|
لن تجدَ أضلَّ وأتعسَ وأشقى من القومِ الذين يدّعونَ العقلنةَ ، وهم في
دواخلِهم من دعاةِ التغريبِ ، وبوّاباتِ الفكرِ العلمانيِّ ، بل هم حماتهُ
ومنظّروهُ ، وميناؤهُ الذي ينقلُ أولئكَ عبرهُ بضائعهم .
هؤلاءِ – العقلانيينَ – ليسَ لديهم من العقلِ إلا ما يوجبُ قيامَ الحُجّةِ
عليهم ، ولا من الفهمِ إلا ما تستقرُّ بهِ لوازمُ الشريعةِ في رِقابِهم ،
أوتوا حظّاً من الجلادةِ والصبرِ ، فصرفوها في مُحاربةِ دينِ اللهِ وسنّةِ
رسولهِ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - ، فغدتْ بلادةً وجهلاً .
أبغوني عقلانيّاً فتحَ للنّاس ِ بابَ الدخولِ إلى الإسلامِ ، أو خدمَ دينَ
اللهِ تعالى ، أو ازدادَ إيماناً وسكينةً ووقاراً وثباتاً ، بعدَ أن تعقلنَ
وتعصرنَ ! ، كلّهم ينكصونَ على أعقابِهم ويرتكسونَ وينتكسونَ ، بعدَ أن
كانوا أربابَ صلواتٍ وخلواتٍ ، وبدلاً من تقريبِ النّاسِ إلى دينِ اللهِ –
تباركَ وتعالى – يأخذونهم إلى أقاصي الأفكارِ ، ومهاوي التأويلاتِ ،
فيُدنونهم من الشبهِ والباطلِ ، ويتركونهُم في حالةٍ من الحيرةِ والتخبّطِ
، ويفتحونَ لهُم بابَ الرّدِّةِ والكفرِ ، ويهوّنونَ عليهم أمرَ المعاصي
والمُنكراتِ .
وبعدَ اللّحى الوقورةِ ، والثيابِ المُستنّةِ ، ومسحةِ العِبادةِ ، ومظهرِ
الخيرِ ، وإدمانِ النوافلِ ، يستبدلونَ ذلكَ بالحلقِ والتنعيمِ والإسبالِ
ومظاهرِ النكوصِ على السنّةِ ، وتعودُ ليالي العبادةِ سهراً على الباطلِ ،
وتزدانُ المجالسُ بذكرِ الأسماءِ الأعجميّةِ والفكرِ الوافدِ ، ولا تجدُ في
قاموسِهم موضعاً للسنّةِ والقرءانِ ، فقد صارا للذّكرى والبركةِ .
تفٍّ على هكذا فكرٍ .
وتعساً لهم ، ما أضلَّ أعمالَهم وأشقاهم ! .
من قبلُ : عندما كفرَ إسماعيلُ بنُ أدهمَ كفرةً صلعاءَ ، وخرجَ من الدينِ
من أوسعِ أبوابهِ ، تمنطقَ بالعقلِ والعقلانيّةِ فأعلنَ الإلحادَ ، فجاءهُ
من اللهِ – تباركَ وتعالى – ما لم يكنْ في حُسبانهِ ، ورماهُ بالحيرةِ
والقلقِ والاضطرابِ ، فلم يُطقْ على نكالِ اللهِ في الدّنيا صبراً ،
وانتحرَ مُغرقاً لنفسهِ في مياهِ البحرِ الأبيضِ المتوسّطِ ، وفي جيبِ
معطفهِ ورقةٌ يُطالبُ فيها أهلهُ بعدمِ دفنهِ مع المسلمينَ ، وبحرقِ
جُثّتهِ ، وأنّهُ انتحرَ يأساً من الدّنيا .
وهذا عليُّ بنُ عبدِ الرازقِ ، ذلكَ الشيخُ المُعمّمُ الأزهريُّ الضالُّ ،
الذي تبنّى – عاملهُ اللهُ بما يستحقُّ – كتابَ " الإسلامِ وأصولِ الحكمِ "
، ووضعَ اسمهُ عليهِ ، وصرّحَ فيهِ بأنَّ الإسلامَ لا علاقةَ لهُ بالحكمِ ،
وقرّرَ العلمانيّةَ وأصّلَ لها بما ظنّهُ أدلّةً شرعيّةً ، فانبرى لهُ
أسْدُ اللهِ من جهابذةِ أهلِ العلمِ ، وفنّدوا شُبههُ ، وكسروا حُججهُ ،
حتّى آواهُ المبيتُ بعدَ فترةٍ من عمرهِ إلى القلقِ والخوفِ ، فصرّحَ – كما
نقلَ أنورُ الجُنديُّ – بأنَّ لعنةَ كِتابِ " الإسلامِ وأصولِ الحكمِ " قد
أدركتهُ ، وأمرَ بعدمِ طِباعتهِ .
وهذا فهدٌ العسكرُ ، شاعرٌ ماجنٌ هالكٌ ، بدأ مؤذناً فإماماً في الكويتِ ،
ثُمَّ قرأ في كتبِ التوسعةِ الفكريّةِ ، وفتحَ لنفسهِ آفاقَ الحرّيةِ
العقليّةِ ، فدعاهُ ذلكَ إلى الحيرةِ والقلقِ والشكِّ ، ولم يُطقْ على ذلكَ
صبراً ، فشربَ الخمرةَ ، ورافقَ البغايا واتخذهنَّ أخداناً ، بعدَ أن كانَ
القرءانُ سميرهُ وأنيسهُ ، حتّى عميَ بصرهُ لفرطِ شُربهِ للخمرِ بعدَ أن
عميَ قلبهُ ، وصرّحَ بالكفرِ والتشكّكِ في شعرهِ ، فماتَ خاسئاً في أحدِ
المشافي ، ولم يُصلِّ عليهِ أهلهُ لكفرهِ .
وأمّا من نحنُ بصددهِ ، فهو رجلٌ سلكَ ومشى على طريقةِ العقلانيينَ حذوَ
القذّةِ بالقذّةِ ، وانتحلَ منهجهم ، وعظّمَ رجالهم ، وكتبَ وغامرَ وزاحمَ
، فأتى بما لم تستطعهُ الأوائلُ ، ولكنْ خزياً وعاراً .
إنّهُ محمود أبو ريّة .
ذلكَ المصريُّ الكاتبُ في مجلّةِ الرسالةِ ، والذي بدأ حياتهُ مُتسكّعاً
على شيخِ الأدبِ وإمامهِ : مُصطفى صادق الرافعيِّ ، يقتاتُ على فتاتِ
مائدتهِ ، ويستطعمهُ الفائدةَ ويستجديهِ المسائلَ ، ويغترفُ بقايا معينهِ ،
حتّى أدّاهُ ذلكَ إلى أنْ صارَ شيئاً يُشارُ إليهِ بالبنانِ ! .
ثُمَّ دخلَ عالمَ التصنيفِ ، وكانَ مُبتدأُ أمرهِ تلخيصَ الكُتبِ واختصارها
، فاختصرَ منها جملةً ككتابِ " المثلِ السائرِ " و " ديوانِ المعاني "
واختارَ نُخبةً من أخبارِ " الأغاني " وغيرِها ، حتّى انتهى إلى التأليفِ
والتصنيفِ الخاصِّ بهِ .
وكانَ من أمرهِ أنْ سوّدَ – سوّدَ اللهُ وجههُ وقد فعلَ – مجموعةً من
الصفحاتِ بكتابٍ غايةٍ في السوءِ والغلِّ ، ألا وهو كتابهُ " أضواءٌ على
السنّةِ المُحمّديّةِ " ، هاجمَ فيهِ السنّةَ النبويّةَ ، وخلصَ إلى أنّها
غيرُ ملزمةٍ لأحدٍ في العملِ بها ، وتطاولَ كذلكَ على الصحابةِ الكِرامِ ،
وخصَّ من كتابهِ جزءً كبيراً في الهجومِ على الصحابيِّ الفقيهِ الإمامِ
الربّانيِّ : أبي هريرةَ – رضيَ اللهُ عنهُ - ، وكتبَ فيهِ ما لم يكتبهُ
كثيرٌ من علوجِ المُستشرقينَ ولا ضُلاّلِ الروافضِ من الهجومِ على الصحابةِ
، ولم يبقَ وصفٌ من صفاتِ السوءِ والدناءةِ إلا حطّهُ على أبي هريرةَ –
رضيَ اللهُ عنهُ - ، وكانَ من جملتها اتهامهُ بالكذبِ صراحةً ، وبوضعِ
الحديثِ واختلاقهِ .
وقد استقى كتابهُ السالفَ من مجموعةٍ من المراجعِ ، وكانَ على رأسِها كتابٌ
لأحدِ علماءِ الرافضةِ ، وهو الشيخُ : عبدُ الحسينِ شرفُ الدّينِ ، وكتابهُ
هو " أبو هريرةَ " ، وفي هذا الكتابِ خلصَ المؤلّفُ الرافضيِّ – عاملهُ
اللهُ بما يستحقُّ – إلى أنَّ أبا هريرةَ – رضيَ اللهُ عنهُ – كانَ منافقاً
كافراً ! ، ألا لعنةُ اللهِ على الظالمينَ .
وأمّا الفيصلُ الذي كانَ يُحاكمُ السنّةَ الصحيحةَ إليهِ في كتابهِ ، فهو
العقلُ ، فالعقلُ – كما زعمَ – هو الحاكمُ والميزانُ العدلُ في نقدِ
السنّةِ ، وبيانِ صحيحِها من سقيمِها .
وقد أحسنَ العلاّمةُ الشيخُ : مُصطفى السباعيُّ – برّدَ اللهُ مضجعهُ – في
وصفِ أبي ريّةَ وكِتابهِ هذا ، عندما قالَ : " هذا هو أبو ريّةَ على
حقيقتهِ ، جاهلٌ يبتغي الشُهرةَ في أوساطِ العلماءِ ، وفاجرٌ يبتغى الشهرةَ
بإثارةِ أهلِ الخيرِ ، ولعمري إنَّ أشقى النّاسِ من ابتغى الشهرةَ عندَ
المنحرفينَ والموتورينَ بلعنةِ اللهِ والملائكةِ والنّاسِ أجمعينَ " .
إنَّ من أعجبَ العجبِ أن يشتهرَ كتابُ أبي ريّةَ ، فيصلَ إلى جميعِ جامعاتِ
أوروبّا وأمريكا ، وتنتهي طبعتهُ الأولى ثُمَّ الثانيةِ في فترةٍ وجيزةٍ
جدّاً ، ثُمَّ يموتُ الرّجلُ ، ولا تجدُ لهُ ترجمةً واحدةً ولو يسيرةً في
كتبِ التراجمِ ! ، وقد نقّبتُ فيها ، وبحثتُ واستعنتُ بأهلِ الخبرةِ
والبحثِ ، فلم أقفْ لهُ على أثرٍ في كتبِ التراجمِ مُطلقاً ، فانظرْ كيفَ
عاملهُ اللهُ بنقيضِ قصدهِ ! ، وأخملَ ذكرهُ بعدَ إمعانهِ في طلبِ الشّهرةِ
والبحثِ عن المنزلةِ والمكانةِ ! .
ولم يكتفِ بهذا الكتابِ فقط ، بل زادَ إلى كنانتهِ سهماً آخرَ من سِهامِ
الجهلِ والضلالِ ، عبرَ كِتابهِ " دينُ اللهِ واحدٌ " ، والذي خلصَ فيهِ
إلى دخولِ اليهودِ والنّصارى للجنّةِ مع المُسلمينَ ، وأنَّ الإيمانَ
باللهِ تعالى ووجودهِ – وحسب – كافٍ في النّجاةِ من النّارِ والدخولِ إلى
الجنّةِ .
كلُّ ذلكَ لم يُغنِ عنهُ شيئاً ! ، بل كانَ عليهِ وبالاً وسوءاً ، ووقعتِ
الواقعةُ التي فضحتْ قصدهُ وكشفتْ خبيئهُ .
إنّها لحظةُ الموتِ وسكراتِهِ ، حيثُ لا يخفى شيءٌ من الحالِ ، وصدقَ
الإمامُ أحمدُ – أعلى اللهُ درجتهُ في الجنّةِ - : " قولوا لأهلِ البدعِ
بيننا وبينكم الجنائزُ " .
فكانتْ هذه خاتمتهُ ونهايةَ أمرهِ في الدّنيا :
سمعتُ من شيخي العلاّمةِ : مُحمّدِ بنِ مُحمّدٍ المُختارِ الشنقيطيِّ –
متّعهُ اللهُ بالعافيةِ – في مجالسَ مُتعدّدةٍ ، أنَّ أبا ريّةَ عندما كانَ
في وقتِ النزعِ الأخيرِ ، وساعةِ الاحتضارِ ، حضرهُ نفرٌ من النّاسِ ،
ورأوهُ وقد اسودَّ وجههُ – والعياذُ باللهِ – وكان يصرخُ مرعوباً فزِعاً
بصوتٍ عالٍ ، وهو يقولُ : آه ! ، آه ! ، أبا هريرةَ أبا هريرةَ ، حتّى ماتَ
على تلكَ الحالِ .
اللهمَّ إنّا نعوذُ بكَ من الخذلانِ والضلالِ .
إنَّ اللهَ ليغارُ على أوليائهِ .
ومن حاربهُ في أوليائهِ ، أو بارزهُ فيهم ، فإنَّ أجلَ اللهِ لهُ بالمرصادِ
، والخاتمةُ السيئةُ لمن هذا حالهُ أقربُ من شِسْعِ نعلهِ ، فمن أطلقَ
لسانهُ في أولياءِ اللهِ وأصفياءهِ ، فإنَّ جُندَ اللهِ من الأقدارِ
مُجهّزةٌ ، وطوارقُ الشرِّ لهُ بالمرصادِ ، هذا في الدّنيا ، وأمّا في
الآخرةِ فلا يعلمُ أمرَ ذلكَ إلا اللهُ سُبحانهُ وتعالى .
هذه بعضُ مصائرِ العقلانيينَ ، فهل من مُعتبرٍ ! .
واللهِ إنَّ حياتهم حيرةٌ وقلقٌ وتخبّطٌ ، لا يعلمونَ من الحقِّ إلا قليلاً
، وبقيّةُ دينِهم يحتذونَ فيهِ من غلبَ وبزَّ .
هذه أسفارهم ومقالاتُهم ، هل تجدونَ فيها نوراً من أنوارِ الكتابِ والسنّةِ
عليها ؟ ، واللهِ إنّها ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ ، تُقسّي القلبَ ، وتُغضبُ
الرّبَّ ، وتفتحُ أبواباً كانتْ موصدةً تؤدّي إلى الزندقةِ والضلالِ .
تبّاً لمن كانتِ الشريعةُ خصمهُ ، وسُحقاً لمن حاربَ اللهَ في كتابهِ ،
وبُعداً لمن نابذَ النبيَّ الكريمَ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – في
سنّتهِ وهديهِ .
من سيماهم تعرفونهم ، فهل هؤلاءِ سيماهم وصفاتُهم هي من سماتِ أهلِ الخيرِ
والصلاحِ ؟ ، هل هم من أربابِ المساجدِ والصلواتِ وقيامِ الليلِ والبرِّ
والصدقةِ والعفافِ والصلةِ ؟ ، هذا هو دينُ اللهِ تعالى ، علمٌ وعملٌ ،
وأمّا دعواتُ هؤلاءِ الممسوخينَ فهي التمرّدُ على الدينِ باسمِ القراءةِ
الجديدةِ للتراثِ ، وتارةً باسمِ التفكيكِ للمنهجِ السلفيِّ ، وأخرى باسمِ
الفهمِ الجديدِ للدّينِ .
هذه بعضُ القصصِ التي وقعتْ لهم ، لتعلموا كيفَ يُقاسونَ ويُعانونَ ، ومن
أصدقُ من اللهِ قيلاً : (( ومن أعرضَ عن ذكري فإنَّ لهُ معيشةً ضنكاً ،
ونحشرهُ يومَ القيامةِ أعمى ، قالَ ربِّ لمَ حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً ،
قالَ كذلكَ أتتكَ آياتُنا فنسيتَها ، وكذلكَ اليومَ تُنسى )) .
ملاحظةٌ : إذا وقفَ أحدُكم على ترجمةٍ لأبي ريّةَ ولو مُقتضبةٍ ،
فلْيراسلني - كرماً منهُ وتفضّلاً - على بريدي ، فقد أضناني البحثُ ولم
أجدْ شيئاً ، ووجدتُ قديماً ترجمةً لكاتبِ اسمهُ : جمال محمود أبو ريّة ،
لهُ مجموعةٌ من المؤلّفاتِ في قصصِ الأطفالِ ، ولا أدري هل هو ابنهُ ، أم
تشابهٌ في الأسماءِ ؟ ، فمن كانَ عندهُ بقيّةٌ من خبرٍ ، أو أثارةٌ من علمٍ
فلْيُغثنا .
دمتم بخيرٍ .
أخوكم : فتى .
ana_fataa@yahoo.com