بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم .
أما بعد :
من أشد الإبتلاءات أن تقبض أرواح لإشخاص قريبين لنا ، أو نبتلى بفراقهم
كانوا أحياءً أم رحلوا عن هذه الحياة ..
هذا مادعاني لكتابة هذه الأسطر .. ففي الأمس رحلت احدى أقارب والدتي ،
عليها وعلى جميع أموات المسلمين تنزل الرحمة والمغفرة بإذنه تعالى ، فهؤلاء
لا نملك لهم سوى /
- " الدعاء "، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا
صليتم على الميت فأخلصوا لہ الدعاء ) أخرجه ابن ماجه .
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم للأموات فعلاً وتعليماً ، ودعاء الصحابة والتابعين والمسلمين
عصراً بعد عصر أكثر من أن يذكر وأشهر من أن ينكر ، وقد جاء أن الله يرفع
درجة العبد في الجنة فيقول : أنى لي هذا ؟ فيقال : بدعاء ولدك لك .
- " الصدقة " فقد ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أتى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص ، وأظنها لو تكلمت
تصدقت ، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم .
عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا مات الإنسان
انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو
ولد صالح يدعو له " *
وكذلك ..
- " الصوم"ورد أن ثوابه يصل بإذن الله ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله
عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليّه ) .
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه : يصام عنه في النذر ويطعم عنه في قضاء
رمضان ، وهذا مذهب الإمام أحمد .
- " الحج" ورد أن ثوابه يصل بإذن الله ، وري عن ابن عباس رضي الله عنه : أن
امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج ، فقال : ( حجي عن أبي ) أخرجه
النسائي
فهذه من أقدار الله .. و أركان الإيمان ستة هي الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
فإن الذي يموت قد مات بقضاء الله تعالى وقدره، بعدما استوفى جميع رزقه،
وانتهى عمره، وحضر أجله المكتوب له سابقًا، فلا يتأخر عنه، ولا يتقدم ، وقد
قال الله تعالى :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) {الأعراف:34}.
يقول ابن قيم الجوزية :
" مازلت على عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل والأولاد ، ولا
أتخايل إلا بلى الأبدان في القبور فأحزن لذلك فمرت بي أحاديث قد كانت تمر
بي ولا أتفكر فيها ، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم :( إنما نفس المؤمن طائر تعلق في
شجرة الجنة حتى يرده اللّه عز وجل إلى جسده يوم يبعثه ) [١]
فرأيت أن الرحيل إلى الراحة ، وأن هذا البدن ليس بشيء ، لأنه مركب تفكك
وفسد ، وسيبنى جديداً يوم البعث فلا ينبغى أن يتفكر في بلاه . ولتسكن النفس
إلى أن الأرواح انتقلت إلى راحة فلا يبقى كبير حزن ، وإن اللقاء للأحباب عن
قرب ، وإنما يبقى الأسف لتعلق الخلق بالصور ، فلا يرى الإنسان إلا جسداً
مستحسناً قد نقض فيحزن لنقضه . والجسد ليس هو الآدمي وإنما مركبه ،
فالأرواح لا ينالها البلى ، والأبدان ليست بشيء ، واعتبر هذا بما إذا قلعت
صرسك ورميته في حفرة ، فهل عندك خبر مما يلقى في مدة حياتك ..؟ فحكم
الأبدان حكم ذلك الضرس ، ولا تدري النفس مايلقى ، ولا ينبغي أن تغتم بتمزيق
جسد المحبوب وبلاه ، واذكر تنعم الأرواح ، وقرب التجديد ، وعاجل اللقاء فإن
الفكر في تحقيق هذا يهون الحزن ويسهل الأمر " . [٢]
ويقول ابن قيم الجوزية :
" تفكرت في نفسي فرأيتني مفلساً من كل شيء ! إن اعتمدت على الزوجة لم تكن
كما أريد ، إن حسنت صورتها لم تكمل أخلاقها وإن تمت أخلاقها كانت مريدة
لغرضها لا لي ، ولعلها تنتظر رحيلي ، وإن اعتمدت على الولد فكذلك ، والخادم
والمريد لي كذلك ، فإن لم يكن لهما مني فائدة لم يريداني .
وأما الصديق فليس ثَمَّ ، وأخ في الله كعنقاء مغرب ، ومعارف يفتقدون أهل
الخير ويعتقدون فيهم قد عدموا وبقيت وحدي ، وعدت إلى نفسي وهي لا تصفو إلي
أيضاً ولا تقيم على حالة سليمة فلم يبق إلا الخالق سبحانة ، فرأيت أني
اعتمدت على إنعامه فما آمن ذلك البلاء ، وإن رجوت عفوه فما آمن عقوبته ،
فوا أسفا لا طمأنينة ولا قرار ، واقلقي من قلقي ، واحرقي من حرقي . بالله
مالعيش إلا في الجنة ، حيث يقع اليقين بالرضا والمعاشرة لمن لا يخون ولا
يؤذي فأما الدنيا فما هي دار ذلك " [٣]
ورد في كتاب الروح لابن قيم الجوزية أن أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور
وتتذاكر ولكن هنا التفصيل :
فالأرواح كما أورد ابن قيم قسمان : أرواح معذبة وأرواح منعة ، فالمعذبة في
شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي ، والأرواح المنعمة المرسلة
غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور ( سواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو
متقاربة ) وتتذاكر ماكان منها في الدنيا ، ومايكون من أهل الدنيا ، فتكون
كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها . وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق
الأعلى .
قال عبد الله بن المبارك : رأيت سفيان الثوري في النوم ، فقلت لہ : مافعل
الله بك ؟ قال : لقيت محمداً وحزبه .
وقال صالح المري : بلغني أن الأرواح تتلاقى عند الموت ، فتقول أرواح الموتى
للروح التي تخرج إليهم : كيف كان مأواك ، وفي أي الجسدين كنت في طيب أم
خبيث ؟ ثم بكى حتى غلبه البكاء .
قال عمار بن سيف : رأيت الحسن بن صالح في منامي فقلت : قد كنت متمنياً
للقائك فماذا عندك فتخبرنا به ؟ فقال : أبشر فإني لم أر مثل حسن الظن بالله
شيئاً .
والله تعالى أجل وأعلم ، والحمد لله أولاً وآخراً .. وصلى الله على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
------------------------------------------------
[١] اخرجه النسائي ٤/١٠٨ ، وابن ماجه ٤٢٧١ وغيرهم .
[٢] كتاب صيد الخاطر ص ٢٠٦-٢٠٧
[٣] كتاب صيد الخاطر ص ٢٤٩
|