المتأمل في سَوْق القصة يجدها جواباً لما ذُكر في افتتاحية السورة ودليلاً على
صحته وإمكانِ حدوثه . ففي المقدمة أولاً: تنبيه إلى العقاب الشديد للكافرين "
لينذر بأساً شديداً من لدنه " وفيها ثانياً : مدح وبشرى لمن آمن وعمل صالحاً "
ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً " . وفيها ثالثاً :أن
الحياة دار ابتلاء :" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً
" وفيها رابعاً: أنه سبحانه يعيد الأرض كما كانت لا نبات فيها ولا عمارة :"
وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزاً " . وجاءت القصة تحمل في حناياها آداباً
تربوية رائعة نجملها فيما يلي :
1-
ليس في قصة أصحاب الكهف عجب ، فقدرة الله تعالى لا حدود لها ، وخلق السماوات
والأرض أكبر من خلق الناس . ولئن عجب الكفار من بعثهم بعد الموت إن الأنبياء
وأولي البصائر يدركون قدرة الله عز وجل ، فيزيدهم ذلك إيماناً " أم حسبت أن
أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً ؟ "
2-
اللجوء إلى الله تعالى سمة المؤمن ، فهو سبحانه عونه ونصيره " ربنا آتنا من
لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً " فلما لجؤوا إليه داعين ، وأسلموا قيادهم
له سبحانه واعتمدوا عليه آواهم الله وحفظهم إذ دلهم على الكهف ، وأغدق عليهم
مما طلبوا من الرحمة والهدى والرشاد " فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته
، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً " ولا حظ معي التوافق بين الإيواء إلى الله سبحانه
ونشر الرحمة . وهكذا العلاقة بين العبد وربه . ومن لجأ إلى ربه واعتمد عليه
ثبته الله وأيده " وربطنا على قلوبهم " .
3-
القصة في القرآن حق لا مراء فيه " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " وقد ادعى طه حسين
أن قصة إبراهيم وغيرها في القرآن ليست على سبيل الحقيقة إنما على سبيل العبرة
والعظة فقط . وهو بذلك ينفي حقائق التنزيل " نحن نقص عليك أحسن القصص " وأحسن
القصص ما كان حقيقة . وعلى هذا نفهم قوله تعالى " إن هذا لهو القصص الحق " فما
ورد في القرآن الكريم حق لا مراء فيه .
4-
للشباب الدور الكبير في نشر الدعوة والذود عنها . فإيمان الشباب اندفاعي قوي "
إنهم فتية آمنوا بربهم ، وزدناهم هدى " ويصدعون بالحق " إذ قاموا فقالوا : ربنا
رب السماوات والأرض " ويعلنون دعوة التوحيد بثبات " لن ندعو من دونه إلهاً " من
أشرك فقد تطاول على الحق وابتعد عنه " لقد قلنا إذاً شططاً " . وهنا نلحظ في
كلمة الشطط التشنيع على المتطاولين الذين يغيرون الحقائق وينشرون الباطل .
5-
لا بد لكل فكرة أو مبدأ من دليل أو برهان وإلا سقط في أول لقاء " لولا يأتون
عليهم بسلطان بيّن " وإذا لم يكن هناك حجة قوية أو دليل ساطع فهو ضعيف ، ولن
تقنع أحداً بفكرتك إن لم تؤيدها بالنور الساطع الذي يكشف الغشاوة عن العيون
وينير سبيل الحق . أما فرض الفكرة بالقوة والإرهاب المادي فدليل على الإفلاس
وضحالة ما تدعو إليه وُيعَدّ افتئاتاً عل الحق وظلماً له " فمن أظلم ممن افترى
على الله كذباً " فالميل عن الحق افتراء على الله وتضليل للناس .
6-
يعلمنا الله تعالى بقوله :" فأووا إلى الكهف " اعتزال الناس في الفتن ، وقد
يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان يكون خير مال الرجل
المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " ...
ولعل هذا يكون في آخر الزمان عند مجيء المسيخ الدجال ، أو عندما تشتد الفتن
وتطغى . وقد جاء في الخبر :" إذا كانت الفتنة فأخفِ مكانك وكُفَّ لسانك " ولم
يخص موضعاً . . ومن هذا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر حين
سأله : ما النجاة يا رسول الله ؟ " يا عقبة أمسك عليك لسانك ، ولْيسعْك بيتُك ،
وابك على خطيئتك "
وقد جعلت طائفة العلماء العزلةَ اعتزالَ الشر وأهله بقلبك وعملك إن كنت بين
أظهر الناس . قال ابن المبارك رحمه الله في تفسير العزلة : أنْ تكون مع القوم ،
فإن خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروي عن النبي
عليه الصلاة والسلام – من مراسيل الحسن- " نعْمَ صوامع المؤمنين بيوتهم " اي
وهم في مجتمعهم يدعونهم ويتعرضون إليهم بالنصح والموعظة ، فإن اشتدوا عليهم
أوَوْا إلى بيوتهم ، ثم عاودوا الكرّة . ويؤكد هذه الفكرة قول النبي صلى الله
عليه وسلم :" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا
يخالطهم ولا يصبر على أذاهم .
7-
لا بد من الجهر بالدعوة بين الناس لتصل إليهم ، وتكون حجة عليهم . ولنا في رسول
الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الواضحة البيّنة ، ولنا بهؤلاء الفتية الأطهار
القدوة الحسنة ، فحين سألوا الله القوة أمدّهم بها " وربطنا على قلوبهم "
فثبتهم على الحق فقاموا يدعون إليه سبحانه فأعلنوا عقيدة التوحيد خالصة دون لبس
ولا خوف " .. إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض ، لن ندعوَ من دونه
إلهاً .. " . فكانوا قدوة للدعاة يأتسونهم .. قالوها ،فخلّدهم الله في كتابه
الكريم إلى يوم القيامة .
8-
كما أن مقامهم في الكهف أكثر من ثلاثة قرون ، تميل الشمس عنهم حين طلوعها –
ولاحِظْ كلمة تزاور الدالة على قدرة الله في حركة مخلوقاته – وانظر كلمة تقرضهم
عند غروبها فلا تصيبهم البتة في حركتها بزوغاً وغروباً وقد قيل : تقرضهم : تنثر
عليهم شعاعاً خفيفاً لإصلاح أجسادهم ، وهم في فجوة من الكهف لا يتأذون بقرّ ولا
حرّ عيونهم مفتحة ، " و تحسبهم أيقاظاً وهم رقود " يحركهم الله تعالى كي لا
تأكل الأرض أجسادهم " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " يحرسهم كلبهم في مدخل
الباب ماداً قائمتيه كأنه حي متوثب " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ... تصوير
بديع لهم في رقدتهم الطويلة هذه التي تدل توهم من يراهم أنهم أحياء .. مع إدخال
الهيبة في قلوب من اطلع عليهم – إن اطلع – أن يتجاوزهم مبتعداً عنهم . مقامهم
هذا دليل على قدرة الله تعالى في إماتتهم وحفظهم من التلف ، وإخافة من ينظر
إليهم ، ثم على بعثهم .. فسبحان الله مالك الملك ، المتصرف في مخلوقاته كما
يشاء .
9-
الحذر في كل حالات الحياة – حلوها ومرها ، أمنها وخوفها – مطلوب ، فالتخفي
والكتمان والتلميح من أنواع الحذر . فماذا فعل الفتيان حين أحياهم الله تعالى ؟
شعروا بالجوع .. فقد استيقظوا بعد ساعات طويلة استغرقت يوماً أو بعض يوم – كما
ظنوا – والطعام والشراب وسيلة الحياة . والعدو الذي هربوا منه يطلبهم ويرسل
العيون والجند بحثاً عنهم . فينبغي الحذر في التحرك . ماذا يفعلون ؟
- أرسلوا واحداً فقط يشتري لهم طعاماً فالواحد أقدر على التخفي ولا ينتبه له
أحد . وهروبه أسهل إذا شعرت به عيون العدو وإذا وقع في أيدي الظلمة فهو فدائي
واحد ، ولن تسقط المجموعة كلها .
- وأمروه باللطف في الشراء واللين في الطلب ، وليتكلم المختصر المفيد.
- وليكن تصرفه حكيماً وحركاته بعيدة عن الريبة لكي لا ينطبق عليه المثل القائل
" كاد المريب أن يقول خذوني " .
- وليختر أطيب الطعام وأزكاه ، فالطعام الطيب الحلال أنفع للجسم ، وأرفع للروح.
صحيح أن الحذر لا ينجي من القدر لكن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب ، ويعد للأمر
عدته كي لا يُؤْخذ على غرة ، فالعدو الذي لا يخاف الله تعالى لا يرحم " إنهم إن
يظهروا عليكم يرجموكم أويعيدوكم في ملتهم " ألم يعلن كبير المجرمين فرعون رغبته
في قتل النبي موسى عليه السلام ؟" ذروني أقتلْ موسى .. " مدعياً أنه بذلك يقضي
على الفتنة ويحفظ الناس من الفساد؟! " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في
الأرض الفساد "؟َ ! . وقد دمغهم الله تعالى بالعدوان وكره المؤمنين ونقض العهود
" لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون " وإذا قتل المسلم في
سبيل الله فقد نال الشهادة ، أما إذا كان إيمانه ضعيفاً فلم يحتمل العذاب وكفر
بدينه لينجو منه فقد خاب وخسر ".. أو يعيدوكم في ملتهم ، ولن تفلحوا إذاً أبداً
" .
10-
لا ينبغي أن نمر على قصص القرآن مروراً سريعاً إنما يجب التفكر والتدبّر للعظة
والعبرة واستخلاص الدروس، فتكون نبراساً نسير على هديه ونستضيء بنوره ، وإلاّ
كنا كمثل الحمار يحمل أسفاراً . قال المفسرون : إن الملك الذي هرب الفتيان من
ظلمه وبطشه مات ، ومات الكفر معه . وانتشر الإسلام في البلاد ، واختلف المؤمنون
في طريقة البعث والنشور . فمن قائل تحشر الأرواح فقط ، ومن قائل يحشر الناس
بأرواحهم وأجسادهم . فكان عثورهم على الفتية دليلاً على حشر الناس بأجسادهم
وأرواحهم كما كانوا في الدنيا ، فالله قادر على كل شيء . هذا من ناحية . ومن
ناحية أخرى كان بعث هؤلاء الفتية دليلاً باهراً على أن يوم القيامة حقيقة لا شك
فيها " وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ، وأن الساعة لا ريب فيها "
.
11-
المراء في أمر لا فائدة فيه لا حاجة إليه . وقتك أيها المسلم ثمين ، وحديثك
موزون ، ولن يزيدك علماُ وفهماً أن تخوض فيما لاطائل له ، .. فماذا يزيدك لو
عرفت عدد الفتية ؟ أو أسماءهم ، أو أعمارهم ؟ أو أعمالهم؟ .. الفائدة المرجوة
تجدها في أفعالهم وثباتهم على المبدأ وفرارهم بدينهم يحافظون عليه . وحذرهم في
تصرفاتهم ، وأخوّتهم في الله تعالى ...
12-
أمر أخير ينبغي الوقوف عنده ، هو تعليق الأمر بمشيئة الله " ولا تقولن لشيء :
إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله " فقد عاتب الله تعالى نبيه الكريم على
قوله للكفار حين سألوه عن الفتية والروح وذي القرنين : غداً أخبركم بجواب
أسئلتكم . ولم يستثنِ في ذلك ، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً حتى شق ذلك
عليه ، وأرجف الكفار به . فنزلت عليه هذه السورة مفرِّجة ، وأمر في هذه الآية
أن لا يقول في أمر من الأمور : إني أفعل غداً كذا وكذا إلا أن يعلق الأمر
بمشيئة الله تعالى .