( رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا بَلَدًا آمِنًا )
على هامش الأحداث الأخيرة بأرض الحرمين
إسلام شمس الدين
من أخطر الابتلاءات التي ابتلى الله بها الأمة في عصرنا الحالي ؛ أن نصّب
الجميع من أنفسهم فقهاءً يطوعون الشرع و أحكامه كيفما شاءوا ، وأصبح للجميع حق
الإفتاء و الاجتهاد بعلمِ أو غير علم ؛ عن حقِ أو باطل .. وكأن تعاليم الإسلام
وأحكامه حلاً للجميع يخوضون فيها كيفما شاءوا .
فكثرت الأهواء و الأقاويل و الأباطيل ، و اختلطت المفاهيم الصحيحة بالباطلة ،
ولم يعد الكثيرون يدركون أين الحق من كثرة ما يسمعون من الجعجعة بغير علم .
لقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية بإقرار الأمن في بلاد المسلمين ، وعصمة دماء
المسلمين والمعاهدين على حد السواء ، وحفظ الدين والنفس والمال والعرض للمسلم و
غير المسلم على حد السواء ، و تغليظ القيود لكي لا تنتهك هذه الأحكام .
ولنستمع إلى قدوتنا و نبينا حامل رسالة هذا الدين و أحكامه في حجة الوداع إذا
يقول : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي
بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ فَقَالَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ، قَالُوا: نَعَمْ ، قَالَ اللَّهُمَّ
اشْهَدْ ) .
وقوله عليه الصلاة و السلام : ( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى
الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ. )
و هاهو ابن عمر رضي الله عنه ينظر للكعبة قائلاً : ( مَا
أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ
اللَّهِ مِنْكِ ) .
فما بال من يستبيحون دماء المسلمين ويروعون أمنهم و يخربون أموالهم و ممتلكاتهم
ثم يدعون أن هذا من الجهاد ؟!!
فهؤلاء يصدق فيهم قوله تعالى : ( الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَزْنًا )
و كما حرص الإسلام على حفظ دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم ؛ حرص أيضاً على
من أخذ عهداً في بلاد المسلمين .. و لننظر إلى قوله تعالى
( وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
)
فالإسلام فرض الدية والكفارة للكافر الذي أخذ الأمان في بلاد المسلمين إذا قتل
خطأ .. فما بالنا إذا كان قتله عمداً و فيه مافيه من قتل غيره من المسلمين و
ترويع أمنهم ؟؟!!
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا
لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ
أَرْبَعِينَ عَامًا ) .
و لامجال للحديث عن الخروج عن عهد أعطي للمعاهدين إلا بشروط وضعها الإسلام وقيد
بها هذا فلم يطلقها لكل من شاء يأولها حسبما يرى ، فالثابت أن العهد الذي منحه
صاحب الأمر في بلد مسلم هو ذمة واجبة على المسلمين و لا يجوز نقده إلا لعلماء
الدين .. لا أن يأتي كل أحد و يطوع أحكام الدين حسب أهوائه .
فالإسلام ليس دين غدر ، ولا غدر لمن كان له عهد مهما كانت الظروف والأحوال ،
ومهما بلغت مشاعر الضيق و الألم .. فللإسلام تعاليمه التي ترقى و تسمو به عما
سواه .. و إلا ما لفرق بين الإسلام وغيره إذا كان منهاجه و مواقفه هو نفس منهاج
غيره من الغدر ؟؟!!
وربما من يراجع سرية ( بئر معونة ) التي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدية فيها لرجلين كافرين قتلهما أحد الصحابة رغم كثرة من قتل من أصحابه فيها ،
يدرك مدى عظمة هذا الدين و أحكامه و تعاليمه .
أما من يتحدثون عن الجهاد و هو الذي جعله الله فرضاً على كل مسلم فإن للجهاد
شروطه و آدابه .. فقد كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش
أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا فقال
( اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغُلُّوا
وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ) .
ولنقرأ وصية سيدنا أبي بكر الصديق لأمير جيشه : ( إني
موصيك بخصال،لا تغدر ولا تمثل،ولا تقتل هرماً، ولا امرأة ولا وليداً،ولا تعقرن
شاةً ولا بعيراً إلا ما أكلتم ،ولا تُحرقن نخلاً،ولا تخربن عامراً، ولا تغلّ
ولا تجبن )
فما أروع هذه الدين و ما أعظم تعاليمه حتى في ميادين الحروب .. فهذا هو الجهاد
الذي يريده الإسلام .. جهاد رجولة في ميادين الحرب ، لا جهاد في البيوت و
المساكن .. جهاد لإعلاء كلمة الله و راية الإسلام ، لا جهاد ترويع المسلمين
الآمنين و تدمير أموالهم و ممتلكاتهم .. جهاد رجل لرجل ؛ سلاح لسلاح ؛ وجه لوجه
.. لا وجه لظهر .
فياليت من يتحدثون عن الجهاد يدركون عظمة الإسلام فيه ، ويا ليت من يتحدثون عن
الجهاد يدركون أحكامه و آدابه ، وياليت من يتحدثون عن الجهاد لا ينقصون من قدر
المجاهدين الحقيقيين الذين وهبوا أنفسهم لإعلاء كلمة الله في ميادين الحروب ،
فلا يساوونهم بغيرهم .
فإذا كان البعض يسعى لإرضاء المشاعر الملتهبة ومجاراة مشاعر الغضب و الحنق التي
تتأجج في نفوس الجميع ، فليكن هذا بعيداً عن أحكام الدين و تعاليمه فهي لها
حرمتها ، و إن كان البعض يسعى لتحقيق أهداف لا يعلم نواياها إلا الله ، فليخرج
من عباءة الإسلام و ليفعل ما يشاء .
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا
اجتنابه ، و أن يصلح أحوال المسلمين و يهديهم إلى التمسك بالكتاب و السنة و
أحكام الإسلام و قيمه و تعاليمه .