بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت قوله تعالى في سورة النمل :
"وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ
بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) " وتساءلت قبل البحث في التفاسير التي
بين يديّ – وهذه عادتي في التفكير بالمعنى قبل التأكد منه – فأنا أحب أن
أضع الفكرة في إطارها الذي أقـَدّره وأفهمه وأرسم صورته في ذهني ، ثم أتأكد
مما وصلت إليه من فهم في التفاسير التي أتلذذ بقراءتها واستنباط مدلولاتها
، وفي بيتي قريب العشرين تفسيراً ، فأنا مغرم بقراءة التفاسير المتعددة ،
فلكل واحد منها طعم يختلف عن الآخر ، ولون يخالف صاحبه تبعاً لاهتمامات
المفسرين وهواياتهم وقُدُراتهم ، فالقرطبي
رحمه الله تعالى يهتم بالفقه وتعدد الروايات مغ التمحيص وإبداء الرأي ،
وابن كثير رحمه الله يكثر من الإسرائيليات ، وقد يتأثر بها ، وما
على القارئ إلا أن يكون حذراً فيما يقرأ إلا أن ابن كثير لمّاح وذكي وجيد
الاستنباطات ، أما الطبري رحمه الله فجمّاعة
للروايات مسهب بذكرها ويهتم بذكر الأسانيد ، ومن ثَمّ يترك للقارئ أن يأحذ
ما يريد ويطرح ما يريد استناداً على علم القارئ وفهمه ، ولا شك أن القارئ
إن لم يكن واعياً لأسلوب الطبري فأخذ ما يقرأ دون فهم لأسلوبه ضاع وفهم غير
ما أراده المفسّر . ومثله – تقريباً – السيوطي
رحمه الله في تفسيره " الدر المنثور " غير أنه يكثر من الإسرائيليات ويُغرق
فيها . والمراغي رحمه الله يعتمد الأسلوب
العصري في تفسيره ، فيذكر تفسير الكلمات ثم المعنى العام المحتصر ، ثم يشرح
ويعلق ويبدي رأيه ويستنبط معاني دقيقة تدل على طول باعه في التفسير ،
والبيضاوي تفسيره محتصر يفي بالغرض ويهتم
بالنحو ، ومثله النسفي رحمه الله غير أن
تفسيره أوسع وأشمل ، وتراه يوازن بين الآراء وينبه إلى الحسن منها كما يفعل
القرطبي . أما سيد قطب رحمه الله تعالى
فتفسيره اجتماعي حركي دعويّ يسقطه على حاضره معتمداً على ثقافته الدعوية
الشاملة ، وقد ظلمه كثير ممن لا يفقهون من الدعوة إلا قشورها ، يتطاولون
عليه تطاول الأقزام على العملاق .
وبين يديّ من التفاسير الموجزة كثير ، اذكر منها
المنتخب في تفسير القرآن ، وقد ألفه علماء مصريون يشهد لهم من يقرأ
تفسيرهم بعلوّ كعبهم في الفهم والأدب وحسن التعبير . وقد أهداني تلميذي
وصديقي بآن واحد الشيخ مجد مكي تفسيره المختصر "
المعين " أستعين به على اقتطاف بعض المعاني الرائقة .
ولا أنسى بعض التفاسير المتوسطة النافعة التي لها شأو واسع في العصر الحديث
، نفع الله تعالى بها الناس كـ " صفوة التفاسير"
للشيخ الصابوني أطال الله عمره ونفع به ، فهو تفسير أكادمي موفّق يدل على
مكانة صاحبه السامية في الأدب والتفسير على حدّ سواء .
أعود فأتساءل : لم اللقاء بكبار العتاولة والمجرمين وقد ثبت أنهم من
أهل السعير ؟ ولماذا يُحشرون إلى ربهم قبل السقوط في غيابة جهنم؟ وانظر إلى
تقديمهم بين الكفار والمشركين والفسقة والملحدين ، وقد كانوا في الدنيا
زعماءهم وسادتهم . ثم يُساقون إلى ربهم للحساب والتوبيح والتقريع ، وممن
التوبيخ؟ إنه صادر عن الذات الإلهية ، يقول لهم تعنيفاً وتبكيتاً : كذبتم
بكل آياتي وأنكرتموها دون تدبر ولا فهم ، بل ماذا كنتم تعملون وأنتم لم
تُخلقوا عبثاً ؟. ويسكتون فلا ينطقون ، وتحل عليهم اللعنة ، ثم ينبذون في
سواء الجحيم .
" حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا
بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) " يقول سيد رحمه الله :
الناس كلهم يُحشرون ، إنما شاء أن يبرز موقف المكذبين " فهم يوزعون "
يساقون أولهم على آخرهم ، حيث لا إرادة لهم ولا وجهة ولا اختيار . ويُسألون
السؤال الأول للتخجيل والتأنيب ، فمعروف أنهم كذبوا بآيات الله ، أما
السؤال الثاني فملؤه التهكم ، وله في لغة التخاطب نظائر، أكذّبتم؟ أم ماذا
كنتم تعملون ؟ فما لكم عمل ظاهر يُقال إنكم قضيتم حياتكم فيه إلا هذا
التكذيب المستنكر الذي ما كان ينبغي أن يكون ... ومثل هذا السؤال لا يكون
عليه جواب إلا الصمت والوجوم ، كأنما وقع على المسؤول ما يلجم لسانه ،
ويكبت جنانه . " وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا
يَنْطِقُونَ (85) "
أقول : قد تكون العقوبة السريعة أهون منها حين تُسبق بتوبيخ وإهانة واحتقار
، إن انتظارها وهي محتومة أصعب من الاكتواء بها مباشرة ، وانظر إلى شدة خوف
الكفار من النار وهي تعرض عليهم وهم يخافون النظر إليها مجابهة – أعاذنا
الله منها – واقرأ معي قوله تعال في سورة الشورى الآية 45 " وتراهم يُعرضون
عليها خاشعين من الذل ينظرون من طَرْف خفيّ "
والخشوع من الذل خوف شديد يقطع الأنفاس ويُذهب العقول ، وهم في يأس شديد
أشد من العذاب يزيد في إيلامهم ولمّا يقذفوا في أتون النار ، نسأل الله
تعالى العافية وحسن الختام .
|