إنه الإذلال ... بكل ما في هذه الكلمة من معان يمكن أن تخطر بالبال، فإن ما
فعله اليهود في لبنان وما فعلوه قبلاً في فلسطين هو محاولة مستميتة من قبل
الحكومة اليهودية لإذلال الشعوب الإسلامية وإخضاع حكامها ...
إن محاولات الإذلال المتكررة لا تتعلق بالآلة العسكرية لليهود، فلقد أثبتت هذه
الآلة بما تملكها من امكانيات ضخمة فشلها في إخضاع الشعوب الإسلامية، فهي وإن
نجحت في تدمير المنازل على رؤوس سكانها من الشيوخ والنساء والأطفال إلا أنها
مع ذلك لم تنجح في تركيع هذه الشعوب وإخضاعها لمخططاتها، بل على العكس من ذلك
فإن هذا التدمير زاد من تمسك السكان بأراضيهم، واعتبروا ما فقدوه خدمة بسيطة
يقدمونها للمقاومة وشبابها ... ولقد قام البعض من هؤلاء السكان ببناء الخيم
البلاستيكية على أطلال منازلهم المهدمة، وبذلك لم تستطع الصور التي بثها
الإعلام المحلي والعالمي إلا أن تنقل للعالم صورة الفداء والعزيمة بدل أن تنقل
صورة الإذلال والهزيمة .
من هنا يأتي السؤال التالي: من أين يأتي هذا الإذلال الإسرائيلي إذا لم يكن
من الناحية العسكرية؟ إنه ببساطة يأتي عبر تأليب ضعاف النفوس ضد الفئة
المقاومة من الناس ومنعهم من التصدي للعدو وإجبارهم للرضوخ لمطالبه، وهذا
النوع من الإذلال متنوع، ونماذجه كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1-
إذلال حكام الدول العربية ومعاملتهم بغطرسة والاعتداء على سيادتهم، وهذا الأمر
لا يقتصر على الدولة الفلسطينية التي خطفت اسرائيل رئيس مجلسها التشريعي وعدد
من زعمائها السياسييين معتدية بذلك على سيادة هذه الدولة المعترف بها دوليا،
ولكن تجلى هذا الأمر واضحاً في الحرب الأخيرة على لبنان ومن نماذجها تلك
الوساطة التي جرت مع اسرائيل من أجل السماح للطائرة التي تقل وزراء الخارجية
العرب إلى الهبوط في مطار بيروت، ومنها ايضاًَ هذا الانقسام الذي حصل في مواقف
حكام العرب والذي منعهم من اتخاذ موقف موحد حول الحرب الدائرة ، ومنها ايضاً
هذا الموقف الذي وقفه رئيس الحكومة اللبنانية وهو يستجدي المجتمع الدولي
لإنقاذ لبنان، ولعل دمعته الصادقة تركت أثرها في نفوس رؤساء العالم وخاصة
الرئيس الفرنسي، أما موقف وزيرة الخارجية الأميركية الرافض لوقف الحرب قبل أن
تتم اسرائيل مهمتها فهو يشكل منتهى إذلال المجتمع الدولي لحقوق الإنسان
المعترف بها دوليا .
2-
تهديم البنى التحتية من جسور وكهرباء ، فلقد أدى تهديم الجسور التي كلفت
اللبناني الملايين من الدولارات والعديد من السنوات إلى تعطيل مصالح الناس
وتعقيد حركاتهم... والمعروف بأنه في بلد صغير مثل لبنان تشكل هذه الجسور دورا
أساسيا في تسهيل مرور الناس خاصة مع عجقة السير الخانقة التي كان يعاني منها
اللبناني لسنوات طوال قبل الحرب والتي كانت تؤدي به إلى البقاء لساعات طوال
بانتظار عبور بضعة أمتار ... أما ضرب محطات الكهرباء ومنع سفن الوقود من
تفريغ حمولتها فلقد أديا إلى حرمان الناس من الكهرباء في عز فصل الصيف الحار
كما هدد بعض المستشفيات بالإقفال لفقدان مادة الفيول ...
3-
توظيف العملاء من الداخل الذين كان لهم دور كبير في المعارك الأخيرة، فلولا
هذا التعاون لما تمكنت القوات الإسرائيلية من تحديد كثير من أهدافها العسكرية،
ومن المؤسف أن القسم الأكبر من هؤلاء العملاء هم من المسلمين ابناء البلد
الذين باعوا أهلهم وارضهم من اجل حفنة من الدولارات ... هذا على المستوى
الشعبي أما على المستوى السياسي فإن المواقف الرافضة للمقاومة إنما تظهر نجاح
إسرائيل في تفريق الموقف اللبناني حول القضايا الوطنية وتحديد العدو من
الصديق.
4-
تحطيم الاقتصاد اللبناني المهزوز أصلا قبل هذه الحرب، فإضافة إلى ضرب الموسم
السياحي ( بغض النظر عما يحصل في هذا الموسم من منكرات دينية وأخلاقية) فإن
ضرب المصانع والمؤسسات الاقتصادية الكبرى أدت إلى خسائر كبرى لهذه المؤسسات
دفعت البعض إلى التوقف عن العمل وتحويل رؤوس الأموال إلى بلد آخر يكون أكثر
أمنا واستقرارا، كما أدت ببعض المؤسسات المتوقفة قسريا عن العمل إلى طرد
العمال نظرا للخسارة الكبيرة التي منيت بها، أما الخسارة الكبرى على الصعيد
اللبناني فهي تلك الهجرة إلى الخارج وخاصة بين الشباب والتي سجلت نسبة عالية
تجاوزت المئتان والخمسون ألفا خلال شهر واحد فقط ... وهذا يعني أن اللبناني
فقد ارتباطه بأرضه، كما فقد حبه للوطن الذي ينبغي أن يفديه بدمه وماله ...
5-
تشديد الحصار البري والبحري على لبنان والذي أدى إلى فقدان كثير من المواد
الأساسية وعاد اللبناني ليمضي الساعات الطوال أمام محطات الوقود يستجدي بضع
الليترات من البنزين ، ولقد سجل نتيجة فقدان هذه المادة من الأسواق حالات موت
عديدة منها حالة هؤلاء الشاب الذين قضوا حرقا ولم تعرف جثثهم إلا عبر فحص
الحمض النووي بعد ان قصف الطيران الإسرائيلي سيارتهم المحملة بالبنزين ومنها
حالة وفاة تلك الفتاة التي لا يتجاوز عمرها الستة عشر ربيعا بعد أن احترقت
بالبنزين الذي وضعه والدها في المنزل...
أخيرا ...
فإن منتهى الإذلال جاء نتيجة مساهمة دولة عربية فيه، فإن موافقة الأردن على
السماح لاسرائيل باستخدام مطارها لتفتيش الطائرات المتوجهة من وإلى مطار
بيروت، جعل كثير من اللبنانيين يمتنعون عن السفر حفاظا على كرامتهم التي فشلت
اسرائيل في القضاء عليها رافعين شعار( هيهات يا محتل... هيهات منا الذل) .