قال تعالى : ( والشعراء يتبعهم الغاوون * الم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون * وأنـهم
يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً
وانتـصروا من بعد ماظُلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون )
تأملوا قول هذا الشـاعر وإلى أي تيه وصل ، في أطهر بقعة من بقاع الأرض ، في
موقع تذوب فيه القـلوب ، وتخضع فيه النفوس ، وتدمع فيه العيون .. لم ينزه لسانه
عن العيب ، ولم يـرده عن الآثام حياء ، في مكان يكون الإجلال لله أعظم ،
والتأدب بشرائعه أحـكم ، رانت على قلبه غشاوة ، فانفجرت قريحته الشعرية
الشيطانية ، فلم يصن قلـبه عن محـارم الله ، تلبست عليه نفسه الأمارة بالسوء ،
ولو جعل مافي صدره مستور مخبوء لكان خيراً من جهره بمعصيته ولو كان على عهــد
رسول الله صلى الله لقال : اقتلوه ولو كان معلقاً بأستار الكعبة ..
ولكن من يقيم عليه الحد في زمن أصبح كلٍ يسير على هـواه .. ولنقارن بينه وبـين
شـاب من الصحابة عمره ست عشرة سنة ( ثعلبـة بن عبدالرحمن ) كـان يكـثر الجلوس
عند رسول الله ، فأرسله يوماً في حاجة ، فمر ببيت من بيوت الأنصار وكان الباب
مفتوحاً ، فنظر فإذا بستر مُرخى على حمام فأتت الريح ثم حركت الستر ، فإذا خلف
الستر امرأة تغتسل ، ثم قال أعوذ بالله رسول الله يرسلني في حاجة وأنا أنظر إلى
عورات المسلمين .. والله لينزلن الله فيّ آيات ،وليذكرني الله مع المنافقين
فخشي أن يرجع إلى رسول الله ، فهام على وجهه .
فمازال رسول الله ينتظره ، وينتظره ، ثم قال لأصحابه : ابحثوا عنه في المدينة ،
قالوا يارسول الله بحثنا عنه في كل مكان فلم نقف له على أثر ، ثم لما لم يرجع
إليه بخبر ، قال : ابحثوا عنه في الصحاري .. فمضى الصحابة حتى وقفوا على جبال
بين مكة والمدينة ، فإذا بأعراب يرعون غنم لهم ، فسألهم عمر ؟ أما رأيتم فتى
صفته كذا .. وكذا ؟ قالوا لعلكم تبحثون عن الفتى البكاء ، قال عمر : والله
ماندري عن بكاءه ، لكن ماخبر ذلك الفتى ؟ قال الأعرابي إن في سفح الجبل شاب منذ
أربعين يوماً لانسمع إلا بكاءه واستغفاره وإنه ينزل إلينا كل يوم عند الغروب ،
فنحلب له مذقة من لبن فيشربها ، ثم يصعد إلى الجبل مرة أخرى ، فاختبأ له
الصحابة ، حتى نزل ، فإذا هو كأنه فرخُ منتوف .. فخرج له الصحابة ، ففزع منهم ،
قالوا رسول الله يطلبك ، قال : ارحموني واتركوني أموت في سفح هذا الجبل ، فما
زالوا به حتى حملوه إلى بيته ، واضجعوه على فراشه ، فدخل عليه النبي فوجده طريح
على فراشه كأنه جلدُ بالي ، فتربع رسول الله جالساً ووضع رأسه على فخذه ، فقال
ثعلبة يارسول الله ابعد رأساً قد امتلأت بالذنوب والمعاصي ، وبكى حتى اشتد
بكاءه .. فقال عليه الصلاة والسلام : ياثعلبة ماترجو؟ فقال : أرجو رحمة ربي ،
قال : ومما تخاف قال : أخاف عذابه ، فقال رسول الله : أرجو من الله أن يؤمنك
مما تخاف ، وأن يعطيك ماترجوه ، ثم توفي رضي الله عنه ..
حملوه الصحابة على نعشه ، ورسول الله يمشي وراءه ،فكان عليه السلام يمشي على
أطراف قدميه ، وكأنه يمشي في زحام ، فقال عمر : يارسول الله مابك تمشي وكأنك في
زحام ، والصحابة قد أوسعوا لك ؟ فقال : ويحك ياعمر ! والله لاأجد لقدمي موضعاً
من كثرة مايزاحمني عليه من الملائكة . ( فوقهم الله شر ذلك اليوم ولقهم نضرة
وسروراً )
فليستلهم هذا الشاعر وأمثاله العبرة من هؤلاء الأتقياء ، ويكفوا نظراتـهم
الجائعة عن التلصص على محارم الله ، وليستشعر قلبه رقابة الملك القهار ..