على بعد 120 كيلو متر من العاصمة الأندونيسية ، في قرية صغيرة في محافظة جاوة
ولدت "نور العالم" في " برواكرتا " من أم أندونيسية الجنسية ، وأب مسلم من
حضرموت ، ونشأت في تلك القرية تنشئة إسلامية تعلوها شوائب البدع وبعض الشركيات
، التحقت بإحدى المدارس أسوة بمن هن في مثل عمرها وشبت عن الطوق في تلك المنطقة
، لم تكن تعرف عن بلدها أي شيء سوى شذرات متناثرة يكونها خيالها الفياض في
مرحلة الطفولة والصبا.
"نور العالم" في المدرسة:
والدتها غير متعلمة ولكنها تحافظ على فروضها الدينية وتؤديها بشكل تقليدي ، أما
والدها فكان متعلماً ومنشغلاً بأمور التجارة والدعوة إلى الله،في ظل هذه الظروف
دخلت " نور العالم " مدارس التعليم العام في أندونيسيا ولم تكمل تعليمها
الثانوي ، لم تكن تعرف عن اللغة العربية شيئاً ، أما أمور الدين فكانت تأخذ
القليل منها في المدرسة في عهد الرئيس الأندونيسي " سوكارنو" ، "نور العالم"
عربية مسلمة وجدت نفسها أسيرة للتعامل باللغة الأندونيسية ، والدها فقط كان
مجيداً للعربية ولكنه لا يتعامل بها إلا مع رفاقه العرب فقط.
ذكريات الطفولة:
كان من أجمل الأوقات لديها عندما تحصل على قصة أو كتاب ثقافي من أصحاب الكتب
المتجولين في طرقات القرى الأندونيسية في ذلك الزمان مقابل إيجار بسيط ، كانت
تلتهم الكتب بثقافاتها المتنوعة التهاماً ولا تكتفي بذلك ؛ بل تجمع أفراد
أسرتها أو صديقاتها في المدرسة لتسرد بالتفصيل ما قرأت ، وكثيراً ما يداهمها
ظلام الليل ولم تنهي قراءة كتبها ، فتعمد إلى إطفاء المصباح الكهربائي ريثما
ينام الجميع ، ومن ثم تعود إلى إشعال الضوء وتقضي مع كتبها ساعات طويلة هي في
نظرها من أجمل لحظات حياتها.
موقفها من الحجاب:
أمرها والدها بالحجاب مراراً ولكنها رفضت لجهلها بأهمية ذلك ، زميلات المدرسة
والصديقات كان لهن تأثير عليها خاصة أن بينهن المسلمة والمسيحية والبوذية ،
كانت تعرف أنها مسلمة وعليها كثير من الواجبات ، ويلزمها أداء بعض الفروض ،
ولكنها كانت تلتزم ببعضها ، وتؤدي بعضها بشكل تقليدي أبعد ما يكون عن القناعة .
رحلتها مع الغربة:
عندما فتحت عينيها على الحياة كان والدها كبيراً في السن ، وعندما شارفت على سن
السادسة عشر تحدث إلى عمها في السعودية بشأنها ، وأبدى رغبته في أن تكون زوجة
لابن عمها ، فهو لا يريد لها الارتباط بشخص غريب ، رحل والدها لأداء فريضة الحج
وتوفي بعد فترة بسيطة ، وتم زواجها من ابن عمها بعد ذلك مباشرة.
معاناة:
حضرت إلى السعودية وعمرها ست عشرة سنة ، وبدأت معاناتها مع اللغة العربية ، لم
تجد كتباً باللغة الأندونيسية ، ولم تجد أناساً يتحدثون بهذه اللغة ، ولا
تلفاز، انقطعت عن العالم تماماً ، انزوت بعيداً مع أحزانها ، وشعرت بالغربة
والحنين إلى مسقط رأسها وأهلها ، افتقدت أمها ورفيقات طفولتها وصباها ، عام
واحد وتنجب ابنها البكر ، ومعاناتها مع الغربة والألم لم تزل قائمة ، وجدت
صعوبة في التفاهم مع الجميع ، وعند خروجها لجلب حاجياتها من السوق ، أو ذهابها
للمستشفى .
الملل القاتل حاصر أيامها ، والحزن لفراق أسرتها سيطر عليها ، عام كامل قضته
باكية لانقلاب حياتها ، تتذكر دوماً تلك البيوت البسيطة في قرى وجزر أندونيسيا
، وتتذكر بساطة الناس وعدم تكلفهم في أي شيء ، الجيران ، المدرسة ، الحي ،
تتذكر كل ذلك وتجهش في البكاء.
لقاء بعد سنوات:
بعد سنوات أنجبت مزيداً من الأطفال وانشغلت بهم ، وبدأت تتأقلم مع حياتها
الجديدة شيئاً فشيئاً ، وعقدة اللغة أصبحت أخف وطأة من ذي قبل ، تعلمت بقدر
يمكنها من التفاهم مع محيطها ، ومن وسط مشاغلها الحياتية المعتادة يأتيها خبر
مجيء والدتها من أندونيسيا لأداء فريضة الحج ، تلتقي بها بعد سنوات مريرة من
الفراق ، تغيرت الظروف عمَّا قبل ، فقد أصبحت نور أماً لعدد من الأطفال ،
ومسؤولة عن بيت وأسرة .
طموحات كبيرة:
هوايتها المفضلة وهي القراءة بدأت تداعب أحلامها ، مكتبة ضخمة كانت أمام
ناظريها في بيت أهل زوجها ، ولكن الكتب كانت كلها باللغة العربية ، كانت تستجدي
زوجها أن يقرأ لها ولكنه كان مشغولاً بتجارته ، فلم تملك إزاء ذلك إلا الصمت
وكتم الألم الذي كان يعاودها بين الحين والآخر كلما وجدت صعوبات تقف لطموحاتها
بالمرصاد.
آمال لتعلم اللغة العربية:
بعد فترة من الزمن تهادى إلى سمعها افتتاح ما يسمى بـ " مدارس محو الأمية " ،
تجدد الأمل لديها بتجاوز جهلها باللغة العربية ، وعاد النشاط لطموحاتها التي
كثيراً ما تنساها أمام مشاغل الحياة وتربية الأطفال ، فاتحت زوجها بموضوع
دراستها ، تم رفض طلبها تماماً ؛ لبعد المدرسة عن محل إقامتها وهذا هو أكبر
عائق ، استسلمت للأمر ، واقترب موعد التحاق ابنها البكر بالمدرسة ، كانت
استعداداتها لالتحاقه بالمدرسة كبيرة ، وآمالها التي علقتها بدراسته أكبر ، ذهب
إلى مدرسته ، وأحضر الكتب المدرسية ، وجلست بجانبه من أول درس تلقاه ، كانت
تسأله عن كل شيء ، وتحفظ ما يقوله عن ظهر قلب ، مرَّت السنة الأولى بسلام ،
ونجحت مع ابنها في تعلم كل دروسه المدرسية ، مرَّ العام تلو الآخر ، وحصيلتها
اللغوية تزداد يوماً بعد يوم ، تسير جنباً إلى جنب مع ابنها البكر ، وتبدأ
مرَّة أخرى مع الابن الذي يليه ، معرفتها بالقراءة شهدت انطلاقاً كاملاً بعد
سنوات ، وابنها يساعدها في تخطي كل شيء يستصعب فهمه عليها .
توبة وندم:
نفضت الغبار عن كثير من الكتب المرصوصة في أرفف تلك المكتبة الكبيرة ، وبدأت
تقرأ الكتاب بعد الآخر ، وتسأل أبناءها عن الأشياء التي لا تفهمها ، وجدت كتب
السير والتاريخ وغيرها من أنواع المعرفة ، لم تكن الصلة بالله كما ينبغي ،
وكانت تطلع على كتب الدين من باب المعرفة والثقافة ، وتؤدي واجباتها الدينية
بشكل روتيني سريع يخلو من الخشوع والارتباط بالله تعالى ، ويعتريه كثير من
القصور ، وفي ذلك اليوم وبعد أداء واجباتها المنزلية ، وبعد أن نام أطفالها
ذهبت إلى فراشها وهي تؤمل نفسها بنوم عميق تنفض خلاله متاعب يوم كامل من العمل
الشاق ، نامت قليلاً ومن ثم داهمها قلق لا تعلم مصدره ، استيقظت من نومها ،
وتأملت حالها وظروفها ، واختلط في هذه اللحظات حاضرها الذي تعيشه مع ذكرياتها
في أندونيسيا ، شيء ما يلح عليها بقلق رهيب ، بكت بمرارة وتذكرت بعدها عن الله
عز وجل ، تذكرت جهادها الدنيوي في سبيل العلم وتربية الأولاد ، وتذكرت تفريطها
في جنب الله تعالى ، فكرت في مصيرها المحتوم وإن طال مقامها في الحياة الدنيا ،
ندمت على التفريط في الفروض الدينية الرئيسة والتقصير تجاه رب العالمين ، عاهدت
نفسها في تلك الليلة على تعويض ما فات ، والالتزام بأوامر الله تعالى ، والتقرب
منه ، وتعلم الدين لعبادته عز وجل كما ينبغي .
مع كتاب الله:
استمرت هوايتها في القراءة ، ولكن تركيزها أصبح كبيراً على الكتب الدينية ،
واهتمت بقصص الأنبياء عليهم السلام ، وقرأت سير الصحابة رضوان الله عليهم ،
واهتمت بسماع الأشرطة الدينية ، وتابعت الخطب والمواعظ ، وكان اهتمامها الأكبر
هو تعلم القرآن الكريم ، كانت تستمع له كثيراً عبر الإذاعة وآلة التسجيل ، وملأ
قلبها الشوق لتعلمه وقراءته ، وكما طلبت من زوجها بالأمس الدراسة في مدارس محو
الأمية ، طلبت هذه المرة الالتحاق بدور تحفيظ القرآن الكريم ، رُفض طلبها
للمرَّة الثانية ، وطلب منها تعلم القرآن في البيت كما تعلمت القراءة والكتابة
، وأن تعتمد على نفسها في ذلك ، ووعدها هذه المرَّة أن يساعدها قدر المستطاع ،
وأن يصوب أخطائها كلما سنحت له الفرصة بذلك ، بدأت مع كتاب الله بدايتها
الفعلية ، وكانت ترفع صوتها بالقراءة ليصوب لها مَنْ يسمع قراءتها ، استمرت
فترة طويلة على هذا الأسلوب ، وبعدها انتقلت للإقامة في بيت آخر بجانبه مسجد
يقيم حلقة تحفيظ للنساء ، طلبت من زوجها من أن تذهب ، لم يمانع هذه المرة لقرب
المسجد ؛ ولأن أولادها قد كبروا بعض الشيء ويستطيعون الاستغناء عن رعايتها هذه
الساعة ، حفظت في الحلقة جزء عم ، وسورة تبارك ، ومقاطع من سور أخرى ، واشتركت
في مسابقات قرآن لبعض السور ، إما حفظاً أو تفسير ، وحرصت على حضور الدروس
والمحاضرات ، تعلمت خلالها طريقة الإلقاء ، وأساليب جذب الحضور ، وكانت تُعد
الأسئلة لتسأل الداعيات عمَّا يصعب عليها فهمه .
انقطعت الدروس في المسجد المجاور لبيتها ، ولم تنقطع رغبتها في الاستزادة
والتحصيل ، عَرَفََتْ الأساسيات في طلب العلم ، وقررت الاستمرار في ذلك من
بيتها وبمساعدة ابنها ، قرأت القرآن الكريم وكتب الدين في الليل والنهار وكل
أوقات الفراغ التي تتوفر لديها .
بداية الطريق:
كانت ذاكرتها تستحضر دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم " بلغوا عني ولو آية
" ، وكانت تتوق نفسها لتبليغ بنات جنسها خاصة من الأندونيسيات اللاتي تكون
أصولهن عربية ، وجدت الدعم والتشجيع من زوجها ، وكانت في مجالس النساء تضيق
ذرعاً بالأحاديث التقليدية حول الطهي وأنواع اللباس ، كانت تلقي عليهن بعض
المواعظ البسيطة التي لا تتجاوز الدقائق فتجد منهن كل إنصات وحماس ، ذكَّرتهن
باليوم الآخر وبمعاني القرآن الكريم وكثير من أمور الدين التي يجهلنها ، وبدأت
تنتظم في إلقائها من خلال اللقاء الأسبوعي بهؤلاء النسوة ، وجدت القبول من
الجميع خاصة أنها تلقي بلغتها الأساسية وهي اللغة الأندونيسية بالإضافة إلى
اللغة العربية أحياناً .
مكتبة خاصة :
كانت تدرك تماماً أن الدعوة مسؤولية كبرى ، وأنه لا بد لها من أرضية صلبة من
العلم الشرعي ، حرصت كثيراً على تكوين مكتبة تحوي كتب العلم الضرورية ، وكانت
تستعين بعد الله بأستاذات لاختيار كتبها ، واهتمت بالقراءة والاستزادة من هذه
الكتب قدر الإمكان ، قرأت كتاب الله كاملاً مع دراستها للتجويد ، تعلمت التفسير
وأسباب النزول ، واطلعت على سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، اهتمت بالعقيدة
ودروس الفقه ، أدركت أن العلم بحر كبير لا ساحل له ، وقررت بينها وبين نفسها أن
تبلغ ما تعلمته قدر المستطاع ، وأن تغير المفاهيم الخاطئة لدى أخواتها
الأندونيسيات المتواجدات في مدينة الرياض ، وأن تعمل على تثقيف الأندونيسيات
اللاتي ينتمين إلى أصول عربية ، تريد أن تساهم بما تستطيع ، وتخدم الدعوة قدر
طاقتها .
نجاح في الوسط الدعوي:
تهادى إلى الأسماع اسم الداعية الأندونيسية " أم حسن " وهذا هو اسمها الذي
اشتهرت به في الأوساط الدعوية ، وحرصت المسؤولات في مكاتب الدعوة وتوعية
الجاليات على تنسيق محاضرات لها مع الجاليات الأندونيسية ، ونظَّمت لها دور
تحفيظ القرآن الكريم محاضرات مماثلة ، واستفاد محيطها من دروسها في تجمعات
الأندونيسيات في اللقاءات الأسرية ، وألقت العديد من المحاضرات في الندوة
العالمية للشباب الإسلامي.