مإن سمعنا المؤذن يقيم الصلاة حتى كبر الإمام وتبعه المصلون و قرأ
الإمام الفاتحة بصوته الشجي ثم هدأ قليلاً ليبدأ بعدها قراءة آيات مباركات ...
يا أيها الذين آمنوا ... وتوقف قليلاً .. قلت في نفسي : لم توقف ؟ هل نسي ما
يود قراءته؟ ... فليبدأ بأية آية غيرها ، فلم يزل في البداية . لكنه كررها مرة
أخرى وكأنه ينادينا بصوت يخرج من أعماق قلبه " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً
؟ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، ولن تجد لهم نصيراً ........ " كان
قلبي يرتج كبناء أصيب بزلزال هزه هزاً شديداً فبأ يترنح ، يكاد يسقط ....
فالإمام إذاً كان بوقوفه هذا مع تكرار " يا أيها الذين آمنوا " يريد أن يوصل
لنا النداء ، وأن نتفاعل مع كل كلمة بعده ، ولم يكن يريد لنا صلاة ميتة يسرح
فيها الواقف هنا وهناك في هذه الدنيا الواسعة ، لا يدري كيف تنتهي الصلاة ولم
يعِ منها شيئاً . ثم يظن أحدنا أنه أدى الصلاة وأرضى الله تعالى !! .. كان
يريدنا أن نتلقى الرسالة و نفهم ما يتلوه على مسامعنا، وأن نكون فعلاً واقفين
بخشوع أمام ملك الملوك ومالك الملك ، وأن نتدبر آياته بقلب حيّ ولبّ ذكي . فما
بعد النداء أمر خطير جهله الناس على كثرة ما يتلى عليهم .
" يا أيها الذين آمنوا " : لبيك وسعديك – يارب – والأمر كله بين يديك . نحن –
معشر المؤمنين – عبادك .... لك الأمر، وعلينا الطاعة والامتثال إن كنا مؤمنين .
وسنكون بإذنك ومشيئتك مؤمنين دائما ً، تحبنا وترضى عنا ..... وتداعى إلى ذاكرتي
بهذا النداء العلويّ الرائع الذي يرفعنا إلى مرتبة العبودية لله تعالى مدى حبه
تعالى للمؤمنين ، إذ تكرر هذا النداء سبعاً وثمانين مرة يوضح الطريق المستقيم
إلى مرضاته سبحانه ، ويبين السبيل الأقوم للحياة الطيبة في الدنيا والواعدة في
الأخرى .
" لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " والوليّ – إخوتي الأحبة –
الصديق الوفي ، والأخ الصدوق ، والناصح الأمين . وهل يعقل أن يكون الكافر الذي
يكرهنا ويسعى جاهداً للإيقاع بنا وإيذائنا ، والذي يعمل ليل نهار على استئصال
شأفتنا والكيد بنا أخا وصاحباً ونصوحاً ؟!! إنهم كما قال تعالى " لا يرقبون في
مؤمن إلاّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون " .. وهل يعقل أن ترى ذكياً لبيباً بعد
ذلك يتخذهم أولياء يلقي إليهم بالمودّة ؟! إن من يفعل ذلك واحد من اثنين لا
ثالث لهما : غافل لاهٍ غبيّ أو منافق أظهر الإسلام وأبطن الكفر .
أما الغافل اللاهي فقد أساء إلى نفسه دون أن يدري حيث استحق تتمة الآية "
أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً " إنه حين يرضى لنفسه مصاحبة
الكافر عدو الله فقد حكم على نفسه بالهلاك والويل والثبور وعظائم الأمور ،
فضلاً عن غضب الله تعالى على من أسلم قياده وزمامه لعدو الله " إن الطيور على
أشكالها تقع " وما يأمن لكافر إلا السفيه الغرّير .
وأما المنافق فله عذاب أليم جزاءً وفاقاً ، بل " إن المنافقين في الدرك الأسفل
من النار " و الدرْك منازل النار والدرجة منازل الجنة " فأولئك لهم الدرجات
العلا ، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار " . والدرك في النار سبع منازل أشدها :
الهاوية ثم الجحيم ثم سقر ثم السعير ثم الحطمة ثم لظى ثم جهنّم .وللمنافقين
أسفلها وهو "الهاوية " . لغلظ كفرهم وشدة غوائلهم ، وتمكنهم من المسلمين . نعوذ
بالله أن نكون منافقين . ..
قال ابن مسعود رض الله عنه : للمنافقين في الهاوية توابيت من حديد ، مقفلة في
النار تقفل عليهم . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إن أشد الناس عذاباً يوم
القيامة ثلاثة :
المنافقون : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار "
من كفر من أصحاب المائدة : " إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه
عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين "
آل فرعون : " النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً ، ويوم تقوم الساعة أدخلوا
آل فرعون أشد العذاب " .
أما درجات الجنة فهي مئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة مئة
درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض "
.
وهل هناك من ينصر هؤلاء المنافقين ؟! حاشا وكلاّ .. إن الله خصيمهم ." ولن تجد
لهم نصيراً " ومن يقف أمام الله تعالى ؟! بل " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
" وهل يشفع أحد إلا لمن يريد الله تعالى له الخير ؟ " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
" .
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن يترك لهم باب الأمل مفتوحاً على مصراعيه ، ولو
فعلوا ما فعلوا ، ألا نقرأ دائماً " بسم الله الرحمن الرحيم " في كل لحظة من
حياتنا ؟ فهو الرحيم بعباده ، الرؤوف بهم ، الغفور لزلاتهم . العطوف عليهم ،
المسامح الكريم ، لا إله إلاّ هو ... يدعوهم إليه كل حين ، " إلا الذين ....
1- تابوا ،
2- وأصلحوا ،
3- واعتصموا بالله ،
4- وأخلصوا دينهم لله ،
فأولئك مع المؤمنين ...............
وسوف يؤتي اللهُ المؤمنين أجراً عظيماً "
فلا بد من التوبة النصوح التي لا رجوع بعدها إلى الكفر والشرك . والعمل الصالح
الذي يجب ما قبله ويمحوه ، ويؤكد توبة صاحبه ويدل على صدق توجهه . واللجوء إلى
الله تعالى أن يبدل السيئات حسنات ، ويغفر الذنب ويستر العيب ، ويعين على
التوبة والعمل الصالح ، فبالله المستعان دائما . والإخلاص في الأمور كلها لله
تعالى ، فبالنية الخالصة تقبل الأعمال " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ
ما نوى " . وهنا يضمهم الله تعالى إلى ركب المؤمنين الصالحين الذين وعدهم الله
عز وجل بالأجر العظيم .
قال مكحول رحمه الله تعالى : أربعٌ من كنّ فيه كنّ له ، وثلاثٌ من كنّ فيه كنّ
عليه .
أما أربع الصفات التي إن كنّ فيه كنّ له ( أي كنّ في ميزان حسناته )
فالإيمان والشكر : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ، وكان الله شاكراً
عليماً "
والاستغفــــــار : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون " .
والدعــــــــــاء : " قل : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " .
وأما ثلاث الصفات التي إن كن فيه كن عليه ( أي كنّ وبالاً عليه )
فالمكـــــــــــــر : " ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله " .
والبغــــــــــــي : " يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم " .
والنكــــــــــــث : " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " .