أيها الموحد –
في فترة ماضية كنا نعيش في ظل استثمارات متنوعه في البلد، ورغم ذلك أتقنا
التقليد في الاستثمار ، حتى إذا فتح احدهم محلا للتسويق، أو صالونا للحلاقة في
احد الشوارع التجارية ولاقا نشاطه،إلا وتجد الأكثرين يحتشدون بالمحلات المماثلة
، وليست المسألة كما يفسرها البعض نوعا من الحسد بل هو نوعا من الافتقار الأكيد
للأفكار الاستثمارية ، ولا يلام المرء في البحث عن الثراء، فكلنا يسعى لتطوير
قدراته وإمكاناته المادية ، وكلنا يسعى للهروب من شظف العيش ، وقد يمضي عمر
الإنسان والسؤال معلق على شفتيه كيف أحقق الثراء ؟! حتى جاء سوق الأسهم ببريقه
الخادع -- وجاءت طفرةٌ في عالم الأسهم هبّت رياحها على هذه البلاد ، وتُوِّجَ
العام الذهبي قبلَ المنصرمِ بارتفاعٍ في الأسهم لم يسبِق له مثيل ، وبلغتِ
القيمةُ السوقيةُ بخاناتِ تِلِرْيون بعد ما تجاوزت المليارات ، ودخل في هذا
السوقِ من الناس الكثرةُ الكاثرة ، لقد دخلت حمّى المضاربة فاجتاحت المجتمع ،
حتى صارت حديثَ البيوتِ والرجالِ والنساءِ وطبقاتِ المجتمع من الأغنياء ومتوسطي
الدخلِ وحتى الفقراء ، وصارت الشاشاتُ فتنةً للناس ، وأصبحَ التشاؤم في اللون
الأحمر والتفاؤل في اللون الأخضر ، ويشهد المجتمعُ ظاهرةَ التعلّقِ المحموم
بهذه الأسهم والاهتمامِ الشديد بها ، حتى طغت على أداءِ الحقوق وأشغلت الناس عن
الموازنة في الدخول لذلك --
أخي بارك الله فير رزقك --
اسمح لي أن أسدل الستار عن بعض الغرائب والعجائب التي تحلى بها بعض المساهمين
في سوقنا ، وهؤلاء من نعرفهم ويعيشون بين أظهرنا -
وقد تجنبت من خلال ما ستقرأ ، بعض المواقف والغرائب الصحيحة ، لأنها تمثل الصور
المثالية أو الشاذة وتكون بعيدة عن الواقعية –
وتوضيحي لذلك ليس من باب المعاتبة ، وليس من باب التوبيخ والاستشفاء ، فيكفي أن
بعض المساهمين مرهق بأزمة الانهيار ، لكن ارجوا أن لا يكون ذلك مانعا في توضيح
وتبيين العبر—
وأي حدث يمر به المسلم ، ينبغي أن يقوده للاتعاظ والإعتبار ، واقتناص فرائد
الفوائد من مكنوناته وأسراره --
وحسبي من ذلك الإصلاح ، وإضاءة الدروب وإنارة العقول وتبصير البصائر --
وكم نعمة مقرونة ببلية على الناس تخفى والبلايا مواهب
أُخي /
كان اغلب الناس في فترة مضت لا يعرفون سوق الأسهم ، ولا يفهمون تحليلاته
وأسراره وأغواره ، وقد كان أهل الخير الذين يقومون بحلق التحفيظ والمؤسسات
الخيرية يعلنون لبعض الناس أبواب الصدقات والمساهمة في دروب الخير، فتجد ردود
الفعل من بعضهم (( اتقوا الله فينا ، ليس معنا إلا ما يكفينا من قوت يومنا ،
وعلينا التزامات لا تساعدنا في الاستجابة لمطالبكم ))-
وعندما حصل الانهيار، وفاحت رائحة الدمار، وحصحص المال السليم من الضار ، حصلت
الاعترافات من هؤلاء ، فخرج ذلك الذي انزعج من فتح أبواب الخير لديه ويقول بأن
خسارته أكثر من عشرة ملايين ريال، وكان ذلك جميع ما يملك ،
والأدهى والأطم أن بعض هؤلاء ، هم من الذين اعترفوا بعدم زكاة أموالهم في
السنين الماضية --
وهذا مانطق به احد المتمسكنين منهم ، ( يقول كان لي 800 ألف ريال ، وكلما أردت
الزكاة كان ذلك صعبا على نفسي ، والآن ليس في محفظتي سوى 74 ألف ريال ثم ينهي
كلامه بقوله ( هذه عقوبة من الله عز وجل ) --
وهذا أحدهم ، وهو فوق السبعين من عمره يقول ( حسبنا الله على فلان الفلاني )
قلنا له لماذا ؟ قال أعطيته 50000 ريال من أجل أن يشغلها في محفظته ، فهرب بها
ولم يعطني أي ريال من الأرباح ، ثم يقول متحسرا ( والله أنني جمعت هذه الخمسين
ألف ريال -- ريالا – ريالا-- حتى الزكاة لم أخرجها منها طوال السنين الماضية -
وعنما رُويت قصة هذا الشيخ الكبير على أحد المعلمين الذين لهم ثلاثين عاما في
حقل التعليم -- قال : حتى أنا مثل صاحبكم لا أخرج الزكاة -
قال الله تعالى --
يمحق الله الربا ويربي الصدقات -
و يروى أن امرأة كانت توصي زوجها عندما يخرج للعمل وطلب الرزق فتقول له "يا هذا
اتق الله فينا : إنا لنصبر على الجوع ولا نصبر على النار" .
فلا بارك الله في مال يجلب الشقاء يوم يقوم الأشهاد -
ومن العجائب الأخرى --
أنك تجد في الفترة الماضية من تشبع بطفرة السوق ، حتى زاد رأس ماله ، وتحسنت
أحواله ، فصِنفٌ أظهروا نعمت الله عليهم بالشكر والتواضع ، والبذل والإنفاق ،
وآخرين بدأ منهم من يترفع عن مخالطة أقرانهم ، ومخالطة الناس ، لأنه يرى بأنه
من قائمة ما يسمى (( بالهوامير )) ، فأظهر الكبر ، وتفاخر وتباهى ببيعه وشرائه
وأرباحه ، من أجل أن يسهم في رفع مكانته في مجتمعه ،،
وما إن ظهر الانهيار،إلا وتجد رأس من هذا ديدنه يطرق ويعود إلى حاله القديم ،
أو أسوأ من ذلك ، معترفا بمشهده الصامت (( أن التواضع هو حلية المؤمنين )) -
يقول الأحنف بن قيس ---
عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر -
فيا مظهر الكِبرِ إعجاباً بصورته *** انظر خلاءك إن النتن تثريب
لوفكر الناس فيما في بطونهم *** ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
وصدق عمر بن الخطاب عندما قال –
ما وجد أحدٌ في نفسه كبراً إلا من مهانة يجدها في نفسه -
وقد قال سيد المتواضعين صلوات ربي وسلامه عليه ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال ذرة من كبر )-
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا
وضعه " [ رواه البخاري ] وهذا أمر ثابت عند الله تعالى أن لا يرتفع شيء من أمور
الدنيا إلا وضعه الله وحطّه وطرحه ، وذلك لماذا ؟! لهوان الدنيا على الله
والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة فيها، وحتى يتعلم الناس أن الدنيا لا تدوم
.
ومن العجائب أيضا --
أن أناس عظموا البخل والطمع في نفوسهم ، فالأرصدة ممتلئة بالنقود ، والمحفظة
مخزونة بالأسهم ، لكنهم أحجموا عن الإنفاق بالمعروف على زوجاتهم وأولادهم ،
وقطعوا الوصال عن أرحامهم ، ونسوا العلاقة مع الفقراء والأيتام ، وأقتروا على
أنفسهم حتى أن حال سيارة وملبس ومنزل كل واحد منهم أشبه بحال من لا يجد قوت
يومه ، وبين عشية وضحاها ينهار السوق ، وتحصل الخسائر ، فيكون أول الشاكرين لله
على ذلك ، الزوجة والأولاد ، بسب سيطرة البخل والإقتار من والدهم -
قال تعالى ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما
محسورا )
وذي حرص ٍ تراه يلُمُّ وفرا *** لوارثه يدفع عن حماهُ
ككلب الصيد يمسك وهو طاوٍ *** فريسته ليأكله سواهُ
وقد قيل في المثل / بشر مال البخيل بحادثٍ أو وارث--
ومن العجائب أيضا --
أولئك الذين ساد الطمع عليهم ، حينما رأوا بريق الأرباح يكثر في السهم الحرام ،
فأصبحوا لا يملكون الشعور بحلال أو حرمة الشركة ، حتى اختلط الحابل بالنابل ،
وحصلت الخسائر مع اكتساب الكبائر --
جمع الحرام إلى الحلال لكُثرهِ **** جاء الحرام على الحلال فبعثره
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (( يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ
المال أمن حلال أم من حرام)) رواه البخاري -
يقول الله تعالى ( يمحق الله الربا ) -
والمتأمل في واقع بعض المساهمين بعد انهيار السوق ، يجد بأن أولئك الذين يتحرون
الحلال ، هم أكثر الناس ثباتا واحتسابا ، لأنهم مؤمنين بقضاء الله وقدره
فحالهم كما قيل -
أحزم الناس عاقلا **** لمس الجرح فابتسم
ونجد بأن آخرين يفيقون من رقدتهم ، ويلومون أنفسهم بأنهم ارتكبوا كبيرة الوقوع
في الربا ، ثم بعد ذلك نُسفت ومحقت ، فلا هم سلموا من الخسائر ولا الوقوع في
الربا --
قال الرسول صلى الله عليه وسلم / لعن الله آكل الربا ) -
وما أوقع أولئك المساكين إلا الطمع ، وعدم القناعة ، والقناعة أعظم كنز ، وإذا
رزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة .
ومن جميل ما يروى لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- :
أفادتني القناعة كل عز *** وهل عز أعز من القناعة
فصيّرها لنفسك رأس مال *** وصيّر بعدها التقوى بضاعة
تحز ربحا وتغنى عن بخيل *** وتنعم في الجنان بصبر ساعة
وقال الشافعي رحمه الله :
رأيت القناعة كنز الغنى *** فصرت بأذيالها ممسك
فلا ذا يراني على بابه *** ولا ذا يراني به منهمك
وصرت غنياً بلا درهم *** أمرّ على الناس شبه الملك
ومن العجائب أيضا --
انسياقنا خلف بريق لمعان الأرباح التي تصدر من المحافظ الإستثمارية ،، فالكثير
منا من لُدِغ ، والمؤمن لا يلدغ من جحره مرتين ، والمعضلة بأن منا من يُلدغ
مرات عديدة ، ويتناسى آثار ذلك ، عند طغيان الفترة التي تعطي النشوة بكثرة
المال ، فيبدأ -- ويعود على حاله الأول من ضياع المال ، بسبب الثقة العمياء
التي لا حت على ناظريه -
والغريب والمحزن أن مليارات من المواطنين انقرضت ، وكأنها لم تكن ، بسبب تصرفات
حمقى من أولئك الذين خدعوا الناس بكثرة أرباحهم ، والتظاهر بأمانتهم وصدقهم ،
حتى اصطلى بنار هذا الخداع ضعفاء ونساء ودخل فيها أموال مساكين ويتامى وأرامل
وأيامى ، طلباً للرزق الحلال وتغطية للتكاليف الأسرية ، وسدادا للديون
السابقة--
ولكن لا نقول إلا حسب من خدع الناس وحسب من فقد ماله الله ونعم الوكيل -
ولكن كما قيل –
إذا خانك أحدهم مرة ً ، فالذنب ذنبه ،،،
وإذا خانك مرة ثانية ، فالذنب ذنبك ،،،
ومن العجائب أيضا --
ما أخبرني به أحد الوسطاء في إحدى المحافظ الإستثمارية التي لجأ مشغلها إلى
التسهيلات البنكية ، من أجل أن يزيد رأس ماله الذي قدر بأكثر من خمسمائة مليون
على الأقل ، وبعد الإنهيار لجأ البنك إلى بيع الأسهم من غير علم صاحب المحفظة ،
حتى بقي 10% من رأس المال ( وكان من ضحايا هذا التصرف إحدى القرى الصغيرة الذي
بلغ رأس مال هذه القرية عند هذا المشغل أكثر 60 مليون ريال وهي حصيلة بيع
للأغنام والممتلكات ، و بيع الذهب للنساء ، والأدهى من ذلك أن بعضهم غرق في
الديون وليس لديه إلا الضمان الإجتماعي -
وآخر في أحد القرى ، يملك عشرة ملايين في محفظته ، ولما رأى بأن السوق منتعش
لجأ إلى التسهيلات البنكية من أحد البنوك بأخذ قيمة مماثلة لما يملك ، ولما حصل
الإنهيار ، أخبروه البنك بأن المحفظة يحتاج إلى تغذية ، فأخذ من أحد أبنائه 400
ألف ، ولما جاء يوم آخر ، أشعروه البنك بأن المحفظه تحتاج إلى تغذية ، فأخذ من
ابنه الآخر مبلغا من المال ، لأن البنك يهدده بسحب رأس ماله ، وبعد ذلك باع
كايملك لتغذية المحفظة ، وفي الأخير سحب البنك رأس المال ، ويبقى هذا الرجل
مستدينا من البنك فوق ذلك ، وهو الآن في حالة بئيسة من الأمراض ، والإنفعالات
العصبية ،، وغيره كثييييير ، وما خفي كان أعظم -
ومن العجائب أيضا --
أن أناسا ضيعوا أسسا متينة في حياتهم ، من أمورٍ دعوية وعبادية ، وتربية
للأبناء ، وفقدوا التوازن بين هذا وذاك ،، وكانت النتيجة أن ذاقوا ألم حسرة
التفريط ، وألم الإنهيار -
والعجائب والغرائب مليئة في هذه الأزمة ، فمساهمين أصيبوا بالنوبات القلبية ،
والهوس والجنون ، وبمرض الضغط والسكر ، ويقول أحد أخصّاء الطبّ النفسي: "إن
العيادات النفسية انتعشت كثيرا خلال الأيام الماضية ، واستقبلت حالات من ضحايا
القلق والاكتئاب والتوتّر والانهيار العصبي"، ويذكر أحد الإخوة في الصيدليات
أنّ الإقبال شديد في هذه الأيام على أدوية القلَق والاكتئاب النفسي والمهدئات –
ومما يزيد العجب امتداد موجة هبوط الأسهم لتقضي على أربعة مواطنين نتيجة
تعرّضهم لأزمة قلبية بعد انهيار رؤوس أموالهم بين عشية وضحاها ، وآخر قتل
صديقَه رميا بالرصاص بسبب اختلافهم في مبالغ نقدية في إحدى المحافظ
الاستثمارية-
ومن العجائب أيضا أن أناسا باعوا ممتلكاتهم ، حتى أن احدهم أخرج أهله وأبناءه
من بيته الجديد ، واستأجر بيتا آخر ، ووضع قيمة المنزل ، ومبلغ التقاعد في سوق
الأسهم ، وفي النهاية يعيش في هذه المدة في حالة شبيهة بالفقر ،
وآخرين قدموا على التقاعد المبكر ، وبعضهم فصل من الوظيفة ، وبعضهم فصل من
دراسته ، وحصل انهيار السوق وشعروا بأن الفأس وقع في الرأس ، وعرفوا بأن
الوظيفة إن حصل عليها الإنسان فإنه لا يفرط فيها مهما كان الأمر ،،
وبعض الشباب أوعد بزواجه في الصيفية القادمة ، وبين لحظة وأخرى تتبدد الآمال ،
وتزداد المهام ، ويضطر بذلك إلى تأخير الزواج –
وأما حال بعض المساهمين مع الصلاة ، فهو حال مبكي ، وأمر محزن ، ولن أذكر لكم
بعض العجائب التي حصلت من بعض الناس في ذلك ، تقديرا لمكانه هذا الركن العظيم ،
ولكن يكفي أن أذكر بقول الله تعالى ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار )-
ومن العجائب أيضا –
بث الطمأنينة والثقة في السوق لدى المجتمع ، وبعد ذلك ينقلب السوق رأسا على عقب
، من غير مسوغات اقتصادية --
حصل ما حصل ، وما خفي كان أعظم ، والعبرة أن نعتبر ، ونوضح ذلك لأجيالنا
ومجتمعاتنا ، حتى لا يقعون كما وقع غيرهم -
ونحن لا نعترض على قدر الله عز وجل ،،
فما حصل من الإنهيار ، هو بإرادة الله عز وجل وحكمته ، ،
وعلى العموم --
يجرى القضاء وفيه الخير نافلة *** لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرح أو نابه ترح *** في الحالتين يقول الحمد لله
ولعل في هذه الحادثة دعوة إلى التعقل والتوازن وتنويع التجارة والاستثمار لئلا
تتعطل مصالح المسلمين أو تذهب أموالهم هدراً وهباءً في يوم وليلة-
ولا يفوتوني أن أذكر نفسي وإياك بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حسنه
الألباني ( وإن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها )