انتهينا في
الدرس السابق من سرد مجريات وتفاصيل حادثة الإسراء ، ونحن
هنا بإذن الله سنكمل سرد
تفاصيل حادثة المعراج وما تستفيده الأمة الإسلامية من ذكرها
.
يقول بن القيم – رحمه الله
– : عرج
بالرسول عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء من بيت المقدس إلى
السماء الدنيا
فاستفتح له جبريل ففتح له ، فرأى هنالك آدم
أبو البشر،
فسلم عليه ، فرحب به ، ورد عليه السلام ،وأقر
بنبوته ، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه ، وأرواح الأشقياء عن
يساره.
ثم
عرج به إلى
السماء الثانية،
فاستفتح له ، فرأى فيها
يحيى بن زكريا وعيسى ابنمريم،
فلقيهما وسلم عليهما ، فردا عليه ، ورحبا به ، وأقرا
بنبوته.
ثم
عرج به إلى
السماء الثالثة،
فرأى فيها
يوسف،
فسلم عليه ، فرد عليه ورحب به ،وأقر
بنبوته
.
ثم
عرج به إلى
السماء الرابعة،
فرأى فيها
إدريس،
فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر
بنبوته
.
ثم
عرج به إلى
السماء الخامسة،
فرأى فيها
هارون بن عمران،
فسلم عليه ، ورحب به،
وأقر بنبوته.
ثم
عرج به إلى
السماء السادسة،
فلقي فيها
موسى بن
عمران،
فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته
.
فلما
جاوزه بكى موسى ، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكيلأن
غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها منأمتي.
ثم
عرج به إلى
السماء السابعة،
فلقي فيها
إبراهيم عليه السلام،
فسلم عليه ،ورحب
به ، وأقر بنبوته
.
ثم
رفع إلى سدرة المنتهى، ثم
رفع له البيت المعمور.
ثم
عرج به إلى الجبار جل
جلاله ، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ،
وفرض عليه
50
صلاة ، فرجع حتى مر على موسى فقال له: بم أمرك؟ قال: بـ50 صلاة ، قال: إن
أمتكلا
تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت إلى جبريل كأنه
يستشيرهفي
ذلك فأشار: أن نعم ، إن شئت
. فعلا
به جبريل حتى أتى به
الجبار تبارك وتعالى ، وهو في مكانه – هذا في لفظ البخاري في بعض طرق
الحديث – فوضععنه
عشرا ، قك أنزل حتى مر بموسى، فأخبره ، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف
. فلم
يزل يتردد بين موسى و بين الله عز وجل حتى جعلها 5 ، فأمره موسى
بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال: قد استحييتُ من ربي ، ولكني أرضى وأسلّم ،
فلما بعدنادى
منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت من
عبادي.
الأمور التي شاهدها الرسول عليه الصلاة والسلام في رحلة
المعراج: وقد
رأى ضمن هذه الرحلة أمورا عديدةوهي: عرض
عليه اللبن و الخمر،
فاختار اللبن ، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر
غوت أمتك
.
ورأى أنهار في الجنة:
نهران
ظاهران ، ونهران باطنان ، والظاهران هما: النيل والفرات ، ومعنى ذلك أن
رسالته
ستتوطن الأودية الخصبة في النيل و الفرات ، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلا
بعد جيل،
وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة كمايقال.
ورآى مالك خازن النار،
وهولا
يضحك ، وليس على وجهه بشر وبشاشة ، وكذلك رأى الجنة والنار
.
ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمالهم
مشافر كمشافر الإبل ، يقذفون في أفواههم قطعا من نار كالأفهار ، فتخرج من
أدبارهم.
ما معنى كلمة مشافر الإبل ، وكلمة
الأفهار؟
ورأى أكلة الربالهم
بطون
كبيرة كبيرة لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم ، ويمر بهم آل فرعون
حين يعرضونعلى
النار فيطأونهم.
ورأى
الزناةبين
أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحك غث نتن ، يأكلون من الغث
المنتن ، ويتركون الطيب السمين.
ورأى
النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم،
رآهن معلقات بثديهن
.
ورأى عيرا من أهل مكة في الإياب
والذهاب،
وقد دلهم على بعير لهم ، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون ، ثمترك
الإناء مغطى ، وقد صار ذلك دليلا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء
والمعراج.
قال ابن القيم
:فلماأصبح
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من
آياته
الكبرى ، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه ، وسألوه أن يصف لهم بيت
المقدس،
فجلاه الله له حتى عاينه ، فطفق يخبرهم عن آياته ، ولا يستطيعون أن يردوا
عليهشيئا
، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه ، وأخبرهم عن وقت قدومها ، وأخبرهم عن
البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال ، فلم يزدهم ذلك إلا نفورا ، وأبى
الظالمونإلا
كفورا.
هذا هو مختصر خبر المعراج ، اكتفيت بايراد
القصة من كتاب الرحيق المختوم وإلا فمرويات الإسراء و
المعراج من أكثر أحداث السيرة
في مكة ذكرا ، مع اشتمال كل رواية على زيادة أو نقص عن
الأخرى
.
الفوائد التي تستفيدها الأمة الإسلامية من حادثة
الإسراء و المعراج: 1-
الحكمة التي كانت في أن يكون الإسراء قبل المعراج ( إرادة
إظهار الحق لمعاندة من يريد إخماده ) لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم
يجد
لمعاندة الكفار سبيلا إلى البيان والإيضاح. لما
ذكر أنه أسري به إلىبيت
المقدس ، سألوه عن جزئيات من بيت المقدس كانوا قد رأوها ويعرفون أنه لم يكنرآها
من قبل ، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت
المقدس في ليلة ، ولو صح خبره لزم تصديقه في بقية ماذكر.
2-لما
علم كفار قريش بخبر الإسراء و المعراج كانوا بين مصفّقو
بين واضع يده على رأسه مستعجبا ومندهشا لكذب الرسول عليه الصلاة والسلام
عليهمكما
بزعمون ، والتصفيق عند الإعجاب في الإحتفالات والإجتماعات هو مما دخل على
المسلمين في الأزمان المتأخرة
.
والتصفيق إما أن يكون علىوجه
العبادة كما يفعل الصوفية والشيعة وغيرهم ، أو أن يكون على وجه العادة التي
اعتاد الناس عليها كالتصفيق في الإحتفالات للتشجيع أو الإعجاب بشيء ، فلو
كان
للتعبد فهو بدعة محرمة شرعا ، ولو كان على وجه العادة فهو منكر محرم لأنه
تشبه
بالكفار والذي ينبغي على المسلم إذا شاهد ما يفرحه أو سمع خبرا جميلا أن
يكبر أويسبح
كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم عندما فرحوا بإسلام عمر بن الخطاب
.
3-في
ترحيب أهل السماوات
بالرسول عليه الصلاة والسلام دليل على استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر و
الترحيب
والثناء والدعاء. وأهل
الفضل ممن لهم فضل خاص كالوالدين ونحوهم ، أو فضلعام
كالعلماء والمعلمين ونحوهم ، فهؤلاء يستقبلون ويتلقون بالبشر والترحاب
والثناء
والدعاء مما يدل على توقيرهم وتقديرهم
واحترامهم.
4-لقد
كان موسى عليه
السلام ناصحا للرسول عليه الصلاة والسلام وأمته حينما عرض عليه أن يعود
ويطلب
التخفيف في الصلاة
. يؤخذ
من هذا: بذل النصيحةلمن
يحتاج لها حتى وإن لم يستشر الناصح في ذلك
.
5-هناك
من يحتج بما جرىبين
الرسول عليه الصلاة والسلام وموسى عليه السلام على انتفاع الحي بالميت
والجوابعلى
هذا:
أ-إن
معراج الرسولعليه
الصلاة والسلام ومشاهدته لما شاهد معجزة للرسول لا يصح أن يقاس عليه أحوال
الناس ، فهل يمكن لأحد أن يستدل بإمكان وصول البشر إلى السماء السابعة لأن
الرسولعرج
به إلى هناك؟ بالطبع لا.
ب-أن
ما جرى في المعراج من حوار ومراجعات ومشاورات بناءعلى
رؤية محسوسة متبادلة بين الطرفين ، شاهد وكلم كل واحد منهما الآخر كما لو
كانا
يتكلمان في الدنيا ، وليست دعاء حي لميت يرجو نفعه ، بل كانوا جميعا أحياء
بقدرةالله
جل جلاله ، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يذهب لقبر موسى ليطلب نفعه ،
وإنماأحيا
الله الأنبياء الذين قابلهم الرسول عليه الصلاة والسلام ومنهم موسى ، فكلا
الطرفين أحياء ، ولو كان ما جرى مثل ما يفعله الناس عند القبور لم يكن في
الأمر
معجزة .
6-
في
اختصاص الصلاة من بينكل
العبادات بتشريعها في المعراج بهذه الصورة بيان لمكانة الصلاة وعظمتها في
الإسلام ، فهي عامود الإسلام ، وركن مهم فيه ، ومن ضيعها فهو لما عداها
أكثر تضييعا،
ومن حافظ عليها فكأنما حافظ على 50 صلاة ، وذلك من فضل الله على أمة محمد
. يقول
الشيخ محمد العثيمين – رحمه الله
- :
وتأمل كيف أخر الله فريضتها إلى تلك الليلة ، إشادة بها ، وبيانا
لأهميتها لأنها: -
فرضت
من الله عز وجل إلى رسوله عليه الصلاة والسلامبدون
واسطة. -
فرضت
في ليلة هي أفض الليالي لرسول الله صلى اللهعليه
وسلم . -
فرضت
في أعلى مكان يصل إليه
البشر. -
فرضت
50 صلاة وهذا يدل على محبة الله لها وعنايته بها
سبحانه ، لكن خففت فجعلت 5 بالفعل ، و50 بالميزان ، غير الخمسين التي
الحسنة فيهابعشر
أمثالها
. لأنه
لو كان المراد الحسنة بعشر أمثالها لم يكن لهامزية
على غيرها من العبادات ، إذ كل عبادة الحسنة بعشر أمثالها ، لكن الظاهر أنهيكتب
للإنسان أجر خمسين صلاة ، وهذا فضل عظيم من الله عز وجل لهذه الأمة
.
7-
في
قول موسى عليه السلام
(
وإني والله قد جربت الناس قبلك ) دليل على أن التجربة أقوى في تحصيل
المطلوب من
المعرفة الكثيرة.
8-
الدين الإسلامي ليس بالعقل وإنما بالوحي والنص ، فالعقوللا
تستقل بإدارك مصالحها دون الوحي ، فمن استعمل عقله في خبر الإسراء والمعراج
وتجاهل النص أضله عقله ، ومن سلَّم للنص واستسلم له ، وفِّق وهُدِي
.
9-يقول
ابن القيم – رحمهالله
- : قول الملائكة للنبي عليه الصلاة والسلام ( مرحبا به ) أصل في استعمال
هذه
الألفاظ وما شابهها عند اللقاء نحو: أهلا وسهلا ، مرحبا وكرامة ، خير مقدم
وأيمنمورد
... وغيرها
. فإن
الترحيب هو السعة ، وكان قد أفضى إلى واسع الأماكن،
ولم يطلق فيها سهلا لأن معناها وطئت مكانا سهلا ، والنبي صلى الله عليه
وسلم كان
محمولا إلى السماء
.
كنت قد أشرت في الدرس
السابق إلى أنه قد تم ذكر تفاصيل رحلة المعراج في سورة
النجم ، وقد وضعتُ تفسير
السورة.