|
بسم الله الرحمن الرحيم
في ذلك اليوم تجولت في أرجاء بيتها الكبير , و تأملت عدة مرات جدرانه و قطع
أثاثه الفاخرة , و قارنت تلقائيا بين ماضيها بمتاعبه الجمة , وبين حاضرها الذي
يكتظ بأدوات الرفاهية و قارنت للمرة الثانية بين الظروف الاجتماعية في تلك
الفترة و العلاقات في الوقت الحاضر تذكرت بداية حياتها عندما فتحت عينيها في
بيت كبير في قريتها قبل أن تأتي للمدينة و تتدرج في مراحل متعددة من الحضارة و
الثراء طفولتها في بيت طيني واسع و يقع فنائه في الوسط حيث تقف أشجار النخيل
شامخة في وسط ذلك الفناء بشكل تلقائي و تتذكر جيدا تسابقها و أشقائها في جني
الرطب من النخل و الأواني التي تحضرها والدتها لملأها للجيران و الأقارب و
الأصدقاء في شدة الحر و تحت أشعة الشمس و في أغلب أيام فصل الصيف كانت تضع قطعة
من القماش و تنظر إلى إنائها لعلها تملأه قبل أخواتها كانت تفرح بكلمات الإطراء
الممزوجة بالحنان و التي تسمعها بين الحين و الآخر من والديها و استرسلت في
ذكرياتها فتذكرت تلك الحجرات كثيرة العدد قليلة العدة حيث أحاطت بجوانب ذلك
الفناء الواسع .
أكثر ما يغمرها بالسعادة هو تذكرها لسكان ذلك البيت , فقد كان جدها و جدتها هما
الأساس لتلك الأسرة و هما عماد ذلك البيت الكبير , و لن تنسى أعمامها و زوجاتهم
و أبناؤهم و بناتهم , و بين الحين و الآخر تحل إحدى عماتها في ذلك البيت لعدة
أيام حيث تستقبل مولودا جديدا , طفولة سعيدة و مرحة , و علاقات اجتماعية قوية ,
و صلات بالجيران و الأقارب , يشوبها بعض الخلافات أحيانا و لكن الجميع يعودون
إلى سابق عهدهم في الود و الصفاء , تجوب مع أبناء و بنات أعمامها جوانب ذلك
البيت العامر , يرفعون أصواتهم بأناشيد شعبية بريئة , و عندما يتذمر أحد الكبار
من ضجيجهم يتراكضون إلى الشارع الضيق أمام منزلهم و يكملون لهوهم البريء مع
أبناء الجيران .
عندما كبرت قليلا و امتنعت عن اللعب , وجدت نفسها بين يدي والدتها و جدتها و
هما تمطرانها بكثير من التوجيهات حول شئون البيت سواء في الداخل أو الخارج ,
كانت تشعر بالسعادة لكونها أصبحت محل ثقة من الكبار , و شيئا فشيئا وجدت نفسها
تتحمل مسئوليات أخرى , أكثر شيء كان يبعث السعادة في نفسها هو عنايتها بأخواتها
الصغار لدى انشغال والدتها ببعض الأمور , كانت في تلك الفترة تدرك تماما أن
جدها و جدتها هما أساس البيت , و أن مسئولية الأمر و النهي منوطة بهما فقط ,
فجميع سكان البيت يعرفون ذلك جيدا و يسيرون في حياتهم بناء عليه .
لن تنسى ذلك اليوم الحزين , عندما افتقدت جدها إلى الأبد , لم يقل لها أحد أي
شيء , و لكن التحركات التي كانت تجري في البيت تشير إلى ذلك , رجال و نساء
يدخلون البيت لدقائق معدودة ثم يخرجون , و بعد عدة أيام هدأ كل شيء إلا حرقة
تشعر بها عندما تتذكره , ترى بعينيها أثار قد تركها خلفه , و تتحسس الأماكن
التي كان يجلس فيها , فهنا يستقبل ضيوفه و يصنع لهم القهوة , و هنا يقوم بصنع
بعض الأغراض بيده , و هناك مكان آخر أكثر أهمية , رف خشبي يحتفظ فيه بنسخة
كبيرة من القرآن الكريم , يقرأ فيه كل يوم , و يعيده إلى مكانه على الفور , لم
يكن أحد الأطفال يجرؤ على مسه أو تحريكه من مكانه , و لكن جدها لم يكن يمانع
بمطالعته معه أو الإنصات إلى تلاوته .
عندما توفي جدها آلت رئاسة البيت إلى جدتها تلقائيا , و كان الجميع يعاملونها
باحترام فائق , و يستشيرونها في جميع شئون حياتهم , و عرفت عندئذ أن جدتها قد
أصبحت كبيرة العائلة , مرت الأيام الماضية متشابهة , و كان أجمل ما تتذكره ذلك
الباب المفتوح طوال ساعات النهار للجيران و الأقارب , لا هواتف , لا مواعيد ,
لا مبالغات أو مظاهر تفسد هذه الزيارات , كل شيء يبقى على طبيعته , و البساطة
سمة واضحة لكل شيء , و بعد فترة من الزمن تنتقل الجدة إلى رحمة الله , و تستشعر
بعدها و كأن ميزان البيت قد اختل , أكبر أعمامها ذهب للعمل في المنطقة الغربية
, و كلمة البقية الباقية في البيت قد تفرقت , كان من الواضح لديها أن هناك
بوادر لعدم التفاهم تلوح في الأفق بين والدها و أعمامها في ظل تلك المعمعة
تتغير حياتها فجأة بانتقالها إلى بيت آخر برفقة زوجها , التاريخ يعيد نفسه في
بيتها الجديد , تعيش مع زوجها و أخوته و زوجاتهم والده و والدته هما عماد ذلك
البيت أيضا , و باب مفتوح للخير و العطاء , رأت في والدي زوجها صورة مطابقة لما
كان عليه أجدادها , و استشعرت السعادة في كثير من جوانب حياتها الجديدة , والدة
زوجها امرأة تخاف الله , و تلتزم العدل في كل شيء بين زوجات أبنائها و أحفادها
, أما والد زوجها فكان رمزا للعطاء بالرغم من قلة ذات اليد , و كانت تضحك دائما
من ردة فعله لكل موقف و ربطه بمثل شعبي قديم .
مرت الأيام و هي تتواصل مع أهلها بزيارات في نهاية كل أسبوع , كانت تشعر بالأسى
و هي ترى البيت الذي عاشت طفولتها فيه يتهاوى يوما بعد يوم , فقد تفرق السكان ,
و والدتها تلح على والدها ببيت أصغر منه , فقد أعيتها الخدمة فيه , و عدم
الحاجة إلى كثير من حجراته التي خلت من ساكنيها , كانت تتمنى لوالدتها الراحة ,
و لكنها تجد في نفسها حبا جارفا لكل أرجاء ذلك البيت , فهو يذكرها بصديقات
طفولتها و صباها , بنات أعمامها , و بنات الجيران , و الأقارب الذين يفاجئونهم
بزيارات تلقائية في كل حين , لم تعلق على رغبة والدتها , و لم تبح بمكنون
فؤادها , و طرق مسامعها ذات يوم قرار والدها بعد مشاورته لأخوته ببيع البيت و
تقسيم ثمنه على الورثة طبقا لشرع الله تعالى .
غافلت الأيام استقرارها في بيت أهل زوجها بمفاجأة جديدة , فزوجها يعد العدة
للرحيل , و الذهاب للعمل في إحدى المدن الكبرى , تغادر قريتها , و تغادر للمرة
الثانية بيتا كبيرا أحبته من أعماقها , و أحبت الحياة فيه بحلوها و مرها , أعدت
حاجياتها , و أغراض أطفالها , و استعدت لانطلاقة جديدة في هذه الحياة , استقرت
في بيتها الجديد غير الكبير , و عاشت فيه حياة هادئة , و كانت تقضي جل وقتها في
شئون البيت و خدمة الزوج و الأطفال , قضت الفترة الأولى من حياتها في المدينة
تتنقل من بيت إلى آخر , و كل بيت يكون أكثر اتساعا و جمالا من سابقه , أولادها
و بناتها يملأون البيت بصخبهم و ضجيجهم , سنوات و يصبح بيتها كبيرا و يضم أسرة
كبيرة , لم تعد تستطيع خدمة الجميع , و البنات يقضين جل أوقاتهن في استذكار
دروسهن , يشعر زوجها بمتاعبها و يجد الحل في استقدام الخادمة , تركن إلى الراحة
و هي تتابع بفرح أطفالها و قد أصبحوا كبارا , لم تكن الحياة لتستقر على حال
لديها أو لدى غيرها من البشر , فالبنات قد تزوجن الواحدة تلو الأخرى , و
الأولاد قد تفرقوا لطلب العلم في جامعات مختلفة , و من ثم تزوجوا و استقروا في
بيوت مستقلة .
عندما خلا بيتها من الأولاد و البنات و أحيل زوجها إلى التقاعد , حاولت بشتى
الطرق إقناع أصغر أبنائها بالزواج و الاستقرار عندها , و لكنه صمم على
الاستقرار في منزل منفرد أسوة بإخوته , زوجها سارع بمشاركة أحد أصدقائه بافتتاح
محل تجارى , و أصبحت تجوب أرجاء البيت جيئة و ذهابا , تنتظر يوم الخميس بفارغ
الصبر , حيث تأتي البنات و بعض الأولاد لزيارتها الأسبوعية , راقبت بأسى
الأرضيات الرخامية اللامعة التي قلما تطأها الأقدام , و تذكرت الأرضيات
الترابية التي لم تخلو يوما من مرور الكبار و الصغار عليها , و رمقت الأبواب
الموصدة بإحكام بأسى شديد و هي تتذكر مواربة أبواب الماضي التي توحي بانتظار
أصحاب البيت لأي ضيف و في أي ساعة كانت , نظرت إلى الهاتف و ما من رنين , ثم
عالجت جرس الباب بنظرة أخرى و لكن الصمت كان لذكرياتها بالمرصاد , ساعات تمر
عليها و هي تقارن بين سكون البيوت في الوقت الحاضر , و بيوت الماضي التي تعج
صوتا و حركة .