تواردت على ذاكرتي كلمات كانت مخزنة في حفيرات الزمن حين حاولت أمس
الإخلاد إلى النوم بعد رشح – سعال وعطاس كان سببهما الجو البارد الذي
لازم مدينة عمان الأردنية أربعينيات الشتاء القاسي هذا - لازمني
أسبوعاً ، فذكرني بأبيات المتنبي في وصف الحمّى التي حفظناها أيام
دراستنا في المرحلة الثانوية ، وكنت أيامها أعاني من مرض التيفوئيد (
التيفوس ) ، فقلت : يأبى المتنبي أن يطرح معاناته إلا بشكل عملي يتحسسه
القارئ لقصيدته بقوة ، فلا ينساها ، وإن طال به العمر لأنه عايشها
عملياً ، ومن عاين تأكد ، ومن ذاق عرف .
تواردت هذه الكلمات شعراً ونثراً ، حِكَماً وعظات ، دون تنسيق ولا
ترتيب ، فأحببت أن أقدمها كما جاءتني دون رتوش ولا تلميع وترتيب ....
كما أحفظها في الذاكرة ، وقد آنستني تلك السويعة ، ولعلها تؤنس القارئ
إن شاء الله تعالى حين يراها بين يديه بيد أنني لا أتذكر قائل أبيات
أُوردُها ولا صاحب قصة أسردُها :
1- أحدهم ينفعل حين يأتيه البشير قائلاً
: إن الله تعالى رزقك مولوداً ذَكراً بعد أن سبقته أخوات له ثلاث ،
فيقول هذه الأبيات الجميلة المعبرة عن شديد فرحه وبالغ سعادته :
ورد البشـير مبشـراً بقـدومـه *** فملئت
من قول البشير سروراً
واللهِ لو قـَنع البشـير بمهجتي *** أعطـيـتـُه ورأيـتُ ذاك يسـيـراً
لو قال : هبني ناظريك لقلتُها *** خذ ناظريّ فمـا سـألتَ كـثيـراً
وكأنني يعقوب من فرحي به *** إذ عاد من شم القميص بصيراً
2- وهذا
رجل شهم يأبى فعل المنكرات وإيذاء الناس – وهو قادر أن يفعلها – خوفاً
من الله تعالى أولاً والرغبة بالتحلّي بالحياء والخلق الجميل ثانياً :
وربّ قـبـيحـة ما حـال بينـي *** وبـيـن
ركـوبهـا إلا الحـيـاءُ
إذا رُزق الفتى وجهـاً وَقاحـاً *** تقـلـّب في الأمور كما يشاء
وقال غيره في المعنى نفسه :
إذا لم تصُنْ عِرضاً *** ولم تخشَ
خالقـاً
وتسـتَحْيِ مخـلـوقـاً *** فما شئتَ فاصنعِ
والحياء وكاء ، ومن تفلـّت عنه الوكاء
ضاع منه الحياء .
3- ولعل أحدهم أراد أن يستشير أحد
العارفين في رجلين يريد التأكد من أخلاقهما ليشاركهما في تجارته أو
يتخذهما صاحبين ، فجاءه الجواب الفصل : (هما كالخمر والميسر ، إثمهما
أكبر من نفعهما ) . والحقيقة أن الناس ليسوا شراً محضاً ولا خيراً
محضاً . فمن غلب شرُّه خيرَه كان شيطاناً ، ومن غلب خيرُه شرَّه كان
ملاكاً .
4- أما الخليفة الأموي سليمان بن عبد
الملك فقد نظر إلى نفسه في المرأة – وكان شاباً حين آلت الخلافة إليه –
فأصابه الفخر والخيلاء إذ قال : " أنا الملك الشابّ " .
وسمعته جاريته – وكانت عاقلة – فقالت :
أنت نِعمَ المتاعُ لو كنتَ تبقى ***
غـيـرَ أنْ لا بقـاءَ للإنسـانِ
ليـس فيما بدا لنـا منـك عيبٌ *** كان في الناس غيرَأنك فانِ
والله تعالى يقرر هذا المبدأ الذي قهر به
عباده " إنك ميت وإنهم ميتون " ولو دام الأمر لغيره ما وصل إليه .
ولْنتصوّر كلمة " ذائقة " في قوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت " . إن
التذوق " معاينة ومعاناة " .
5- وأتذكر قول بشار بن برد :
" الحُـرّ يُلحى ، والعصا للعبد "
على مبدأ " إن اللبيب من الإشارة يفهم ! .. والحر يفهم والعبد غير ذلك
.. والحرّ الحقيقي في قاموسي مَن يبتعد عن الشهوات ، والعبد من لا
يستطيع عنها فكاكاً ! فكثيراً ما تجد عبداً مرهف الإحساس يحمل نفس سيد
مبجل ، وتجد مَن يسمى حراً غبياً بليداً هو والخنزير من صنف واحد ..
وابن دريد له بيت مشهور لا يتعدى ذلك :
واللـوم للحـر مقـيـم رادع *** والعبد لا
يردعه إلا العصا
أما قول أبي الطيب فقد طبق الآفاق وذاع
في العصور والأفلاق :
لا تشتر العبد إلا والعصا معه *** إن
العبيد لأنجاس مناكيد
إن المتنبي شاعر مفلق إلا أنه أخطأ حين
جعل كافوراً الإخشيديّ عبداً وهو الذي حمى مصر من سطوة العبيديين ،
وأخافهم ، فلم يجرؤوا على احتلال مصر إلا بعد موته . وكان كافور قوي
العقل ذكي الفؤاد ، امتد حكمه إلى الحجاز وبعض بلاد الشام ، فكانت تحت
يده قوية منيعة . وما قول المتنبي فيه وهجاؤه إياه إلا رد فعل شاعر
أراد أن يكون والياً على جنوب مصر فأبى عليه ذلك كافور ، وردّه خائباً
.
ولعلنا اليوم بحاجة إلى تفعيل هذا البيت :
قديماً قيل في مثـَلٍ : أجيدوا *** بضرب
الكلب تأديب اليهود
فلقد تعوّدوا ضربنا وإذلالنا ،أذلّهم
الله ، وأذلّ من جرّأهم علينا ، وهؤلاء الذين جرأوهم علينا من جلدتنا
ويتكلمون بألسنتنا .
6- وخطر ببالي بيتان من الشعر يقول فيهما
الشاعر بلسان الفقير الجائع :
أموت من الجوع في منزلي --- وغـيـري
يمـوت من الكـِظـّةْ
ودنيا تجود على الجاهليــــــ -- ـــــن ، وهْي على ذي النهى فظّة
والدنيا دار ابتلاء ، ولا يظنّنّ أحد أن
من ملك في الدنيا مقرب من ربه ، وأن الفقير مهان محتقر ! فلو كانت
الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شَربة ماء ، وقد
كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني
مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين " ويقول صلى الله عليه وسلم راغباً
في الزهد ، معرضاً عن الدنيا " اللهم اجعل رزق آلِ محمد قوتاً " كما
كان الأنبياء صلوات الله عليهم يعيشون كفافاً حتى الأغنياء منهم
كسليمان ويوسف .
7- وتذكرت قول أحدهم وقد كان ولده وخادمه
متعادلَين في السوء والعقوق :
تصوّرْ أن لي ولـداً وعبـداً *** سواء في
المقال وفي المقامِ
فهذا "سابق" من غير سين *** وهذا "عاقل" من غيـر لام
فالأول " آبق " إذا حذفت السين ، والثاني
" عاق " إذا حذفت اللام .
8- وهذا عاشق يتأثر سلباً وإيجاباً لحالة
محبوبه ، يمرض لمرضه ويشفى بشفائه ، يقول مصوراً تعلقه الشديد بحبيبه :
مرض الحبيب ، فعُدتُه *** فمرضت من حزني
عليه
جـاء الحبيب يـعـودني *** فشُـفـيـت من نظـري إليـه
فهل تصدقونه وتتفاعلون معه ؟ أو أراكم
تضحكون منه وتتندرون على قوله ؟! أو تقولون : للناس فيما يعشقون مذاهب
... ؟
29-01- 2008ميلادي