بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم .
أما بعد :
قال ﷻ [ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى
أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ
لَا تَعْلَمُونَ ] [البقرة: 216]
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد ، فإن العبد إذا علم أن المكروه
قد يأتي بالمحبوب ، والمحبوب قد يأتي بالمكروه ، لم يأمن أن توافيه المضره
من جانب المسرة ، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه
بالعواقب ، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد أوجب له ذلك أموراً :
منها : أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليھ في الإبتداء ، لأن
عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع .
وكذلك لا شيء أضر عليھ من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه ، فإن
عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب ، وخاصية العقل تحمل الألم اليسير
لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير ، واجتناب اللذة اليسيرة لما
يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل .
فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها ، والعقل الكيّس دائماً ينظر إلى
الغايات من وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة ، فيرى المناهي
كطعام لذيذ قد خلط فيه سمُّ قاتل ، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه
من السم ، ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفضٍ إلى العافية والشفاء ،
وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعهُ بالتناول .
ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها ، وقوة صبر يوطن به
نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية ، فإذا فقد اليقين والصبر
تعذّر عليھ ذلك ، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليھ كلَّ مشقة يتحملها في طلب
الخير الدائم واللذة الدائمة .
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور
، والرضا بما يختاره له ويقضيه له ، لما يرجو فيه من حسن العاقبه .
ومنها : أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليھ ولا يسأله ما ليس له به علم ،
فلعل مضرَّته وهلاكه فيه وهو لا يعلم ، فلا يختار على ربه شيئاً بل يسأله
حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك .
ومنها : أنه إذا فوّض أمره إلى ربه ورضي بما يختاره له أمدَّه فيما يختاره
له بالقوة عليھ والعزيمة والصبر ، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار
العبد لنفسه ، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما
يختاره هو لنفسه .
ومنها : أنه يريحه من الأفكار المتبعة في أنواع الإختيارات ، ويفرغ قلبه من
التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في آخرى ، ومع هذا فلا
خروج له عما قدر عليھ ، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور
ملطوف به فيه ، وإلا جرى عليھ القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه ، لأنه مع
اختياره لنفسه ، ومتى صح تفويضه ورضاه ، اكتنفه في المقدور والعطف عليھ
واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه ، فعطفه يقيه مايحذره ، ولطفه يهون عليھ
مافدّرهُ .
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده ، فلا أنفع
له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحاً كالميته ، فإن السبع لا
يرضى بأكل الجيف .
والله أجل وأعلم
للإستزادة /
كتاب الفوائد - لابن قيم الجوزية (١٤٦-١٤٧)
..................................
* رابط مفيد / كِتاب الداء والدواء لابن القيم كتاب
http://t.co/WWOU8jJeDS
|