بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
كان القاضي في عصور الخلافة الإسلامية ذا مكانة مرموقة وحساسية في آن واحد
.
وذلك لأهمية الدور الذي يلعبه في تسوية المنازعات والخلافات وغير ذلك مما
يتعلق ( بتنظيم أمور المسلمين وأوضاعهم الاجتماعية ) . ومنصب القاضي كان ذا
حصانة جعلته يتمتع بقدر من الاستقلال عن السلطة السياسية . فالحاكم ، الذي
يعين القاضي ، كان يحرص على حسن اختياره له ، ثم لا يجد بداً من إطلاق يده
في أمور الفتاوى الشرعية وفي جميع ما يتصل بعلوم القضاء والفقه ، وما شابه
ذلك.
إن هذا جعل للقاضي سلطة موازية للسلطة السياسية ، حتى قيل : لا شرف في
الدنيا بعد الخلافة أشرف من القضاء.
ونسب إلى النبي ﷺ قوله :( مامن أحد أقرب مجلساً من الله يوم القيامة ، بعد
ملك مصطفى ، ونبي مرسل ، من إمام عدل ).
أما الخصال التي ينبغي توفرها في القاضي فكثيرة ، وأولها العلم والورع .
وقد نقل عن مالك بن أنس قوله " إن الخصال التي لا يصلح القضاء إلا القضاء
بها لا أراها تجتمع اليوم في واحد ". ولذلك كان الفقهاء من أهل التقوى
والعلم كثيراً ما يستنكفون عن تولي مهمة القضاء ، لما يشعرون به من الخشية
في ألا يحسنوا تدابير شؤونه بما يتناسب مع مقتضيات الشريعة وموجباتها ، وكي
يتجنبوا تالياً خطر الوقوع في الخطأ ، حيث الخطأ عظيم إذا ما صدر عن هذا
الموقع الحساس .
لقد فر الكثيرون من الفضلاء الورعين من القضاء عندما دعوا إلى توليه ،
ومنهم الإمام أبو حنيفة ( النعمان بن ثابت ) ، دعاه عمر بن هبيرة لتولي
القضاء ، فأبى . فحبسه وضربه أياماً ، كل يوم عشرة أسواط ، وهو متماد في
إبائه ، إلى أن تركه.
وكان عبدالله بن فروخ الفارسي ، فقيه القيروان في وقته ، لا يرغب في القضاء
، وكان يقول : " قلت لأبي حنيفة : ما منعك أن تلي القضاء ؟ فقال لي : يا
فروخ ، القضاة ثلاثة : رجل يحسن العوم ، فأخذ البحر طولاً ، فما عساه أن
يعوم ، يوشك أن يكل فيغرق . ورجل لا بأس بعومه ، عام يسيراً فغرق . ورجل لا
يحسن العوم ، ألقى بنفسه في الماء ، فغرق من ساعته ".
ومن غريب ما يروى أن رجلاً من أهل سرقسطة في الأندلس ، هو قاسم بن ثابت بن
عبدالعزيز الفهري ، دعي للقضاء ببلده ، فامتنع عن ذلك. ولما اضطره الأمير
وعزم عليه ، استمهله ثلاثة أيام ، فيستخير فيها الله ، فمات خلال تلك
المدة. فكأن الناس يرون أنه دعا الله تعالى أن يكفيه أمر القضاء ، فكفاه
وستره. وصار حديثه موعظة في زمانه.
هكذا كان الفقهاء والعلماء من أهل التقوى يتخوفون من تولى القضاء. وكانوا -
إذا ما تولوه - يحترزون إلى أبعد حدود الاحتراز ، فيما يتعلق بسلوكهم
وتصرفاتهم ، حتى أن الكثير منهم كانوا يتخلون عما كان لهم قبل القضاء من
حرية التمتع بمباهج الحياة ، يتخلون عنه ليذهبوا مذهب التقشف في العيش.
كأنما القاضي أراد بذلك أن يقدم مثالاً للاستقامة في السلوك والتقوى
والعلم.
وقد عزف كثير من الأئمة عن تولي القضاء ، بل وقبَل بعضهم بالضرب والسجن على
توليه ، وهرب بعضهم من بلده من أجل أن لا يتولى القضاء ، ويمكن إجمال أسباب
عزوف أولئك الأئمة عن القضاء بالأسباب التالية :
1. أنه يرى نفسه ليس أهلاً للقضاء ، فالمعروف
عن القضاء أنه يحتاج لسعة بال ، وذكاء ، وفطنة ، وقد يرى الإمام العازف عن
القضاء نفسه غير محقق لتلك الشروط .
قال الشيخ علاء الدين الطرابلسي – رحمه الله - :
قال بعض الأئمة : وشعار المتقين " البعد عن هذا والهرب منه " ، وقد ركب
جماعة ممن يقتدى بهم من الأئمة المشاق في التباعد عن هذا وصبروا على الأذى
.
وانظر إلى قضية أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في الامتناع منه وصبره على
الإيذاء حتى تخلص ، وكذا غيره من الأئمة .
وقد هرب أبو قِلابة إلى مصر لما طلب للقضاء فلقيه أيوب فأشار إليه بالترغيب
فيه ، وقال له : لو ثبتَّ لنلتَ أجراً عظيماً ، فقال له أبو قلابة : الغريق
في البحر إلى متى يسبح ؟ ! .
وكلام أبي قلابة هذا ومن تقدمه وما أشبه ذلك من التهديد والتخويف : إنما هو
في حق من علم في نفسه الضعف ، وعدم الاستقلال بما يجب عليه ، وكذلك من يرى
نفسه أهلا للقضاء والناس لا يرونه أهلا لذلك .
وقد قال بعض العلماء : لا خير فيمن يرى نفسه أهلا لشيء لا يراه الناس أهلا
لذلك .
والمراد بالناس : العلماء ، فهرُبُ مَن كان بهذه الصفة عن القضاء واجب ،
وطلبه سلامة نفسه أمر لازم .
" معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام " ( ص 9 ) .
2. أنه يرى أنه غير واجب عليه ، ولا مستحب ،
بل إن قولاً للإمام أحمد يحتمل أن يكون معناه : أنه لا يجب عليه حتى لو
تعيَّن الأمر عليه ، ولم يوجد غيره .
3. أن فيه خطراً في الحكم بخلاف الحق ، فيخشى
العالِم على نفسه من تولي القضاء من أجل ذلك .
قال ابن قدامة – رحمه الله - :
"وفيه – أي : القضاء - خطر عظيم ، ووزر كبير ، لمن لم يؤدِّ الحق فيه ،
ولذلك كان السلف رحمة اللّه عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع ، ويخشون على
أنفسهم خطره" .
" المغني " ( 11 / 376 ) .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 33 / 289 ، 290 ) :
"كان كثير من السلف الصالح يحجم عن تولّي القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع
حتى لو أوذي في نفسه ؛ وذلك خشيةً من عظيم خطره ، كما تدلّ عليه الأحاديث
الكثيرة والتي ورد فيها الوعيد والتخويف لمن تولى القضاء ولم يؤدّ الحق فيه
، كحديث : ( إن الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلى عنه ولزمه
الشيطان ) ـ [ رواه الترمذي وابن ماجه ، وحسنه الألباني ] ـ ، وحديث : ( من
ولي القضاء أو جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكّين ) – [ رواه أبو داود والترمذي
وابن ماجه ، وصححه الألباني ] - ، وحديث : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في
النار ، وقاض في الجنة ، رجل قضى بغير الحقّ فعلم ذاك فذاك في النار ، وقاض
لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار ، وقاض قضى بالحقّ فذلك في الجنة )
– [ أخرجه الترمذي ( 3 / 604 ) والحاكم ( 904 ) من حديث بريدة ، واللفظ
للترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ] - . انتهى
4. عدم القدرة على تحمل بلاء القضاء .
قال الشيخ أبو الحسن النباهي – رحمه الله - :
"ولما تقرر من بلاء القضاء : فرَّ عنه كثير من الفضلاء ، وتغيبوا ، حتى
تركوا ، وسُجن بسببه عند الامتناع آخرون " .
" تاريخ قضاة الأندلس " ( ص 7 ) .
5. انشغالهم بما هو أهم ، كانشغالهم بالرحلة
في طلب العلم ، وتعليم الناس .
وأخيراً : إذا كان الأئمة الأربعة – كما يروى عنهم - قد امتنعوا عن
القضاء : فإن الأنبياء الكرام عليهم السلام والخلفاء الراشدين الأربعة قد
تولوه ، وباب الورع واسع لمن أراد التورع عنه .
ففي " الموسوعة الفقهية " ( 33 / 290 ) :
"فقد تقلده – أي : القضاء - بعد المصطفى صلوات الله عليه وسلامه الخلفاء
الراشدون ، سادات الإسلام وقضوا بين الناس بالحقّ ، ودخولهم فيه دليل على
علوّ قدره ، ووفور أجره ، فإن من بعدهم تبع لهم ، وَوَلِيَهُ بعدهم أئمة
المسلمين من أكابر التابعين وتابعيهم ، ومن كره الدّخول فيه من العلماء مع
فضلهم وصلاحيتهم وورعهم ، محمول كرههم على مبالغة في حفظ النفس ، وسلوك
لطريق السلامة ، ولعلهم رأوا من أنفسهم فتوراً أو خافوا من الاشتغال به
الإقلالَ من تحصيل العلوم" .
انتهى