تأبى الهدايةُ أن تُصــافح أمّـة **
ترضى الهوان وتـألفُ الإذلالا
ركبوا مـتـون العاصفات وشأننا ** أن نــركب الأوهام والأموالا
كم والله يؤلمنا ، ويُقضّ مضاجعنا ؛ هذا العداء البغيض على الفضيلة ،
والمحاولات الجادّة لنشر أعلام الرذيلة ، والتي يتكالب على القيام بها ،
وحمل ألويتها ثُلّةٌ خبيثةٌ ممّن يدّعون الانتساب إلى قيمنا ومبائنا .. وهي
– بكلّ حقّ – براءٌ منهم ..
لن أقِفَ في الأسطر التالية مع خطر السّينما ، وما أثارته في أقطار بلداننا
العربيّة والإسلاميّة من بلايا وفتن دينيّة واجتماعية واقتصادية وأخلاقيّة
وغيرها ، فهي من المعلوم بالضرورة لدى كلِّ عاقلٍ مستبصر ، تجرّد من هواه ،
وانقاد للحقّ الذي يُمليه عليه ضميرُه ، ويستوجبه دينُه لله ربّ العالمين –
سُبحانه وتعالى - ..
وقد كُتِب فيها الكثير ، فلا نُسطّر مكروراً ، ولا نُذيعُ مشهوراً ، ولكن
قبل البدء ؛ استبيحكم عذراً – أيّها الأكارم - إن وجدتم قسوةً في العبارة ،
أو مُبالغةً في الإشارة ، فما ثمَّ إلا قلبٌ غيورٌ على حال أمّته ، مشفقٌ
عليها ، ورحم الله الشيخ علي الطنطاوي حيث قال [ بغداد ذكريات ومشاهد 63 ]:
( إن وجدتم في الكلمة صراحةً فلا تلوموا الطبيب ؛ فإنّه يصِفُ المرض
ليُعيّن الدواء ) .
ولي هُنا وقفاتٌ وتأمّلاتٌ ؛ أُجملها في النّقاط التالية :
أولاً : إنّ ممّا ينبغي أن يُدرك يا كرام :
إنّ ما نعيشُه من دعاوىً صارخةً بإحياء السينما وتعميمها في سائر مناطق
المملكة ، ليست مخالفةً لشرع الله فحسب ، ولا هي ضربٌ لأنظمة البلد عرض
الحائط ( الذي يُقرّ الكتاب والسنّة دستوراً للبلاد ) وقد صدرت بذلك
التعاميم التي تمنع منها وترفضها – كما لا يخفى على شريف علمكم - ..!!
إنّنا – يا سادة – أمام مشروعٍ تغريبيٍّ يستهدف دين البلد ، وعقيدة أهلها ،
وإيمانهم الراسخ بالله – تعالى - ، وتحكيمهم لشرعه الكريم ، ودينه القويم ،
ونهجه الحكيم ..
اللّافت للنظر هذه الكرّة ؛ أنّه جاء برعاية أبناء البلد ، ومُباركةٍ نكدة
مِن بعض مَن أنعم الله عليهم فلم يشكروا نعمة الله ، ولم يقوموا بواجبها
حقّ القيام ..
فليتقِ الله تعالى أولئك القوم ، وليخشوا مكر الله ، وليحذروا من سخطه
وعظيم عقابه ، فإنّهُ تعالى يُمهل ولا يهمل ؛ وقد جرت سنّته وحكمته البالغة
أنّه لا يُعاجِل بالعقوبة ، فلا يأخُذ إلا على حين غرّة ، وإذا أخذ الظالم
لم يُفلته ..
وليتّقوا دعاء الصالحين ؛ فإنّ لله تعالى عباداً قد أطالوا نصب أقدامهم بين
يدي الحقّ تعالى ، لا تُردّ دعواتهم ، ولا تُخيّب طلباتهم ، يغضب الربّ
لغضبهم ، ويرضى لرضاهم .. فحذارِ حذارِ ..
ثانياً : إنّ ما نراه ونعيشُه من هذه الظروف العصيبة التي تعصف بنا
وبمن حولنا من الأمم ، لهي نذيرُ بلاءٍ ؛ يجب أن يحمله العقلاء ومن سواهم
على محملِهِ ..
فلقد كُنّا نقول في سالف الأزمان: هاهي البلدان من حولنا تتلقّفها الزلازل
، وتدمّرها البراكين ، ويُهلك الله – تعالى – بعض من فيها بما يشاء من
جنوده ، وهانحن الآن وبعد مدّة لا تتجاوز الأشهر القليلة من بدء هذه
السينما الخبيثة ، نُفجأُ بتلك الزلازل التي أصابت بعض المناطق في بلادنا
المُباركة ، ولكنّها – بفضل الله ومنّته – لم تُسفر عن وفيّات أو أحداثٍ
تُذكر ، ولقد نما إلى أسماعنا ما لم نعهده من غازاتٍ لا يعرفها أبناء
قُطرنا في الجزيرة ، لا نحسب إلا أنّها من جنود الله تعالى ..
ثم ابتُلينا – بعد ذلك - خلال الأيّام القليلة الماضية باقتحام \" مرض
انفلونزا الخنازير \" لبلادنا ، والتي كُنّا نظنّ أنّنا منها في مأمن ،
ولكن قدرة الله تعالى فوق كلّ اقتدار ، وإرادته فوق عزم البشر ، ومشيئتُه
نافذة لا تردّها برامج وقائية ، ولا مشاريع علاجيّة ، إلا أن يشاء ربّي –
تعالى - ، قد وسع ربي كل شيءٍ رحمةً وعلماً ..
وليُعلم – يا أكارم - : أنّ هذا ليس إلا نزراً يسيراً لا يُذكر من قوّته
تعالى واقتداره ، وابتلائه لعباده ، وعقوبتهم على ما كسبته أيديهم ،
واقترفته جوارحهم ؛ قال – جلّ ذكره – في محكم آي الكتاب : { وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [ الشورى : 30 – 31 ] .
ثالثاً : وهي همسةٌ في آذان أولئك الذين لا
نشكّ في صدقهم ، ونصيحتهم للأمّة ، وتاريخهم الحافل بنُصرة قضاياها ؛ فلقد
تنادى بعض أهل العلم والفضل ، بمُصطلحٍ قد ألبسوه لبوس الخير ، فلبّسوا به
على النّاس ، ولربَما كان ذلك بحسن ظنِّ منهم ، ورغبةَ في الإصلاح ، حيث
دعا بعضهم إلى \" ثقافة المناعة ، لا سياسة المنع \" ، يسهّلون بذلك قضيّة
دخول السينما ، والتعامل معها باعتدال – زعموا - !! فأقول : مهلاً يا كرام
ما هكذا تُوردُ الإبل ، ولا هكذا تُبنى مشاريع الإصلاح في الأُمّة ...!!
فنحنُ لا ندعو إلى إهمال المناعة ، وتحصين العقول ، وزيادة ترسانة الوعي
لدى الفرد ، ولكنّنا نُمانع أن يمتدّ هذا المصطلح ، لينضوي تحت لوائه ما لا
يقبله شرعُنا الحنيف ، فلئن قُصِد بها ؛ فتح باب الحريّة لمستوردات الخارج
الثقافيّة والفكريّة والأخلاقيّة ، ثمّ ندّعي أنّنا قد حصّنّا ثغورنا
المُجتمعيّة ؛ فهذا لا يقبله عاقلٌ ناصحٌ للأمّة ، صادقٌ في دعوى إصلاحه ،
إلا إن غطى الجهل بالواقع على نظره ..!!
أيُّها السادة الأكارم :
إنّ المنهج الشرعي المؤصّل يُقرّر قاعدةً عريضة ، لابد أن تكون واقعاً
مُعاشاً في دُنيا البشر ، وحقيقةً ملموسةً يتداولها الناس ؛ إن الله تعالى
قد أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، وسنّ شرائعه في الأرض ، وأقام سوق الجنّة
والنّار لإقامة حقيقة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، ورأس المعروف
التوحيد ، ورأس المنكر الشرك ، ويليهما ما دونهما مما هو معلوم ..
وبهِ يتبيّن أنّ المنهج الشرعي هو – إن صحّ التعبير الحادث - : \" ثقافة
الممانعة \" ؛ فالممانعة هي السبيل الشرعي لمواجهة مدّ الطُّغيان ، وهي
الجادّة المسلوكة من قِبل أنبياء الله – تعالى – ورسله مع أقوامهم ، وهي
الطّريق الذي سار عليه أتباعهم ، ومن اقتفى نهجهم ، بل لقد كان مُجانبة هذا
السبيل سبباً في حصول الكوارث والمصائب ، قال ربُّنا تعالى : { فَلَوْلَا
كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ
الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ
* وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ } [ هود 116 – 117 ] ؛ فعِ هذا الأمر جيّداً أيُّها المبارك ،
واستحضرهُ لمُقارعة الحُجّة بالحجّة:
إذا اتّضح الصّواب فلا تدعه ** فإنّك كلّما ذقتَ الصوابا
وجدتَ لهُ على اللّهوات برداً ** كبرد الماءِ حين صفا وطابا
وليس بحاكمٍ من لا يُبالي ** أأخطأ في الحكومة أم أصابا !!
رابعاً : نشُدّ على أيدي أولئك الغيورين ،
والشبَبَة المحتسبين ، وطلبة العلم الصادقين ، والعلماء الراسخين ؛ وكلّ من
وقف ضدّ هذا البلاء الخطير ، والشرّ المُستطير ..
فهذا هو والله فريضة الزمان ، وواجب الوقت ، حيث هُم بأفعالهم المباركة
الرشيدة ، يرفعون عن الأمّة فرضيّة الكفاية ، ويكفّون عنها ؛ بأس الله
تعالى ، ومعاجلته بالعقوبة لمن جاهر بمعصيته ، وليتذكّروا قول الباري – جلّ
في عُلاه – في تنزيلِهِ : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 165
].
فليهنأوا برحمة الله تعالى ، وليبشروا بعظيم فضله ، وعموم منّته عليهم ،
ولا يلتفتوا لدعاوى فساد الزمان ، وهلاك النّاس ، واقتحام المعاصي
والمنكرات لحياة البشر ..
إذا ربطنا بربّ الكونِ أنفسنا ** فما الذي في حياةِ النّاس
نخشاهُ ؟!!
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ
الله -صلى الله عليه وسلم- : «لا تَزالُ طائفة من أُمّتي على الحق ظاهرين
إِلى يوم القيامة» [ أخرجه مسلم ].
وأحسب أنّ الأمّارين بالمعروف والنهّائين عن المُنكر هم دعاة الحقّ ،
وأصحابه ودعاتُه ، نصرهم الله تعالى ، وأظهر أمرهم ، وأعلى شأنهم ، وسدّد
رأيهم وأمرهم ؛ ولله درُّ الإمام ابن القيّم – نوّر الله مضجعه – حيث قال
في [ زاد المعاد 3/5 ]:
« جهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة، وورثة الرسل،
والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا
هم الأقلين عددًا ؛ فهم الأعظمون عند الله قدرا » .
وختاماً .. نسأل الله تعالى أن يهيئ لهذه
الأمّة أمراً رشَداً يُعزُّ فيه أهل الطاعة ، ويُهدى فيه أهل المعصية ،
ويُؤمر فيه بالعمروف ، ويُنهى فيه عن المُنكر ..
بقلم :
مُحمّد بن عبدالله البقمي .
al-numiri@hotmail.com
صباح الإثنين 22 / 6 / 1430 هــ .