !
وبيانه : أنك إذا سألت حافظاً عن شيء في المادة التي يحفظها ، وقف ملياً ريثما
يسترجع حفظه فيخبرك بالجواب .. إذن .. الحفظ - عنده - مبطٍّئ للاستحضار ، بل
ربما نسي الحافظ حفظه ، فبقي صفر اليدين ..!
( ٤ )
سل " بعض " من يقول لك : لا تحفظ متناً فقهياً .. عن مسألة في كتاب الإقرار ،
وانظر إلى ساعتك واحسب الوقت الذي دامت فيه حمرة " الخجل " على وجهه ، وأنصحك
بإحضار آخر فصلٍ من كتاب الجنائز من زاد المستقنع والذي يقول فيه الحجاوي : (
ويسن تعزية المصاب بالميت ) ؛ لتشتغل بحفظه ، ولا مانع من أن تحضر باب "
النّدبة "من ألفية ابن مالك ، لتأتي على آخره قبيل رجوع وجه صاحبك إلى حالته
الطبيعية ؛ فإنه بابٌ ليس بالطويل!
( ٥ )
أحقاً ما يقال : الحفظ مضيعة للعقول الفذة ؟
قيل : أضاع من يحض على الحفظ كثيراً من العقول التي كان حقها أن تبرع وتنبغ ،
بأن جعلها تجلس في الصفحة الواحدة الوقتَ الطويل ، ولو أنه فسح لها مجال
القراءة في هذا الوقت لأنجزت عشرات أضعاف ذلك !
( ٦ )
يقول : احضر لي شخصاً حافظاً ، وآخر لم يحفظ ، لكنه قرأ بتأمل ، ووازِن بينهما
، ثم أعطني النتيجة !
نعم ، سأفعل يا صاحبي ، لكنك لم تعدل في القضية !
الحفظ وسيلة غير مقصود لذاته ، فإذا ما أردت الموازنة فائتنا باثنين قد حصَّلا
الغاية .. ائتنا بحافظ فهم ما قد حفظه ، وآخر فهم ولم يحفظ ، ثم أعطني النتيجة
أنت !
وما سوى ذلك حيفٌ !
( ٧ )
" حمار الفروع " .. ظلموه !
ذكروا أن رجلاً كان يحفظ كتاب الفروعَ لابن مفلح - والذي سماه ابن رجب : "
مكنسة المذهب " - وقد كان هذا الرجل لا يفقه منه شيئاً ، إلا أنهم إذا أرادوا
نصاً من الفروع سألوه فأجابهم ، فسموه " حمار الفروع " ؛ لأنه يحمل نصوصاً لا
يفقه منها شيئاً ، أشبه الحمار يحمل أسفاراً ، قالوا : وهذا قياس صحيح ، اكتملت
شروطه .
يبقى أن أخبرك أن القصة لا خطام لها ولا زمام ، فلا تثبتُ ، لكني ذكرتها كي
أرسم لكصورةً من صور التعلق بالقش !
( ٨ )
أيها الحافظ : لا تظنن أن مهمتك بعد الحفظ انتهت !
قال الإمام أحمد لبعض أصحابه : ( فقه الحديث أشق من حفظه ) .
ما يراد لغيره إذا قصَّر عن الأداء إلى ذلك الغير .. لا قيمة له .
( ٩ )
هل يمكن أن يكون ما جرى عليه العلماء على وجه الدهر من الحضِّ على الحفظ
والترغيب فيه مجردَ تجارب يجوز عليها الخطأ والصواب ؟!
ما نقرأه في تراجم المتقدمين من قولهم : ( وحفظ كذا ، ولم يبلغ إلا وقد أتقن
كذا ، كان آية في الحفظ ) .. كلُّه تجارِب مُحتملة ؟!
( ١٠ )
الحفظ غرور !
قال : رأيناهم يقولون : نحفظ الكتاب والسنة ، فإذا نظرنا في قلوبهم رأيناها قد
تفحمت سواداً ، وإذا بحثنا عن أعمالهم ألفيناها مكسوة بأردية الرياء ، وتأملنا
تصرفاتهم فلم نجدها تنفك عن كبر وعُجب !
صبراً يا أخي .. هذه آفة تطرأ على من حفظ ومن لم يحفظ ، فليست هي إذن من خواص
المشتغل بالحفظ ، بل أزيد : ليست هي من خواص طلبة العلم أصلاً ، فهو داء منتشر
، في طلبة العلم وغيرهم ، من حفظ منهم ومن لم يحفظ ، لكن إن قلت : إنه قد يحفظ
مئات الأحاديث مثلاً بغير فقه ثم يدعي العلم ؛ اغتراراً بكثرة محفوظه ، فقد
أتفهم كلامك ، فإن سلمت لك به فهو شاذ نادر ، لا يقضى به على العام الغالب !
( ١١ )
لماذا نحفظ ؟!
إن قراءةً واحدة لنص ماً بتدبر وتأمل من صحيح الذهن تكفل له التحدث عن مضمونه
بيسر ، لكن لن يبقى ذلك معه مدة طويلة ، فإذا أردنا زيادة هذه المدة لجأنا
للحفظ ، فالحفظ إذن عبارة عن مولِّد لمجموعة مددٍ لاستحضار النصوص !
( ١٢ )
تساؤلٌ بريء : نبحث عن نماذج برعت " ليس لها حظ ٌ" من الحفظ ، فلا نجد ! لِمه
؟!
( ١٣ )
هل يُضعف الحفظُ ملَكة الاستحضار ؟
الحق أن هذا سؤال محتاج إلى تفصيل ، وإطلاق القول بـ " نعم " أو " لا " فيما
حقه التفصيل غلطٌ ؛ فإن ما حقه التفصيل يفصل فيه ، فنقول :
إن الحفظ على قسمين :
فالأول : حفظ للألفاظ فقط ، وهو على نوعين :
أ. حفظ بلا فهم للمعنى أصلاً ، كمن يحفظ نصاً بلغة لا يفهمها ، أو متناً في علم
لم يدرسه أصلاً ، أو منظومة لم يستشرحها .
ب. حفظ بفهم للمعنى ، مع غفلة عنه عند التكرار - لأجل الحفظ - وهذا أحسن حالاً
من سابقه .
والثاني : حفظ للمعاني مع الألفاظ ، وفي هذا يكون الحفظ مقترناً بفهمٍ للمعنى ،
واستحضارٍ تام له عند التكرار .
فأما القسم الأول ، فإن صاحبَه مخوفٌ عليه ضعفُ استحضار حفظه ؛ إذ أنه لا يكرر
إلا الألفاظ فقط ، وأما المعاني ، فهو إما في عدم علم بها ، أو غفلة عنها ، إلا
أن النوع الثاني من القسم الأول ( = وهو من يحفظ بفهم مع غفلة عن استحضاره عند
التكرار ) أحسنُ حالاً من الأول ؛ إذ أنه يبعد ممن فهم المعنى أن ينفك عن شوبٍ
استحضار .
وأما القسم الثاني ، فإن صاحبه يكرر المعاني حتى ترسخ في ذهنه .. كما أنه يكرر
الألفاظ ، وكما أنه زاد مدة استحضار الألفاظ - كما قدمنا - فإنه زاد مدة
استحضار المعاني .
والطريقة الأولى في الحفظ أضبط للنص المحفوظ ، ولا ينبغي أن يُنكر أنها أسهل
عند بعض طلبة العلم .
( ١٤ )
الشناقطة والحفظ !
يا لَلله لِلشناقطة ! كم كان انكبابهم على الحفظ واشتغالُهم به سُبَّة لهم عند
بعض الناس !
ومع ذلك رأينا منهم العلماءَ الأفذاذَ ، لكن هل كان مقدار المحصول متناسباً مع
كمية البذور ؟!
إن كان ثم تفاوت فهو إشكال مرجعه إلى جعل الحفظ غاية لا وسيلة ، وهذا ما لا
نوافق عليه !
( ١٥ )
هل يُقيِّد الحفظُ صاحبه ؟
قدَّمنا أن إطلاق الكلام في مثل هذه المسائل لا ينبغي ، فلابد من تفصيل القول .
إن الحفظ له سلطان على النفس وسطوة ظاهرة لا تُنكر ، وهذا شيء ليس بالغريب ؛
لأن الإنسان مجبول على حب الشيء الذي صحبَه المُددَ الطوال ، فالحافظ صحب النص
المحفوظ وألفاظه مدة ليست باليسيرة ؛ تقلب معه من حين القراءة الأولى ، ثم
تكراره لأجل الحفظ ، ثم مراجعته ، فهل ترى أن العلاقة الطويلة هذه بين الحافظ
والمحفوظ ستذهب سدى ؟! كلا !
تظهر آثار الحفظ في صاحبه على أشكال متنوعة ، أصلُها هو : محاولة توظيف المادة
المحفوظة ، فتجد الحافظ مكثرٌ مرة من استعمال ألفاظ محفوظه ، وأخر من تكرار
استخدام معانيه ، وربما تقيد بها في بعض المواضع ، إلى غير ذلك من أشكال التعلق
!
أعطيك مثالاً ليتضح ما وصفتُه لك !
هل جربت مرة أن تأخذ كتاباً من كتب الفقه ، وتحفظ منه باباً معيناً ؟!
جرِّب ذلك ، ثم حاول أن تصوغ الباب من فهمك ، ستجد نفسك ميَّالة إلى التزام
نصوص المؤلف - وإن بشكل يسير - وترتيبه للأفكار ، بل ربما نقصت من القيود
المهمة ما نقصه ، وزدت مما لا يحتاج إليه من القيود ما زاده !
فإن قيل : إذن الأَولى ترك الحفظ ، إذا كانت هذه آثاره !
قلت : لا يا صاحبي .. ألا تذكر ما قدمتُه لك من الغرض من الحفظ ؟
تقدم أن الغرض منه بقاء المادة لمدة أطول ، فلا نعدو به قدره إذن !
دعنا نأخذ منه ما نحن استعملناه لأجله ، ونترك ما سوى ذلك ، كيف ؟
على الحافظ ألا يكتفي بمسار واحد في إتقانه للمحفوظ ، فعليه أن يقرن إليه - إن
رام الضبط - مساراً آخرَ ، وهو ضبط المعاني بطريقة أخرى ، كأن يستخدم الخرائط
الذهنية ، أو التقاسيم ، أو الجداول ، أو صياغته بطريقة جديدة مباينة لطريقة
عرض المادة المحفوظة ، أو غير ذلك من المسالك المسهلة للتصور !
فإذا اجتمع لديه هذان الأصلان ( = وهما : الحفظ ، وتصور المعاني وفهمها بطريقة
أخرى غير الحفظ ) كان لفهمه واستحضاره قوةٌ لا تحصل لمن اكتفى بواحد منهما !
( ١٦ )
بين الحفظ المتقَن والمتهالك !
تجد كثيراً من يعترض على الحفظ ، ويضرب أمثلة لحفظ لم تجتمع فيه الشروط الكافية
لما نطلق عليه اسم " الحفظ " ، فإن كثيراً من الناس يدعي حفظ القرآن مثلاً ،
فإذا قلت له : مستعدٌ للاختبار ؟ قال : لا !
فليس هذا محل بحثنا ، لأن حفظَ هذا كعدمه ، وإنما نبحث فيمن إذا استدعى حفظه
حضر ، فهو الذي به يُحاجّ من ينصر مذهب الحفظ !
( ١٧ )
ثمة قدر من الحفظ لا ينبغي أن يكون فيه خلاف ، وهو حفظ ما يُحتاج إلى لفظه ،
ولا يصلح أن يروى بالمعنى كحفظ القرآن ، ومنثور كلام العرب ومنظومه .
( ١٨ )
الحفظ يشغل صاحبه عن مقصوده بما لا يعود عليه فيه بنفع ، وبهذا اعترض أبو حيان
على بعض المتون حيث قال : إنه لم ير قط أعصى منه ولا أصعب ، فتضيع السنون في
محاولة فهمه وفك غامضه ، مما يزاد الفن صعوبة ، ولولاه لكن نيله سهل متيسر !
وجواب ذلك : أن هذا راجع إلى إشكال في المادة المحفوظة ، لا إلى الحفظ نفسه ،
فتأمل !
( ١٩ )
طالبَ العلم .. احفظ وافهم ، فإلا تفهم .. فلا تغضب من قولهم عنك : " صمَّام "
، ، وإلا تحفظ .. فوصفهم لبنائك بالضعف غيرُ مستنكر ..!
( ٢٠ )
الحفظ والفهم توأمان سياميَّان قلبُهما واحد ، ففصلهما متعذِّر ..!
8 / 8 / 1435 هـ