درج عدد كبير من رموز الصحوة الإسلامية على مخاطبة
الجماهير من خلال المنابر المختلفة ، ووجد كثير منهم - ولله الحمد - إقبالاً
واسعاً ، والتفَّت الجموع بين أيديهم ، وهذه نعمة عظيمة يفتقدها كثير من رموز
الفكر والأدب والثقافة الآخرين . ولهذا أحسب أنَّه من الواجب على الإسلاميين
إعادة النظر في طروحاتهم وطريقتهم في الخطاب وتقويمها ، لتحصيل أعلى المصالح
ودرء المفاسد قدر الإمكان ، والاستفادة من التجربة الماضية . وهاهنا أمور أرى
أنه ينبغي مراعاتها في هذا الأسلوب أضعها بين أيديكم للحوار وتبادل الرأي حولها
:
أولاً : الإيمان بالهدف :
مرَّ على الناس في العصور التاريخية المختلفة عدد من المصلحين والمفكرين ودعاة
التغيير ، سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم . وبتتبع سيرهم وأخبارهم نجد أن
صلة الجماهير بهم تزداد وترسخ مع الوقت إذا اطمأنوا إلى صدقهم وجديتهم وإيمانهم
العميق بأهدافهم التي ينادون بها ، واستعدادهم القوي على تحمل تبعات تلك
المبادئ ، والتضحية من أجلها . وفي المقابل نجد أن الجماهير تنفضُّ وتتفلت من
تلك الرموز إذا رأت فيها العجز والهوان ، أو أحست ضعف مصداقيتها وجديتها ،
وقديماً قال الرافعي : ( رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تخرج الصغار
شجعاناً ، ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة ) [1] .
ثانياً : الحذر من الخيلاء وحب الرياسة :
محبة الناس للمصلح وتجمُّعهم بين يديه فتنة عظيمة قد تطغى على بعض النفوس
الضعيفة ، وتُنبت فيها الخيلاء والاستكبار وحب الرياسة ، وتصرفها عن كثير من
معالي الأمور . وكم من الرموز التي تساقطت ولفظتها الجماهير ، أو تناستها ،
حينما غلبت عليها تلك الشهوة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما ذئبان جائعان أُرسِلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال
والشرف لدينه ) [2] .
ولهذا قال ابن تيمية : ( كان شداد بن أوس يقول : يا بقايا العرب ، يا بقايا
العرب ، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية . قال أبو داود صاحب السنن :
الشهوة الخفية : حب الرياسة . وذلك أن حب الرياسة هي أصل البغي والظلم ) [3] .
وقال أيضاً : ( وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق
محبتها لله وعبوديتها له ) [4] .
وملاحظة النفس ومراجعتها من أعظم أبواب المجاهدة التي ينبغي للمرء أن يأخذ بها
، والغفلة عن ذلك قد تؤدي إلى الزلل ، ومن تعلَّق قلبه بحبِّ الظهور صغرت نفسه
، وغلبت عليه الأهواء الشخصية وتردَّى في سلسلة من الانحرافات التي تزيد بزيادة
تلك الآفة القلبية ، وما أحسن قول الرافعي : ( إذا أسندت الأمة مناصبها الكبيرة
إلى صغار النفوس كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم ) [5] .
ثالثاً : الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة :
حينما يتصدر المرء لمخاطبة الجماهير قد يقع - من حيث لا يشعر ! - في دائرتهم ،
فيقودونه ويدفعونه لمحبوباتهم ، ويزداد تأثره بمشاعرهم الجياشة عند كثرة الهتاف
والتصفيق ، وتأخذه النشوة بكثرة الحشود ؛ ومعلوم أن نسبة كبيرة من أولئك العامة
لا ينظرون إلى أبعد من مواقع أقدامهم ، ولا يحيطون بكثير من التداخلات الفكرية
والسياسية ، ولا يَزِنون ردود الأفعال بالموازين العلمية .
وأحسب أن التأثر بالجماهير نوعان :
الأول : التأثر الإيجابي :
وهو في غاية الأهمية ؛ لأنهم يشعرون بالتفاعل والاهتمام ، ويحسون بأهمية آرائهم
، وقيمتهم المعنوية ، كما يحسون بدورهم في البناء والتغيير ، ممَّا يزيدهم
ارتباطاً بدعاة الإصلاح ، ويحفزهم إلى المزيد من التجاوب والتعاون .
الثاني : التأثر السلبي :
حيث ينساق المرء وراء عواطفهم ، ويقع في شراكهم ، ويصبح برنامجه الإصلاحي
مرتبطاً برغباتهم ، وخطته العملية متأثرة بأهوائهم ، وتكون النتيجة أن الجماهير
هي التي تقوده ، وهو يحسب أنه يقودهم .. ! !
رابعاً : الدقة في الخطاب :
الخطيب الذي يتصدر لمخاطبة الجماهير لا يسلم من الخطأ والزلل ، حاله كحال غيره
من المتحدثين ، ( وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوْب ) [6] .
ولكن خطأ الخطيب يكون على رؤوس المنابر يسمعه الناس كبيرهم وصغيرهم ، وقد يطير
خطؤه في الآفاق . وبعض أصحاب النفوس المريضة يكون همه أن يتصيد العثرات ،
ويتسقَّط الزلات ، وتكون فاكهته التي يتندر بها ويفرح ، ولهذا قال عمر بن
الخطاب : ( ما كانت على أحد نعمة إلا كان لها حاسد ، ولو كان الرجل أقوم من
القدح لوجد له غامزاً ) [7] . ولمَّا قال رجل للحسن البصري : يا أبا سعيد !
إنَّ هاهنا قوماً يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك ! فقال الحسن : ( يا هذا !
إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت ، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت ،
وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع ، إني لمَّا رأيت الناس لا يرضون عن
خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم ) [8] .
إنَّ على من يتصدر لمخاطبة الناس أن يعتني بما يصدر عنه اعتناءاً شديداً ،
وينتقي عباراته انتقاءاً دقيقاً ، ويحرص حرصاً كبيراً على أن يخرج كلامه بدقة
وإتقان ، حتى ينفع سامعيه ويسد - قدر الطاقة - منافذ الهوى عند بعض الناس ، ومع
ذلك كله لن يسلم أحد من الخطأ مهما بلغ حرصه ، ويعجبني المتحدث الذي يملك
الجرأة والشجاعة على مراجعة أقواله ، ويوضح ما استشكله الناس عليه ، ويعترف
بخطئه إن كان ثمة خطأ .
خامساً : الحذر من التعلق بالأشخاص :
من الآفات المزمنة التي تظهر عند كثير من الجماهير ؛ سواء أكان ذلك على المستوى
الفكري أم الدعوي أم الاجتماعي أم الفقهي ... ونحوها : التعلق بالرموز
والانكفاء عليها ، والشعور بأن هؤلاء وحدهم القادرون على إحياء الأمة والنهوض
بها من كبوتها ، فإذا عجز هؤلاء أو حبسهم العذر أصيب الناس بالإحباط ، وثارت في
كوامنهم دواعي العجز والحيرة ، ويؤدي التعلق بالأشخاص أحياناً إلى ازدراء
مصلحين آخرين ربما لا يقلون عن غيرهم أصالة وفهماً وقدرة ، وقد يؤدي هذا التعلق
إلى طمر الإمكانات الكامنة في بقية الأفراد ، أو عدم استغلال الفرص السانحة لهم
.
وقد يُرسِّخ هذا المفهوم بعض هؤلاء الرموز ، ويدفع الناس إلى تقليده وتعظيمه ،
بلسان المقال حيناً ، وبلسان الحال أحياناً أخرى . والتقليد قاصمة من القواصم
التي تقتل كل ملكات الإبداع والتفكير ، وتحول الجماهير إلى مجرَّد قطعان هائمة
يسوقها الراعي ذات اليمين وذات الشمال ، وهي تستجيب له بكل دعة وخنوع . والنجاح
الحقيقي للمصلحين ليس بالقدرة على أن يصرفوا وجوه الناس إليهم فحسب ، بل
بالقدرة على إحيائهم واستنبات البصيرة في عقولهم ؛ فمن تبعهم تبعهم بحجة وبرهان
، ولذا فإن الواجب على هؤلاء المصلحين أن يرسخوا ضرورة ارتباط الناس بالمنهج
الصحيح وليس بذواتهم .
سادساً : وضوح الرؤية :
تتم مخاطبة الجماهير عند بعض المصلحين بطريقة تلقائية رتيبة ؛ حيث لا توجد
لديهم رؤية واضحة ، ولا يدرون خلالها ما الأهداف ذات المدى البعيد التي يريدون
الوصول إليها ؛ وقد ترى أن كثيراً من طروحاتهم الفكرية والدعوية مبنية على
خواطر مشتتة تطرأ على أذهانهم من هنا أو هناك ، بل تلمس أحياناً أن بعضهم لا
يعطي لنفسه فرصة التفكير في برنامجه العملي ، ولهذا تراه يجتر كثيراً من أقواله
وأقوال غيره بدون بصيرة !
إن وضوح الأهداف يعين كثيراً في الاعتبار بالماضي واستبصار الحاضر واستشراف
المستقبل ، ويدفع المرء إلى رسم أطر واضحة يعرف فيها بدقة : ما الموضوعات التي
سوف يتحدث عنها ؟ ! وما القواعد التي يريد بناءها ؟ ! وما الأمراض الفكرية
والمنهجية التي يقصد معالجتها ؟ ! وما أنسب السبل لتحقيق ذلك ؟ ويعرف في ذلك
الأولويات التي ينبغي البدء بها ، ويحدد طريقة المعالجة ، ونحو ذلك مما يعدّ من
البدهيات المنهجية التي لا غنى عنها .
سابعاً : تلمس احتياجات المخاطبين :
احتياجات الناس المنهجية والفكرية والعملية كثيرة جداً ، ويتميز المصلح الجاد
بقدرته على تلمس احتياجات الناس ، وكم من الأشخاص الذين اعتادوا على مخاطبة
الجماهير تراهم يشرِّقون ويغرِّبون ، ويتحدثون عن أشياء كثيرة ، لكنهم بعيدون
عن نبض الشارع واهتمامات الناس .
ومعلوم بأن المستمع قد يقترب من المتحدث كثيراً ، ويألفه في بداية أمره ، لكنه
يبتعد عنه شيئاً فشيئاً إذا فقد المادة الأصيلة المتجددة التي تشبع حاجاته
وطموحاته ، ولا شك بأن الذي يشدُّ الجمهور ويوثق صلتهم بالمتحدث هو شعورهم
بالحيوية والتجدد ، وهذا فيما أحسب أحد المعايير الرئيسة للاستمرارية والبقاء .
ثامناً : الحذر من الاكتفاء بالخطاب العاطفي :
يغلب على كثير ممَّن يعتني بمخاطبة الجماهير اعتماد الخطاب العاطفي الذي يُبنى
على استثارة المشاعر ، ولا شك بأن هذا مطلوب ولا غنى للناس عنه ، ولكنه وحده لا
يكفي على الإطلاق ، بل إن الاكتفاء به وحده قد يؤدي إلى خلل في البناء . نعم قد
تجمِّع العاطفة أناساً كثيرين ، ولكنها وحدها لا تحيي أمة ، ولا تبني رجالاً ،
ولا تجعلهم يثبتون أمام الأعاصير والفتن .
كثيرون أولئك الخطباء والمصلحون الذين يستطيعون تجميع الناس واستثارة عواطفهم ،
ولكنَّ القلة القليلة منهم هي القادرة على إعادة بنائهم وتشكيل عقولهم وصناعتهم
من جديد . وإنَّ من أكبر التحديات التي تواجه دعاة الإصلاح : هي القدرة على
توظيف الطاقات ، واستثمارها في البناء والعطاء ، وكم هي الطاقات المهدرة التي
طالما استهلكت في التصفيق والصراخ والهتافات الساخنة أو الباردة !
ولذا كان ممَّا ينبغي على دعاة الإصلاح إدراكه أنَّ من واجبهم التأثير الفكري
والمنهجي على الجماهير ، ورفع مستواهم الثقافي ، وإحياء الوعي في صفوفهم ،
وتربيتهم تربية راسخة عميقة ، والانتقال بهم من مرحلة تكثير السواد إلى مرحلة
العطاء والوعي الإنتاجي .
يخيَّل لبعض المصلحين حينما يرى أتباعه يحيطون به من كل جانب أنَّه لو دعاهم
لتحرير القدس لما تخلف منهم رجل واحد ، ولخاضوا ألوان المخاطر لتحقيق هذه
الغاية العظمى ، ولكنه يفاجأ بأنَّ كثيراً منهم سرعان ما يتخلف عنه ويتعذر
بمعاذير واهية عند أول عقبة قد تواجهه في مسيرته ! ولست هنا أدعو إلى ترك
الجماهير أو عدم الثقة بهم ، ولكنني أدعو إلى تغيير آلية الخطاب ليستوعب
المتغيرات الاجتماعية والفكرية الحديثة .
لقد ظلت الجماهير عقوداً متتابعة مغيَّبة يعبث بعواطفها أدعياء التحرر والوطنية
، وها هنا يأتي دور المصلحين من جديد لإعادة تشكيل عقولهم وصناعة أفكارهم ، ولا
شك بأن هذا يتطلب جهداً كبيراً ونَفَساً طويلاً .
تاسعاً : الارتقاء بمستوى الخطاب :
كثير من الطروحات التي نسمعها من الخطباء وأمثالهم تعالج هموم العامة ومشكلاتهم
، وتتوافق مع طموحاتهم وتطلعاتهم ، ولا شك بأن هذه الطموحات محدودة ، وتدور في
أطر ضيقة ، وقد يغفل بعض أولئك الخطباء عن مخاطبة طبقات أخرى في المجتمع ، ولا
بأس أن يوجد من يتخصص في مخاطبة العامة ويقصر اهتمامه في دائرتهم ، ولكن ليس من
المقبول على الإطلاق أن يتوجه أكثر خطبائنا إلى هؤلاء ويغفلوا عن الدوائر
الأخرى !
إننا نعيش في عصر الانفتاح الإعلامي الذي أدى إلى انفتاح اجتماعي وفكري عريضين
، وأصبحت قوة الخطاب وجاذبيته والتزامه بالمنهجية العلمية من أهـم أدوات
التأثير الفكري ، وأعتقد بأن الارتقاء بمستوى الطرح والمعالجة في غاية الأهمية
، فما يصلح في المدرسة قد لا يصلح في الجامعة ، وما يصلح في المسجد قد لا يصلح
في وسائل الإعلام ، وما يصلح في هذا البلد قد لا يصلح في البلد الآخر .. وهكذا
. وأذكر أنني استمعت ذات يوم إلى برنامج حواري اشترك فيه أحد المفكرين
الإسلاميين مع مفكر ليبرالي ، فآلمني جداً أن صاحبنا كان يتحدث بلغة عاطفية
خطابية هزيلة ، بينما كان يتحدث ذلك الليبرالي بطريقة مركزة تتسم بالذكاء
والمراوغة ، شعرت من خلالها أنَّه يعرف ماذا يريد . ولا شك بأن الفتنة بمثل هذا
كبيرة لجمهور عريض من العامة !
-----------------------------------
(1) مجلة الرسالة العدد (94) محرم 1354هـ .
(2) أخرجه : الترمذي في الزهد (4/508) رقم (2376) ، وقال حسن صحيح وصححه
الألباني في صحيح الجامع رقم (5496) .
(3) شرح حديث أبي ذر (ص25) ، وانظر : رسالة في التوبة ضمن جامع الرسائل (1/
233) .
(4) الفتاوي (10/215) .
(5) مجلة الرسالة العدد (84) ذو القعدة 1353هـ .
(6) تأويل مختلف الحديث (ص54) .
(7) بهجة المجالس وأنس المجالس ، لابن عبد البر القرطبي (1/406) .
(8) تبيين كذب المفتري ، لابن عساكر (ص422) .