|
رُويَ في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ، و عن أبي ذرّ رضي
الله عنه قالا : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أوى إلى فراشه قال : ((
باسمك اللهم أحيا و أموت )) ؛وإذا استيقظ قال:(( الحمدلله الذي أحيانا بعدما
أماتنا و إليه النّشور )).
الحمد لله الذي أحيانا : إنها أولُ كلمةٍ يهتفُ بها قلبُ المؤمن من يومه .
فحينما يلفُّ المؤمنَ سوادُ اللّيل فيخلدُ إلى الفراش ليستريح من تعب التّردّد
في حاجات يومه الطّويل ، يظلُّ قلبُهُ منزلاً للأنوار الهابطة إليه من المحلِّ
الرّفيع ، و يظلُّ مستعداً لأن يأخذ من ومضات النور الهابطة ما يأخذ به في
مسالك النّورانيّة الرّفيعة .
و حينما يسدلُ اللّيلُ ستورَه على الوجود ، تفرح قلوبُ الذين حادّوا اللهَ و
رسوله و المؤمنين بأنّ الورودَ الثّائرةَ قد خلدتْ إلى أكمامها بعد نفح الشّذا
و الطّيب .
و تطمئنُّ قلوبهم إلى أنّ رجالَ الأرض قد ناموا نومتهم الهادئة ، فيقومون في
هدأة اللّيل ليشعلوا نيرانَ حروبهم و أحقادهم في سكون العالم ....... هؤلاء
أعداؤنا يا سادة !!!!!
و لكن إذا ما انقضى من اللّيلِ ثلثُه أو أكثرُ من ذلك بقليل قام المؤمن الحقُّ
يمزّقُ أستارَ اللّيلِ بوثبةٍ من روحهِ عليّةٍ ، و يضيء أكنافَ اللّيل بأورادِ
اليقين ، مكتنفاً قلبَهُ الثائرَ بين جنبيه ، يمخرُ عبابَ الصّمت بقوله : ((
الحمد لله الذي أحيانا )) .
إنها الكلمةُ الأولى من يومٍ جديدٍ ..... و جميل .
إنها جذوةُ الإيمان الأولى التي تنبعث في سجاف اللّيل ليحتمل منها المؤمن قبساً
مشرقاً يصوغ منه منطلقَه المؤمنَ القويّ .
إنها الكلمة الأولى التي تقول للصّمت : ( أحلى من الصّمتِ .... قولُ الذين
يدعون إلى الله و يعملون الصّالحات ) .
إنها الحركةُ الأولى التي تقول للسّكون : ( أحلى من السّكونِ ... الانطلاقةُ
إلى الله ) .
إنها الوثبةُ الأولى التي تقولُ للهدوء : ( أحلى من الهدوء ...... الثّورةُ على
مضامين الجاهليّة ) .
إنّ لهذه الكلمة شعاعاً نورانيّاً يذكي قلبَ المؤمن بنور التّوحيد ، و يقدح فيه
زنادَ التّوجّه السّديد و السّلوك الرّشيد .
إنها الهروبُ من الدَّعةِ و الضّعف ثمّ إثباتُ القدم في أرض الإيمان .
إنها الإعلانُ للدّنيا بأسرها بأنهُ إذا نامتْ عينا مؤمنٍ فإنَّ قلبه لا ينام .
إنها الفرارُ إلى الله بقلبٍ راغبٍ يحدوهُ الشّوقُ إلى حضرةِ أنسه ، واللّهفةُ
للوصول إليه سبحانه ، ثمّ النّزولُ في محاريب قدسِه .
(( ففرّوا إلى اللهِ إنّي لكم منه نذيرٌ مبين ))
إنّ لهذه الكلمةِ سراً يجعلُ من البدءِ شيئاً آخر يصبغ سيرة المؤمن من يومه
الجديد بلون الإيمان و عطراً يعبق في وقت المسلم من شذاه ما يعطّرهُ و يطيّبه .
مازال إبليسُ و جنودُه في كلّ عصرٍ يزيّنون لنا الشّهوات و يبرزون الملذّاتِ
أمامَ أعيننا في أجمل حللها .
فإذا ما قال المؤذّنُ ( الصّلاةُ خيرٌ من النّوم ) ، نفث إبليسُ في رَوع المؤمن
أنّ النّومَ خيرٌ من ركعاتٍ قد تطول ، وإذا ما قال المؤذّنُ : ( حيَّ على
الصّلاة ) ، وسوسَ إبليسُ للنّفس المؤمنة بأنّ الرّاحةَ خيرٌ من القيام في
محاريب الإيمان و الذّكر الحكيم .
و ما زال حلفاءُ الشّيطانِ في كلّ عصرٍ يعلّمونَ الشّبابَ المسلم بأنّ يوم
المسلم إنما يبدأ من بعد طلوع الشّمس ، و بهذا انخدع الكثيرُ من المسلمين ،
فإذا قاموا من صبحهم إلى أعمالهم قاموا كسالى . و ما علموا أنّ يومَ المسلم
إنّما يبدأ من صيحةِ المآذن : ( الله أكبر ) .
ألا و إنّ المؤمنَ الذي لا يعيش لحظاتِ الفجر الجديد هو عدوٌّ للوقت ، و لن
يعطيَه الوقتُ ما يريد ، فلا بركةَ بعد ذلك في عمره و لا انفساحَ في أيّامه و
وقته .
و إنّ المؤمن الذي لا يستيقظ على صوت دقّات الصّبح على باب كلّ يوم ، فلن
يستشعر في قلبه بعد ذلك حلاوةَ المشي في مناكب الأرضِ و الأكل من رزقها .
وإنّ المؤمن الذي لا يعيش تلك اللّحظات الجميلة الّتي تشرقُ فيها شمسُ الطبيعة
فتملأ بشعاعات النور مسالكَ الحياة ، لن تشرقَ شمسُ الحقيقة في قلبه من يومه ،
فقلبُه بعد ذلك قعرُ بئرٍ مظلمة .
فإذا ما هجر المؤمنُ فراشَه و أوى إلى محرابِ التّوحيد ثم تلا فيه من آيات
الكتاب البيّنات أحسَّ بالنّشوة تسري في أوصاله و تعمرُ كيانَه .
ألا إنّه ندى الإيمان المتساقط من المحلِّ الرّفيع الأعلى على القلب الفقير ، و
النّورُ النّازلُ من قبّةِ الكأسِ الأوفى إلى القلب الطّهور ، و لن يطهرَ قلبٌ
و يصفو إلا بذينكَ الوافدين .
فإذا ما قام المؤمنُ فدخلَ مسجدَ التّوحيد و المناجاة وصفَّ قدميهِ في محراب
العبوديّة ، تحسّستْ منه الجوارحُ و الأعضاءُ بردَ اليقين ، ثم استباحتْ خلاياه
_بعد ذلك _ وارداتُ الهدى ، حينها تهتفُ كلُّ حجيرةٍ فيه : ( لا إله إلا الله )
و كلُّ خليّةٍ فيه ( محمدٌ رسولُ الله ) ، ثم تستقرُّ خلجاتُ نفسه على صدى (
ألا بذكرِ الله تطمئنُّ القلوب ).
الحمد لله الذي أحيانا : لنسعى في ركابِ الحياةِ حاملينَ لواءَ التّوحيد .
الحمد لله الذي أحيانا : لنعطّرَ مسالكَ الوجودِ بعَرفٍ من شذا الهدى و الإيمان
.
الحمد لله الذي أحيانا : ليكونَ كلُّ واحدٍ منّا حراءً جديداً تنطلقُ منه
صيحاتُ الهدى فتعمر الأرضَ بالهتافِ الخالد : لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله
الحمد لله الذي أحيانا : حتى إذا جاءنا الموتُ بعد ذلك كان حبيباً جاء على شوق
.
الحمد لله الذي أحيانا : ليكون كلُّ واحدٍ منّا هجرةً إلى الله و رسوله ، و
غارَ ثورٍ جديداً يسوقُ الخيرَ إلى العالمينَ سوقاً ، و يقودُ الحيارى في ركاب
النّور، و يهدي التّائهينَ إلى منازلِ الرّحمن ، حاملاً في قلبه آيَ الكتابِ و
في يديه ورودَ الإسلام .
حينها ستهتفُ له كلُّ ذرّةٍ في الأرض و حبّةٍ في السّماء : ( طلعَ البدرُ علينا
) .
كتبها الغنيُّ بمولاه : أنس إبراهيم الدّغيم
جرجناز / معرّة النعمان / سوريا
14 جمادى الأولى 1425 هـ