|
بسم الله الرحمن الرحيم ..
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، على ما يسر لنا من مواسم الإدراك وفرص
اللحاق ، حمدا لمن بليلة القدر اختص أمة الإسلام وبمضاعفة الثواب وعدنا في بعض
الأعمال والأيام ؛ والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، البشير النذير
و السراج المنير ، معلمنا وأسوتنا سيدنا وحبيبنا من نفديه بأرواحنا ووالدينا ،
محمد النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته وسار على نهجه
إلى يوم الدين ، وبعد :
قال تعالى : "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً
فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ" . و عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : {الزَّمَانُ
قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثَةٌ
مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ
مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان} البخاري .
كم تمر علينا هذه الأيام دون أن نلقي لها بالا ، وارتبطت عندنا بالحج وتحريم
القتال فمن كان بعيدا عنهما لم يلتفت لهذه الأيام إلا إن علم فضلها .. فهلموا
نرى ماذا علينا في هذه الأيام ، ثم ندل من خلفنا .
*** *** *** *** *** *** ***
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ( .."فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم"
أي في هذه الأشهر المحرمة ، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن
المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى"وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ
بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ". وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام
، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق
من قَتل في الحرم أو قتل ذا محرم، ثم نقل عن قتادة قوله : إن الظلم في الأشهر
الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً،
ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء .. ) أ.هـ
وقال القرطبي رحمه الله: ) لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله
سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة ، وإذا عظمه من جهتين أو
جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء ، كما يضاعف الثواب
بالعمل الصالح ، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه
ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ، ومن أطاعه في الشهر الحلال في
البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال ، وقد أشار الله
إلى هذا بقوله" يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيراً" .. ) أ.هـ
*** *** *** *** *** *** ***
فهذه فرصة لمن أثقله ذنب تكاسلت نفسه عن التوبة منه ، بل فرصة ذهبية لمن غرق في
لُجّ الخطايا وضاقت عليه الأرض بما رحبت وتصاعدت نفسه ضيقا من غفلته أن قف
وتأمل ؛ إثمك الآن مضاعف : ظلم لنفسك وانتهاك لحرمة الزمن ، فاملك زمام نفسك
واكبح جماحها .. إن صدقت وصبرت في هذه الأشهر الحرم ، ومع تركك الذنب استكثرت
من الطاعات في هذا الموسم الذي خُصّ بالكثير من الخيرات ، بإذن الله متى ما
انتهت هذه الأشهر الحرم تكون النفس قد كرهت الذنب ومِنه أنفت ، فاستكثر من
الاستعانة بالله وسؤاله بما علّمنا في كتابه {اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في
قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين} .
وأيّنا ليس ذاك ، أيّنا من الذنوب في براء ! فلنغتنمها فرصة لتوبة جماعية نصوح
" وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ" .
للبر أبواب لا تحصى وللطاعة والخيرات أسهم لا تُعد ، فانظر إذا كان أجرها مضاعف
، وفي الأصل أن التقرب بشبر يوازيه تقربا بذراع فكيف يكون في هذه الأيام إذاً
؟! .
دعونا نتطهر ، ومن الذنوب نُعتق ..
دعونا نستكثر ، ومن ربنا نتقرب ..
وفي غمرة انشغالنا بملأ الصحف بالحسنات ، وتفريغها من السيئات .. لا ننسى إخوة
لنا في العقيدة ما راعى فيهم المعتدي حرمة دم ولا زمن ، استفحل فيهم المُصاب ..
فلربما بل يقينا إذا اهتدينا وعلى طريق الحق سرنا ، تركنا الذنب وإلى الطاعة
اتجهت ركابنا ؛ دعائنا يكون أقرب للإجابة ، وحالنا لربنا أرضى فعلّنا نكون سببا
في تعجيل النصر لهم وكشف الكربة عنهم .