يبحث علم الكلام في الأدلة اليقينية المتعلقة بالعقائد الإسلامية ، وهذه الأدلة
مبناها العقل المستند إلى المنطق أساساً ، وقد يأخذون بما تدل عليه النصوص
القطعية فقط وفقاً لمعاييرهم . ويُعرف هذا العلم أيضاً بعلم التوحيد وعلم
العقائد وعلم أصول الدين ، لأنه يركز على الدلائل القطعية ولا يأخذ بغيرها ،
فهو يرد أحاديث الآحاد مثلاً لأنها ظنية الثبوت وفقاً لهذا العلم . وقد سُمي
بعلم الكلام لأن المشتغلين به صنعتهم الكلام والجدل ، أو لأن اعظم مسائله التي
جرى عليها الخلاف كانت صفة الكلام لله تعالى .
أدى علم الكلام إلى انقسام المسلمين عقائدياً إلى فرق شتى ، منها الجهمية
والمعتزلة والماتريدية والأشاعرة والاباضية والامامية والزيدية وغيرهم كثير .
ووقف أئمة السلف وعلماؤهم في وجه هذه الفرق وشنّعوا عليهم وفنّدوا أقوالهم
بالعقل والنقل ، وطالبوهم بالكف عن ذلك والرجوع إلى النبع الصافي نصوص القرآن
والسنة . والمتتبع لهذه الفرق يرى أن الاختلاف بينها هو في فروع العقائد وليس
في أساسها المتفق عليه بين الجميع . فتراهم اختلفوا في صفات الله وأين يوجد ،
وفي القضاء والقدر ومعنى ذلك ، وهل الإنسان مسير أم مخير ، وفي معنى الإيمان
وهل الأعمال منه ، واختلفوا في طريق الإيمان هل هو واجب بالعقل أم لا ، إلى غير
ذلك من الاختلافات الفرعية . وقد اندثرت كثير من هذه الفرق وبقي بعضها إلى
عصرنا الحاضر .
طريقة علم الكلام
يستند علم الكلام في أدلته وبراهينه على علم المنطق بشكل أساسي ، فهو يقرر
مسلمات معينة ثم ينطلق منها في إقامة البراهين من خلال مقدمات معينة . ولهذا
العلم مصطلحاته الخاصة التي تحجَّر عليها اتباعه إما بسبب عدم وضوحها ، أو
لرغبتهم في عدم مخالفة أسلافهم والاحتفاظ باستقلالية هذا العلم . فالجوهر الفرد
مثلاً هو الجزء الذي لا يتجزأ وتتكون منه الجواهر أي الأجسام أو المواد بلغة
عصرنا . ولا يستطيع المعاصرون أن يقرروا هل هو الذرة مثلاً أو الجزيء أو
الإلكترون أو غير ذلك . فهم يقولون بأنه اصغر جزء يمكن تخيله وهو متحيز لكن ليس
له مكان . وربما كان هذا ينطبق على الإلكترون الذي يتحرك بشكل موجي وليس له
مكان محدد بالضبط ، لا ندري ! .
الضربات التي تلقاها علم الكلام
لاقى علم الكلام مواجهة عنيفة من أئمة السلف وعلمائهم ، أدت أحياناً إلى تقوية
العلم وزيادة تمسك اتباعه به . لكنه تلقى ضربتين موجعتين جداً كان لهما الأثر
البالغ في صرف الناس عنه أو ضعف مواقفه . وتأتي أهمية هاتين الضربتين من كونها
أثَّرتا في اصل هذا العلم والأساس الذي يقوم عليه وهو المنطق والعقل بمفهوم هذا
العلم .
الضربة الأولى كانت على يد شيخ الإسلام ابن تيمية
الذي عمد إلى نقض المنطق ونسفه من أساسه ، وبيان انه لا فائدة ترجى منه ، وانه
لم يأخذ به علماء الأمة المعتبرين في أصول الفقه . كما انه رد عليهم على نفس
الصعيد في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل والذي جمع فيه آراء الأولين
والآخرين ، ولم يصدر عليه رد معتبر إلى الآن . إلا أن ابن تيمية رحمه الله قد
بدا وكأنه يسلم لهم اعتبار أفكارهم صادرة من العقل وذلك لأنه ناقشهم بنفس
الأسلوب ، هذا على الرغم من أنه يرى أن العقل هو الغريزة أو العلوم المستفادة
للتمييز بين الخير والشر . وعلى الرغم من ذلك فقد شنع عليهم اعتبار القواطع
العقلية في زعمهم هي الأساس ، فقد نقض ذلك ونقده نقداً شديداً معتبراً أن القول
بان السمع ليس قطعياً دونه خرط القتاد .
أما الضربة الثانية فكانت على يد الشيخ تقي الدين
النبهاني من المعاصرين ، والذي اعتبر أفكار علم الكلام بأنها غير عقلية مطلقاً
لان العقل لا يمكن أن يعمل في المغيبات ، هذا بالإضافة إلى موافقته ابن تيمية
اعتبار المنطق أسلوباً عقيماً غير منتج أبداً ويجب تركه . وهذا الضربة كسابقتها
هي في صميم علم الكلام لأنها نسفت الأصل العقلي الذي يقيمون عليه أفكارهم ،
وكادت أن تقضي عليه لولا أن فكر النبهاني رحمه الله لم ينتشر بشكل واسع بسبب
اشتغاله بالسياسة ، وعدم قيام اتباعه بنشر فكره وشرحه ، هذا بالإضافة إلى
التزامه بأصول كلامية لقيت معارضة شديدة . منها وجوب الإيمان عن طريق العقل فقط
، واقتصار الإيمان على التصديق الجازم الذي يقتضي العمل ، وتحريم الأخذ بأخبار
الآحاد في العقائد ، ورأيه الغريب في القضاء والقدر الذي اعتبره ركناً من أركان
الإيمان على الرغم من عدم ورود دليل عليه من الكتاب والسنة سوى أن معناه ثابت .
فقد اعتبر أن القضاء والقدر هو أفعال الإنسان التي تَحدُث جبراً عنه ،
والخاصيات التي يُحدثها هو في الأشياء ، وهذه كلها ليست من الإنسان ، وانه مخير
في أفعاله الاختيارية الأخرى . هذا بالإضافة إلى عدم رواج تعريف العقل الذي قال
به ولم يجد قبولاً واسعاً عند الناس ، ربما لعدم وضوحه أو انطباقه .
هل نحن في حاجة إلى علم الكلام؟
تكشفت في عصرنا الحاضر الكثير من الحقائق العلمية ، وظهرت معارف جديدة متنوعة ،
مما جعل الحاجة ماسة إلى مواجهة هذا الكم الهائل من المعلومات والنظريات بطريقة
تخدم الدين بشكل فعال ومنتج . ولا بد من الاعتراف بان هذا لا سبيل إليه إلا
بالتفكير الصحيح المنتج ، ولا يكون أبداً عن طريق المنطق ولا أساليب علم الكلام
، لأنه لا قِبَل لها بهذا الكم المتزايد من المعلومات . ومن اجل خدمة الدين
والمساعدة على نشره بشكل واعي فلا بد لنا إما أن نلغي علم الكلام ، أو أن نجري
عليه تعديلات جوهرية في الشكل والمضمون . إذ صار من المناسب أن يُطلق عليه علم
العقائد لأنه في حاجة إلى مواجهة نظريات فلسفية وعملية جديدة ، وصار في حاجة
إلى استخدام طرق وأساليب جديدة تناسب العصر وتخاطبه بلغته التي يفهمها . ولهذا
فإني أرى ما يلي :
• إلغاء المنطق أو جعله جزءاً من علم العقائد لمن
تهواه نفسه ويميل إليه تفكيره . فالمنطق نظام مغلق غير منتج ، والإبقاء عليه
يعني الإبقاء على علم العقائد نظاماً مغلقاً إلى ابد الآبدين . كما أن المنطق
عالة على الفكر الصحيح ، وقد رفضه أحفاد اليونان الغربيين أنفسهم ؛ فمنهم من
اعتبره وُلد ميتاً ، ومنهم من اعتبره ولد كاملاً ولم يتقدم خطوة إلى الإمام ،
ومنهم من اعتبره من موضوعات البلاغة ، بل قد عده بعضهم صنماً يحرف عن التفكير
الصحيح .
• إعادة النظر في مفهوم العقل ، لا سيما على ضوء
ما استجد من حقائق علمية عن التفكير وتركيبة الدماغ . وقد بيَّنتُ في اكثر من
مقالة أن الفكر الإسلامي مصدر رحب لذلك ، وان رؤيته لمعنى العقل رؤية ليس لها
مثيل ، وهذا ما جعلني اقرر مثلاً بان المقصود بنقصان عقل المرأة ليس هو ما درج
عليه الناس على مر العصور من انه نقص في قدراتها العقلية ، بل الموضوع أوسع من
ذلك واعمق . وقد يكون الانطلاق من تعريف النبهاني مفيداً جداً لان العقل لا
يمكنه التفكير في المغيبات ، وإذا فعل فلا سبيل إليه إلا من خلال المحسوس .
وأفكار علم الكلام تخالف ذلك بشكل صريح ، من هنا لا نستبعد أن تكون أفكاره
بعيدة عن الواقع .
• وهذا يقودنا إلى ضرورة التركيز على القرآن
الكريم والسنة المطهرة بما فيهما من مظاهر الإعجاز الفكري والعلمي . غير أن
الإعجاز الفكري هو اقرب إلى حضارة الأمة وفكرها من الإعجاز العلمي الذي يُعتبر
عالة على ما ينتجه الغرب فقط ، وحتى لو أجرى علماء المسلمين أبحاثاً فلن تمر
دون موافقة الغرب لها . أما الإعجاز الفكري فينطلق من فهمنا للقرآن والسنة
والفكر الإسلامي وبما استجد من حقائق بشكل جزئي نستأنس به على ما عندنا .
• ضرورة جعل نصوص القرآن والسنة هي المعتمد
والمرجع لا ما نتوصل إليه بالعقل المستند إلى المنطق ، لان هذا الأخير يحتاج
إلى مرجعية تصححه ، ومَنْ غير القرآن والسنة يكون مرجعاً يُفتخر به ! .
• عدم تقييد الناس بالإيمان عن طريق العقل ،
فواقع العقائد الإسلامية انه يمكن تقبلها وعشقها بمجرد معرفتها والتعايش معها .
فليعتنقها من شاء بالطريقة التي يشاء ، سواء كانت بالعقل أو بغيره .
• أن يجتمع أصحاب المذاهب العقائدية الإسلامية
على كلمة سواء بينهم فهم أولى بها ، وان يتجادلوا بالتي هي احسن ، وان يحتكموا
إلى الكتاب والسنة من اجل كشف الحقائق بموضوعية . وليس لهم إلا التفكير
المتوازي المتعاون فهو السبيل إلى كشف الحقائق التي تخدم الدين والمسلمين وتجمع
الكلمة .
• الاعتماد على الواقع في التفكير بدلاً من الخوض
في فرضيات وتخيلات لا أساس لها . فالذين يقولون مثلاً أن الله لا داخل العالم
ولا خارجه ، يمكن أن يقال لهم وهو في العالم وخارجه معاً ، أو مرة هنا ومرة
هناك ، أو في أي منها بشكل لا نتصوره . على أن هذا القول النظري ترد عليه
إشكاليات منها أين الله قبل خلق العالم ، هل كان أيضا لا داخل العالم ولا
خارجه؟ وهذا القول هو باعتبار العالم فقط . كذلك من يقول أن الله لا تحده حدود
، فبعد خلقه العالم ماذا حصل لهذا الواقع؟ . كذلك القول بأنه قديم هو باعتبار
العالم ، فهل الحكم مستمر قبل ذلك ، والنسبة لا تكون إلا إليه؟ والمقصود أن
التفكير في المغيبات ترد عليه إشكاليات كثيرة تبدو متناقضة يهدم بعضها بعضاً
لأنها تفتقر إلى المرجعية . لهذا ليس من طريق سليم إلا الالتزام بنصوص الكتاب
والسنة والعض عليها بالنواجذ .
• التوقف عن السب والشتم والتجهيل فهذا من أمارات
نقصان العقل ! .