|
الحمد لله الذي خَصَّ الأمة المحمدية بشرف الإسناد ، وأعلى مقام الكتاب الكريم
والسنة المطهرة في كل نادٍ ، ويسر لمن استهداه سبيل الهدى والرشاد ، وأقام
علماء المسلمين من فقهاء ومحدثين حراساً أمناء على حفظ حديث خير العباد ، نبينا
محمدٍ صلى الله عليه وسلم المصطفى والرسول الأمين المجتبى .
اللهم صلِّ أفضل صلاةٍ وسلم أكمل سلامٍ على سيدنا محمد الذي جاء بالدين القويم
والصراط المستقيم وعلى آله وأصحابه الميامين ، الذين استمعوا كتاب الله وحديث
نبيه خير استماع واتبعوه أحسن اتباع ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد :
فلطالما غفل الكثير من طلاب العلم في أيامنا هذه ــ إلا من رحم ربك ــ عن أمر
ما رأيت شيئاً هو أعظم دفعاً في قلب طالب العلم ، ولا أمضى في علاج آفاته ، ولا
أكثر عوناً على القول المقترن بالعمل ، والعمل المقترن بالإخلاص ، والإخلاص
المقترن بالتواضع ، أقول ما رأيت أمراً هو أجدى في ذلك كله من هذا الأمر الذي
دفعني حقيقة إلى أن أكتب هذا الكتاب ، وأبذل فيه جهدي طالباً من الله سبحانه
العفو عن الذلل والتقصير .
إذ كلما كان طالب العلم على معرفة ودراية ، بأحوال الرجال وتراجمهم وسيرهم ،
كلما علت همته وقويت حافظته واهتدى قلبه وتنور بصره وبصيرته ، فهو إذا رأى عظيم
شأنهم ، وكثرة رحلتهم في طلب العلم ، وتكبدهم المشقات ، وتعدد فنونهم وعلومهم ،
وطول سهرهم وقيامهم ، وحالهم مع ربهم وورعهم ، نظر إلى تقصيره واحتقر عمله
واستصغر شأنه ، فشدّ مئزره وقام يلحق القوم ويسير على قدمهم ، ويخطو خطواتهم .
ولقد عُرِفَ علماء المسلمين بحبهم للرحلة في طلب العلم والإسناد العالي ، فنرى
أحدهم يسافر من بلد إلى بلد ليجلس بين يدي أحد العلماء الكبار ليأخذ عنه حديثاً
أو حديثين لا يجدهما عند غيره من العلماء ، واقرأ كتاب ( الرحلة في طلب الحديث
) للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي ترى
العجب العجاب من أمر علماء المسلمين ، وشدّة حرصهم على العلم والإسناد العالي
في الحديث الشريف .
ورحم الله أبا الفضل العباس بن محمد الخراساني إذ ينشد فيقول :
رحلتُ أطلبُ أصل العلمِ مجتهداً
وزينة المرءِ في الدنيا الأحاديثُ
لا يطلب العلم إلا باذلٌ ذكرٌ
وليسَ يُبغضُهُ إلا المخــانيثُ
لا تُعجَبَنَّ بمالٍ ، سوف تتركُه
فإنما هـذه الدنــيا مواريثُ
إذ لما كان للإسناد أهمية كبيرة في صيانة الشريعة من التحريف
والتبديل ، وحفظها من الزيادة أو النقص ، إذ بوساطته يمكن الاعتماد على صحة
الحديث أو ضعفه ، أو أنه خبر موضوع لا أصل له ، لأننا حين نسمع بالخبر نعود إلى
طريقه وهو السند ، فنتعرف على رجاله وأحوالهم وصفاتهم ، ونبحث عن أخلاقهم ومدى
صدقهم والتزامهم لدينهم ، وعن صلة بعضهم ببعض وإمكان نقله عنه ونحو ذلك ،
وعندها نقبل الحديث أو نرده ، بناءً على ما نتوصل إليه بنتيجة البحث والتمحيص ،
ولولا السند والإسناد لما كان بالإمكان معرفة شيء من ذلك .
وهذه الطريقة في رواية الأخبار بالسند لم تكن معروفة قبل الإسلام ، حتى إذا جاء
الإسلام وجدنا أن المسلمين يقررون : أن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون
دينكم ، ويقررون : أن الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ،
ويقررون : أنه لا يؤخذ بالخبر ، ولا يضاف إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا
إذا عرف من حدث به عنه ، ومن نقله إلينا ، وعرف حاله من الصدق والضبط وقوة
الحفظ .
وإذا كان الإسناد في الأخبار من خصائص هذه الأمة الإسلامية ، فذلك مزيد فضل
الله تعالى الذي امتن به عليها إذ وعدها بحفظ ما أوحى به إلى نبيها عليه الصلاة
والسلام من تشريع فقال جل وعلا : { إنـَّا نحن نزَّلنا الذِّكرَ وإنـَّا له
لحافظون } [ الحجر9 ] ، وإذا كان الذكر هو القرآن الكريم ، فإن حديث النبي عليه
الصلاة والسلام هو المبين له ، والمفصل لأحكامه ، فكان حفظه بحفظه .
واسمع لكلام الإمام الشافعي رضي الله عنه إذ يقول : ( مثل الذي يطلب الحديث بلا
إسناد كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى وهو لا يدري ! ) وقال بعض الحفاظ
: ( مثل الذي يطلب دينه بلا إسناد مثل الذي يرتقي السطح بلا سلم ، فأنى يبلغ
السماء ! ) ، وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى : ( ما ذهاب العلم إلا ذهاب
الإسناد ) ، وقال الحافظ يزيد بن زُرَيْعٍ رحمه الله تعالى : ( لكل دين فرسان ،
وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد ) ، وهذا أبو العالية يقول : ( كنا نسمع
بالرواية عن أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم بالمدينة بالبصرة فما نرضى حتى
أتيناهم فسمعنا منهم ) ، وقال الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول
: ( طلبُ علوِّ الإسنادِ من الدين ) .
فإذن خصيصة الإسناد هذه أهم خصائص الأمة المحمدية ، فقد كان السند هو الشرط
الأول في كل علم منقول فيها ، حتى الكلمة الواحدة ، يتلقاها الخالف عن السالف ،
واللاحق عن السابق بالإسناد .
عن مقدمة كتابي ( الأمالي في أعلى الأسانيد
العوالي ).
تأليف حسام الدين سليم الكيلاني
طبع دار القلم العربي بحلب