إن المتأمل في واقعنا اليوم يرى انفتاح المعاملات المالية بشكل عجيب ،
فتكاد في كل يوم تستحدث طريقة او عدة طرق لجلب المال و الاستثمار ، دون
أن يرجع بعضها إلى أساس شرعي ، أو إلى من يبحث في شرعيتها و يحدد حكمها
و ضوابطها ، و ما ذاك إلا للنهم و الشره في جمع المال و تحصيله ، بغض
النظر عن تحريمه أو تحليله ، مما جعل للمال سلطاناً في حياة الناس يحدد
مسارها و علاقاتها ، فأصبحت الآيات و الأحاديث بمعزل عن كثير من هذه
المعاملات ، كما أن كلمات الأولين في الحث على طيب المطعم ، و طلب
الحلال ، قد غابت عن أذهان الكثير ، مما يستدعي جهوداً جبارة ، لإعادة
النصوص الشرعية إلى الساحة بقوة ، و الوقوف في وجه هذا الغثاء ، الذي
تولد من تبعية مقيته للحضارة الرأسمالية الموبوئة و لعل في قصة نبي
الله شعيب – عليه السلام -قواعد كلية ، و تجارب ناضجة ، و نماذج خيرة ،
و طريقة موفقة و مسددة للإهتمام بالرزق الحسن ، كما تضمنت التحذير من
النماذج السيئة ، و الطرق الملتوية لجمع المال ، فرسم في دعوته عليه
السلام للدعاة منهجاً قويما ، إذ نجد في دعوته لقومة تحذير و إنذار ، و
ترغيب و ترهيب ، منع من الظلم ، وحث على حتمية العدل ، كما ذكر في
دعوته لهم صوراً حية ، من هذه المعاملات التي ينبغي عليهم تركها
بالكلية ، ثم حذر من عواقب الاستمرار في هذا الطريق الملوث ، بأنه فساد
في الأرض بكل ما تعنيه هذه الكلمة من حقـائق و دلالات ، و لعل هذا
الجهد الجبار ، من نبي الله شعيب في إصلاح هذا الخلل ، و محاولاته
الحثيثة لإعادة التوازن المالي في المجتمع ، و الوقوف في وجه الفساد
بالمبادئ و القيم الأصيلة ، لدلالة واضحة على أهمية الجانب الاقتصادي
في حياة الناس ، و أي انحراف في هذا الجانب لهو نذير شر على المجتمع
بأسره ، إذا لم يؤخذ على أيدي المفسدين ، فتضمنت دعوته لقومه الحث على
طلب الرزق الحسن من خلال القواعد التالية :
أولاً :العدل .
و هذا أساس في المعاملات المالية و غيرها ،عند تعامل الخلق مع بعضهم
البعض ، فلا يجوز لأحد مهما كان ، بأن يخل بهذا الأساس المتين ،أو
يتنكر له، و لو كان تعامله مع ظالم أو كافر ، و من نصيحة نبي الله شعيب
- عليه السلام - لقومه ، أن أمرهم بالعدل ،فيتحقق لهم بذلك الربح و عدم
الظلم ، كما أن العدل نقطة وسط ، أي أنه قريب منهم ليس شاقاً العمل به
، كما أن التعامل به ليس به أي خسارة كما يتوهمون ، و هذه الحقيقة لا
بد أن يعيها الاقتصاديون جيدا ، إذ إن العدل يحقق الطمانينة في المجتمع
، وينشر الثقة و الراحة بين أفراده ،و يربح بالتعامل به جميع الأطراف ،
دون ظلم أو حيف ، فنهاهم أولاً عن الظلم ، ثم أمرهم بالعدل ، و هذا
يشمل الموظف في وظيفته ، و التاجر في حانوته ، و العامل في مصنعه ، فلا
ينقص الحقوق الواجبة عليه للآخرين ، أو يفرط فيها ، أو يأخذ ما ليس له.
ثانياً : البركة.
و حيث أن القصة تناولت الفساد الاقتصادي في حياة الناس ، فقد تم
التركيز على البركة في المال ، حيث أنها سر المال و جوهره ، و ذلك من
خلال ثلاث جوانب :
ا- التعامل مع الله عز وجل : و أن الشأن هو بركة الله في المال و الربح
، و ليس الشأن كثرته ، و ذلك بقوله كما حكى الله عنه ( بقية الله خير
لكم..) قال القرطبي –رحمه الله – في تفسير هذه الآية " أي ما يبقيه
الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه
أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم؛ قال معناه الطبري، وغيره
"
و هذا معنى عجيب، و جانب مهم حين التعامل مع المال ، ، إذ المعتبر
البركة و ليس الكثرة ، و غياب هذا المعنى الأصيل ، أو انعكاسه يسبب
مشاكل و مخالفات كثيرة ، لعل منها ما نلاحظه من شكوى الكثير ، من قلة
بركة رواتبهم و نفادها بشكل سريع ، و ذلك بسبب تعاملنا مع هذه الرواتب
بشكل مادي جامد ، دون أن يكون هناك توكل و اعتماد و ثقة بالله تعالى و
دعاء و لجأ إليه بأن يبارك فيها.
ب- الاستشهاد بالواقع و ذلك عند قوله لقومه ( و اذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم..) و قد ذكر المفسرون في هذا التكثير أقوالاً جمعها القرطبي –
رحمه الله - بقوله " وقيل: المراد مجموع الأقوال الأربعة فإنه تعالى
كثّر عددهم وأرزاقهم وطوّل أعمارهم وأعزّهم بعد أن كانوا على
مقابلاتها."
فالتكثير و البركة من عند الله عز و جل فكما كثر أعدادكم و أرزاقكم و
طول أعماركم فهو أيضا يبارك في الربح الذي تربحونه عندما تعاملون الناس
بالعدل فهو بذلك ضرب لهم مثلاً من حياتهم وواقعهم لعلهم يستوعبون هذه
الحقيقة الصارخة و لعلنا نحن ايضا نستوعب هذه اللفته الرائعة من هذا
النبي الكريم إذ كنا قليل فكثرنا ، و فقراء فأغنانا.
ج – ( و انظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) أولئك الأقوام الذين ملئوا
الأرض ضجيجاً و علوا و فسادا ، قد أعجبتهم قوتهم و كثرتهم فبادوا بعد
الكثرة ، و محقوا بعد البركة ، فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ،
و في هذا تذكير بمصير المفسدين ، فالله كثرهم ، و بسبب أعمالهم أهلكهم
، فاطلبوا منه البركة و أعطوا هذا الجانب حقه.
ثالثاً : التحذير و الترهيب .
و حيث أن تشبث النفوس بالمال ، و تعلقها به قد يحملها على اقتحام
الحرام ، و الخوض فيه ، فكان من الحكمة قرع النفوس و تخويفها ، لعلها
ترعوي و تهجر الحرام ، فقد نوع نبي الله شعيب عليه السلام ، في اسلوب
خطابه لتحذير قومه و تخويفهم ، و طرقه من عدة جوانب ، إمعاناً في نصحهم
، و شفقة عليهم من سخط الله عز وجل فقال لهم : ( إني أخاف عليكم عذاب
يوم محيط) و لا يخفى ما تضمنه هذا الخطاب من قرع و تخويف كما أنه قبل
ذلك قال لهم : { إني اراكم بخيرٍ }؛ فذكرهم برخص الأسعار، وكثرة
الأرزاق، فينبغي عليهم الشكر لله على هذه النعم ، لا بخس الحقوق ، و
أكل الأموال بغير حق ، و حيث أن الجزاء من جنس العمل ، و أنهم إذا
استمروا على طريقهم في البخس و الظلم ، فإن الأمور ستستبدل بضدها ، كما
جرت سنة الله عز و جل بذلك ، و مجتمعنا اليوم إذ يشكو الغلاء في
الأسعار ، و ارتفاعها بشكل كبير ، لهو نذير خطر قد دق ناقوسه ، إذ
استمرأ كثير منهم الحرام ، فالربا يضرب بأطنابه دون نكير ، و التعامل
به متيسر لكل أحد ، إلى غير ذلك من المعاملات التي ينبغي أن توقف عند
حدها ، حتى لا تنحدر الأمور إلى أسوأ من ذلك ، و نتذكر قول نبي الله
شعيب ( إني أراكم بخير و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) على أن هذا
التحذير يتناول الفرد و المجتمع بأسره ، فكل واحد منا يتقي الله في هذا
المال و يعلم بأن عقوبة التفريط قاسية.
رابعاً : القدوة الحسنة.
فلا يعدم المجتمع – و الحمد لله – من الأغنياء الأتقياء ، الذين لم
يتلوثوا بالعبودية للدينار و الدرهم ، و هم يملكون الأرصدة الضخمة في
حساباتهم ، و هؤلاء ينبغي ابرازهم للمجتمع ، لتكون هذه النماذج حاضرة
حية في ضميره ، و قدوة طيبة له ، فنبي الله شعيب قد احتج على قومه بهذه
الحجة الباهرة ، و ذلك بذكر الأمثلة من الذين لم يسلكوا طريق قومه في
بخس الناس و أكل أموالهم و ذلك عند قوله عليه السلام لهم : ( و رزقني
منه رزقاً حسنا ) لا كما تظنون بأن ما أدعوكم إليه يقلل أرزاقكم و
ارباحكم بل يزيد عددها و بركتها ، و أنا أمامكم أملك المال الكثير و لم
ابخس الناس حقوقهم أو أظلمهم و هذه حجة واضحة و دليل دامغ على صدقه و
نصحه لهم و هم يعلمون جيدا صدقه و أمانته عليه السلام في تعامله مع
الناس ، و لعل في انتشار المعاملات الاسلامية في البنوك اليوم ، تعتبر
من هذا القبيل حيث انتشرت بشكل يبعث على الأمل و التفاؤل ، حتى تجاوزت
إلى البنوك الغربية ، و لكن ينبغي استغلال ذلك إلى أقصى حد في ابراز
هذه الصورة للمجتمعات ، حتى يعلموا بأن الاسلام هو الطريق الوحيد ،
الذي يضبط حياة الناس و يحقق آمالهم ، كما أن في قوله عليه السلام ،
الاستفادة من تجارب الآخرين في حسن التعامل مع المال ، و صرفه في وجوهه
، و الاستفادة من الخبراء و المتخصصين في هذا المجال ، حتى لا يكون
هناك عبث و اسراف في صرف المال على حساب امور ضرورية في حياة المسلم.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ، وأن يقينا شر أنفسنا ، فهو نعم المولى و
نعم النصير.