بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنها قصة البداية ، وأساس البناء ، رسمت معالم الطريق ، و حددت الخطوط
العريضة له ، فما من أحد من ذريته إلا و هو خاضع لتلك السنن و القوانين
الأولى ، لأنها حددت المشكلة ثم حددت أسبابها ، ثم علاجها و الشفاء منها ،
ثم غاصت في أعماق النفوس ، و عبرت عن حاجاتها ، ثم جلت أصل المجتمع و لبنته
، فهي حددت القدر المشترك بين البشر ، و ما سيتعرضون له من بعد ، و زودته
بما يحتاج له ، ليسير الآدمي في حياته مبصراً للطريق ، درباً على منحنياته
و منعطفاته ، مستهدياً بعلاماته و مناراته ، فلا ضير بعد ذلك أن نرى اهتمام
القرآن بهذه القصة المباركة ، فكانت أول قصة يتناولها من بدايته ، و ما ذاك
إلا لما تضمنته هذه القصة من توضيح و بيان لا يستغنى عنه أبدا ، كما أن
الأبوة ما تزال تدب في نفوس ذريته من بعده ، و آثارها ملتصقة بنفوس بنيه لا
تندرس ، و لذلك جاء في الحديث الصحيح ( فجحد آدم ، فجحدت ذريته ، ونسي آدم
، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم ، فخطئت
ذريته ) مما يعني ترابطاً عجيباً بين الأب و ذريته ، فالطرق واحد ، و الخطر
واحد ، و للنجاة طريق واحد ، و لذا فسنقف مع هذه القصة قليلاً ، لنستعرض
قواعد عامة تضمنتها :
القاعدة الأولى : خطر المعصية و شؤمها:
فالمعصية هي العائق الرئيس و الأصيل ، ملتصقة ببني آدم التصاق الروح بالبدن
، فكأنما لكل ليل نهار ، فكذلك لكل آدمي ذنوب و معاصي لا تنفك عنه ، و هي
من لوازم النقص للآدمي الضعيف ، و هذه الذنوب هي التي تسببت في هلاك الأمم
من قبلنا كما قال الله عز وجل ( فكلاً أخذنا بذنبه ..) ففي هذه القصة أعظم
زاجر عن الذنوب ، كيف لا و قد اخرج من الجنة إلى دار الشقاء بذنب واحد فقط
، فكيف المصر على الذنوب دهور !! :
يا ناظراً يرنو بعيني راقبِ ومشاهـداً للأمر غير مشاهــــد
تصل الذنوب إلى الذنـوب وترتجي نيل الجنان ودرك فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحــــــد
فتعظيم الذنب ، و معرفة خطره و ضرره ، و شؤمه و سوء عاقبته هو الدرس الأول
من هذه القصة العجيبة ، و هي رسالة واضحة لبني آدم أن يتنبهوا لهذا الخطر و
يعدوا له العدة.
القاعدة الثانية : سبب المعصية و العدو الأول :
عند استيعاب المعصية وإدراك ضررها ، جاء التفصيل ببيان سببها و من يدفع
إليها ، و هذا يقتضي الحذر و اخذ الحيطة ، و لذلك جاء القرآن بتفصيل أساليب
الشيطان و مكره ، من التزيين و الزخرفة ، و الخطوات و التمني و التسويف و
الغرور و الأيمان الكاذبة و الاستفزاز و التكالب مع أوليائه على بني آدم و
المكر و التحريش .. ، و ما ذاك إلا لينتبه الآدمي من هذا العدو ، و ليستوعب
مكره و خداعه ، فجميع الطرق و الأساليب واضحة أمامه ، فلا عذر يوم القيامة
لمن اتبع الشيطان و ركن له ( و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم.. )
القاعدة الثالثة : التوبة طريق النجاة .
و هذا هو علاج الذنوب ، و السلاح الذي يجابه به الشيطان ، فليس العيب في
الخطأ و لكن في الاستمرار فيه ، و ليس المطلوب أن لا تخطأ و لكن الواجب
عليك ان تتوب ، و ترجع إلى الله و تئوب ، و لذلك لما أخطأ آدم عليه السلام
رجع إلى ربه و تاب و أناب : ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و
ترحمنا لنكونن من الخاسرين )
فهذا هو العلاج لبني آدم ، أن يتوبوا من الشرك إلى التوحيد و من الكفر إلى
الاسلام و من المعصية إلى الطاعة و من الضلال إلى الهدى فهي رسالة واضحة من
هذه القصة ، بأن الرجوع و التوبة عنوان الفوز و النجاة ، و هي الوسيلة
الوحيدة للخلاص من الشيطان و كيده ، كما أنها طريق الفلاح و القرب من الله
و نيل رضاه .
و تأمل كيف تضمنت توبة آدم الخير بحذافيره كما جاء في سورة طه ( ثم اجتباه
ربه فتاب عليه و هدى) فاصطفاء و قبول توبة و هداية و هذا كل ما نحتاجه
للفلاح.
و بذلك فقد جاء في هذه القصة الحقائق الكبرى ، و تضمنت المسائل العظمى ،
فجاءت بالمشكلة و سببها و علاجها بأوضح عبارة و أوجز لفظ و بيان .
القاعدة الرابعة : حاجة النفوس للسكن.
و هذه حاجة نفسية يحتاجها كل آدمي ، فتهيئة الأجواء و تنقيتها ، و السكينة
و الطمأنينة و الهدوء ، هي المناخ الملائم للإنتاج و الجهد و العمل ، فإذا
غاب هذا المعلم و اندرس ، فلا تسأل حينئذ عن اضطراب الحياة و خلخلتها ، و
ضيقها و سوادها ، فلا إنتاج و لا عمل و لا أخلاق و لا سعادة ، و ما ثم إلا
الحيرة و النزق و الأمراض و الانتحار ، و لذلك قال الله عز وجل ( اسكن أنت
و زوجك الجنة ) و قال تعالى ( و جعل منها زوجها ليسكن إليها ) .
فالواجب على كل آدمي أن يهئ أجواء السكن في هذه الحياة بكافة مجالاته ، و
أن يكون ملما بكل دلالاته و متعلقاته ، بداية من سكونه و طمأنينته بربه ، و
كذلك نفسه و بيته و كل من و ما يتعامل به ، من سكن البيت و الزوجة و
الأولاد و العمل و العلاقات ، حتى يستطيع أن يبني و ينتج و يثمر في هذه
الحياة ، و لذلك لما أكثر نساء النبي صلى عليه و سلم من الالحاح عليه
بزيادة النفقة حتى اغضبنه و هجرهن شهرا ، جاء القرآن بتربيتهن و نزلت آيات
التخيير في سورة الأحزاب ، فلم يؤذين النبي صلى الله عليه و سلم بعدها حتى
لقي ربه ، و ما ذاك إلا لتفريغ النبي صلى الله عليه و سلم من ضغوطات الحياة
و تفريغه لمهمته الكبرى ، و هذا هو الواجب علينا بأن نواجه مشاكلنا ، و
نسعى في حلها و عدم تعقيدها ، و ننشر ثقافة السكينة في انفسنا و بيوتنا و
مجتمعاتنا ، و نساهم في ثقافة السكن و الراحة و الطمأنينة .
القاعدة الخامسة : الأسرة أساس البناء.
عندما نتخيل بأن المليارات من البشر و التي تدب على الأرض في كل يوم ، ، ثم
نرجع بذاكرتنا إلى ملايين السنين لنتذكر من كانوا يعمرون الأرض إلى اليوم ،
ثم نتأمل أن الجميع كانوا من اسرة واحدة و بيت واحد يتكون من رجل و زوجته ،
ندرك حينها كثيراً قيمة هذه الأسرة و أهميتها ، ندرك بان الأسرة هي أساس
بناء المجتمعات و رقيها ، مما يحتم علينا الحفاظ على هذا الأساس المتين و
رعايته ، و ما زالت الأمم و الشعوب على اختلاف مذاهبها و أديانها تعتني
بهذه الأسرة و تحرص عليها ، و تسوسها و تحيطها بسياج من القداسة و الهالة ،
حتى جاءت حضارة هذا القرن التي تسعى لتقويض الأسرة و تفريغ البيوت منها ،
ليعيش الناس حياة البهائم و الوحوش ، يفترس القوي الضعيف ، و يعيش كل من
اجل نفسه فقط ! إنها جريمة في حق البشرية قد استوفت جميع أركانها ، و قتلت
صفات العفة و الأخلاق و السكن و الطمأنينة ، فأي جناية ارتكب هؤلاء ! بقلع
هذه الأساس المتين و تقويضه ، و فرض واقع بلا أساس و لا بناء ، ثم يتبجحون
بعد ذلك بالحرية الشخصية التي تنبذ الأسرة و تعزز ثقافة الفرد.
فقصة آدم أعطتنا درساً بليغاً واقعياً ملموسا ، على مكانة الأسرة و أهميتها
في النمو و الارتقاء و البقاء .
القاعدة السادسة :العفة و ستر العورات
فالعفة و ستر العورات هي من الغرائز المستقرة في النفوس ، و هذا من رحمة
الله بعباده ، لأن الأجساد إذا تعرت ، و العفة إذا تهكتت ، فإن الناس
ينفضون حينئذ لباس الأدميين ، و يتلفعون بلباس الوحوش و الذئاب المسعورة ،
و تراهم يجوبون الأرض من أجل المتعة المحرمة ، و اللذة الفانية ، و تهدم
حينها القيم ، و تموت المبادئ ، و تتفكك الأسر ، و يبقى كل يطارد وراء لذته
و شهوته ، فأي حياة هذه الحياة ! و أي طعم لها مع هذا الجو الصاخب المزعج !
إن نزع اللباس له عدة صور و أشكال ، فقد يكون بالقصير و الشفاف و الضيق و
تفصيل العورات و عروض الأزياء ، و ما ذاك إلا امتداد لأسلوب الشيطان و
طريقته حين كشف عن عورة آدم و حواء في الجنة (يَنْـزِعُ عَنْهُمَا
لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ) و اللذان ابتدرا (وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) ليسترا عوراتهما التي
سعى الشيطان في كشفها ، مما يضعنا أمام طريقين لا ثالث لهما إما طريق
الأنبياء من الستر و العفة ، و إما طريق الشيطان من التجرد و العري و
التهتك ، فلا بد أن يكون المجتمع حارساً على قيمه و مبادئه ، و أن يكون
سيره على طريق الأنبياء ، ابتداء من أبيهم آدم الذي أعطتنا قصته المبادئ
الأساسية لسير الأفراد و المجتمعات .
و أخيراً فهذه وقفات مع هذه القصة المباركة ، عسى الله أن ينفعني بها و
إخواني المسلمين بفضله و منته و صلى الله على نبينا محمد .
|