بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم .
أما بعد :
قال سهل بن عبد الله : ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي ، لأن
آدم نُهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليھ ، وإبليس أُمر أن يسجد
لآدم فلم يسجد فلم يتب عليھ .
قلت : هذه مسألة عظيمة لها شأن وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من
ارتكاب المناهي ، وذلك من وجوه عديدة :
الوجه الأول / ماذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس .
الوجه الثاني / أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة
والحاجة ، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة ، ولا يدخل
الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر (١) ، ويدخلها من مات على
التوحيد وإن زنى ويرق (٢) .
الوجه الثالث / أن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المنهي ،
كما دل على ذلك النصوص كقوله ﷺ :( أحب الأعمال إلى الله تعالى الصلاة
على وقتها ) (٣) .
الوجه الرابع / أن فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهي مقصود
لتكميل فعل المأمور ، فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو
يضعفه وينقصه ، كما نبه سبحانه على ذلك في النهي عن الخمر والميسر
بكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة ، فالمنهيات قواطع وموانع صادة
عن فعل المأمورات أو عن كمالها ، فالنهي عنها من باب المقصود لغيره ،
والأمر بالواجبات من باب المقصود لنفسه .
الوجه الخامس / أن فعل المأمورات من باب حفظ قوة الإيمان
وبقائها وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الإيمان ويخرجها عن
الإعتدال ، وحفظ القوة مقدم على الحمية ، فإن القوة كلما قويت دفعت
المواد الفاسدة وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة ، فالحمية مرادة لغيرها
وهي حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها ، ولهذا كلما قويت قوة الإيمان دفعت
المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها ، وإذا ضعفت
غلبت المواد الفاسدة ، فتأمل هذا الوجه .
الوجه السادس / أن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته
وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه ، وترك المنهيات بدون ذلك لايحصل له
شيئاً من ذلك ، فإنه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال
المأمور بها لم ينفعه ذلك الترك شيئاً وكان خالداً مخلداً في النار .
الوجه السابع / أن فعل المأمورات والمنهيات فهو إما ناج إن غلبت
حسناته سيئاته ، وإما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته
فمآله إلى النجاة وذلك بفعل المأمور .
ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج ولا ينجو إلا بفعل
المأمور وهو التوحيد .
الوجه الثامن / أن المدعوإلى الإيمان إذا قال : لا أصدق ولا
أكذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غيره ، كان كافراً بمجرد
الترك والإعراض ، بخلاف ما إذا قال : أنا أصدق الرسول ﷺ وأحبه وأؤمن به
وأفعل ما أمرني ، ولكن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما
نهاني الله عنه وأنا أعلم أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي ولكن لا صبر
لي عنه ، فهذا لا يعد كافراً بذلك ، ولا حكمه حكم الأول ، فإن هذا مطيع
من وجه ، تارك المأمور جملة لا يعد مطيعاً بوجه .
الوجه التاسع / أن الطاعة والمعصية أنما تتعلق بالأمر أصلاً ،
وبالنهي تبعاً ، فالمطيع ممتثل المأمور ، والعاصي تارك المأمور .
قال عمرو بن العاص عند موته : أنا الذي أمرتني فعصيتُ ، ولكن لا إله
إلا أنت .
الوجه العاشر / أن امتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة ، وتلك
العبادة التي خُلق لأجلها الخلق ، كما قال ﷻ :( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
والإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : ٥٦ ] فأخبر سبحانه أنه إنما
خلقهم للعبادة ، وكذلك إنما أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه
، فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها ولم يخلقوا لمجرد الترك فإنه أمر
عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم ، بخلاف امتثال المأمور فإنه أمر وجودي
مطلوب الحصول .
الوجه الحادي عشر / وهو أن المطلوب بالنهي عدم الفعل وهو أمر
عدمي ، والمطلوب بالأمر إيجاد فعل وهو أمر وجودي ، فمتعلق الأمر
الإيجاد ، ومتعلق النهي الإعدام أو العدم وهو أمر لا كمال فيه إلا إذا
تضمن أمراً وجودياً .
الوجه الثاني عشر / وهو أن الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على
أقوال :
أحدها : أن المطلوب به كف النفس عن الفعل ، وحبسها عنه وهو أمر وجودي .
وقال أبو هاشم وغيره : بل المطلوب عدم الفعل ، ولهذا يحصل المقصود من
بقائه على العدم ، وإن لم يخطر بباله فعل ، فضلاً أن يقصد الكف عنه ،
ولو كان المطلوب المف لكان عاصياً إذا لم يأت به ، ولأن الناس يمدحون
بعدم فعل القبيح من لم يخطر بباله فعله والكف عنه .
وقالت طائفه : المطلوب بالنهي فعل الضد فإنه هو المقدور وهو المقصود
للناهي .
الوجه الثالث عشر : وهو أن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده من طريق
اللزوم العقلي لا القصد الطلبي ، فإن الآمر إنما مقصوده فعل المأمور .
الوجه الرابع عشر / أن الأمر والنهي في باب الطلب نظير النفي
والإثبات في باب الخبر ، والمدح والثناء لا يحصلان بالنفي المحض إن لم
يتضمن ثبوتاً ، فإذا تضمن ثبوتاً صح المدح فيه .
الوجه الخامس عشر / أن الله سبحانه جعل جزاء المأمورات عشرة
أمثال فعلها ، وجزاء المنهيات مثلٌ واحدٌ وهذا يدل على أن فعل ما أمر
الله به أحب إليه من ترك مانهى عنه ، ولو كان الأمر بالعكس لكانت
السيئة بعشرة والحسنة بواحدة أو تساويا .
الوجه السادس عشر / أن المنهي عنه المقصود إعدامه ، وأن لا يدخل
في الوجود ، سواء نوى ذلك أو لم ينوه ، وسواء خطر بباله أو لم يخطر ،
فالمقصود أن لا يكون .
الوجه السابع عشر / أن فعل ما يحبه والإعانة عليھ وجزاءه
ومايترتب عليھ من المدح والثناء من رحمته ، وفعل مايكرهه وجزاءه
ومايترتب عليھ من الذم والألم والعقاب من غضبه ، ورحمته سابقة على غضبه
غالبة له ، وكل ماكان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب ،
فإنه سبحانه لا يكون إلا رحيماً .
الوجه الثامن عشر / أن آثار مايكرهه وهو المنهيات أسرع زوالاً
بما يحبه من زوال آثار ما يخبه بما يكرهه ، فآثار كراهته سريعة الزوال
وقد يزيلها سبحانه بالعفو وللتجاوز ، وتزول بالتوبة والإستغفار
والأعمال الصالحة ، ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفر غفر له
.
الوجه التاسع عشر / وهو أنه سبحانه قدّر مايبغضه ويكرهه من
المنهيات لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات ، فإنه
سبحانه أفرح بتوبة عبده من الواجد الفاقد ، والعقيم الوالد ، والظمآن
الوارد .
الوجه العشرون / أن المأمور به إذا فان فاتت الحياة المطلوبة
للعبد ، وهي التي قال الله ﷻ فيها :( يَأيهَا الذِينَ ءامَنُوا
اسْتَجِيبوا لله وللرَسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِما يُحْييكُم ) [الأنفال
: ٢٤]
وأما المنهي عنه فإذا وجد فغايته أن يوجد المرض ، وحياة مع السقيم خير
من موت .
الوجه الحادي والعشرون / وهو أن في المأمورات مايوجب فواته
الهلاك والشقاء الدائم ، وليس في المنهيات مايقتضي ذلك .
الوجه الثاني والعشرون / أن فعل المأمور يقتضي ترك المنهي عنه
إذا فعل على وجهه من الإخلاص والمتابعة والنصح لله فيه ، ومجرد ترك
المنهي لا يقتضي فعل المأمور ولا يستلزمه .
الوجه الثالث والعشرون / أن مايحبه من المأمورات فهو متعلّق
بصفاته ، ومايكرهه من المنهيات فمتعلق بمفعولاته .
وسر هذه الوجوه / أن المأمور به محبوبه ، والمنهي مكروهه ،
ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه ، وفوات محبوبه أكره إليه من
وقوع مكروهه ..
والله عزجلالة أجل وأعلم .
- للإستزادة الإطلاع على كتاب الفوائد لـِ ابن قيم الجوزية
( ص ١٢٨- ١٣٧ )
* رابط مفيد : كتاب " لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم"
http://t.co/OMM8i6oegN
------------------------------------------
(١) اقتباس من حديث صحيح أخرجه مسلم (٩١)
(٢) اقتباس من حديث صحيح أخرجه البخاري (١١٨٠)
(٣) اخرجه البخاري (٥٢٧)