|
معاشر المسلمين : حقيق بكل مسلم أن يعرف أمور الجاهلية الجهلاء ، والظلمات
الدهماء ، التي كانت تعيشها الأمم قبل البعثة المحمدية ، والدعوة النبوية ، ففي
معرفة ذلك ، توق لأسباب الشر ، ومعرفة لمكامن الخطر ، وأخذ الحيطة والحذر ،
ومعرفة فضل الإسلام ، في إتقان ونظام ، وتدقيق وإحكام ، قال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه : " إنما تنقض عرى الإسلام ، عروة ، عروة ، إذا نشأ في الإسلام ، من
لا يعرف الجاهلية " ، فالجاهلية منسوبة إلى الجهل ، وكل أمر منسوب إلى الجاهلية
فهو مذموم ، وصاحبه مجذوم مرجوم ، ولهذا خالف النبي صلى الله عليه وسلم أهل
الجاهلية في مائة وثمان وعشرين مسألة ، وهذه عادته عليه الصلاة والسلام ، يخالف
أهل الكفر والبدع ، فيما ساد وخضع ، وعُبد ورتع ، نعم يا عباد الله ، لقد كان
العالم قبل عصر الهداية ، وصدر الاستقامة والدراية ، يعج بجاهلية عامة ،
كتابيين وأميين ، فالكتابيون أهل الكتاب من يهود ونصارى ، أنزل الله عليهم
كتابين عظيمين ، التوراة والإنجيل ، نزلتا على موسى وعيسى عليهما السلام ، فحرف
أتباعهم كتبهم ، وأدخلوا فيها الشنائع ، وأثخنوها بالفضائع ، جاءوا فيها
بالشركيات والكفريات ، وحشوها بالوثنيات ، وهكذا تم تغيير أحكام الله تعالى ،
وهذه حالة أهل الكتاب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا بقايا منهم ،
كانوا على الدين الصحيح ، لكنهم انقرضوا قبل البعثة ، وأما الأميون ، وهم العرب
الذين لا يقرأون ولا يكتبون ، فكانوا على دين أهل الكتاب والمجوسية ، وقسم على
دين الحنيفية ، إلى أن غير دينهم ملكهم عمرو بن لحي الخزاعي ، حيث أدخل الأصنام
إلى جزيرة العرب ، فعاقبه الله تعالى العقاب الأشد الأغرب ، قال النبيُّ صلى
الله عليه وسلم : " رأيتُ عمرَو بنَ عامرٍ بنِ لُحَيٍّ الخزاعيَّ يَجُرُّ
قصْبَهُ ـ أمعاءه ـ في النارِ ، وكان أولَ مَن سَيَّبَ السوائب " [ أخرجه
البخاري ومسلم ] ، وهكذا وبعد انطفاء نور الحق المتبقي آنذاك ، لم يبق إلا
الكفر والشرك بالله ، فاحلولك الظلام ، واستحكم الزمام ، وغضب الله على أهل
الأرض ، واستبقى منهم البعض ، قال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللّهَ نَظَرَ
إِلَىٰ أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ، إلاَّ
بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ "[ أخرجه مسلم ] ، في غضون غياهب الظلمات ،
وانطماس الرسالات ، بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، لإخراج الناس من
ظلمات الجهل ، بتدرج ومهل ، إلى نور العلم والأمان ، وواحة الأمن والاطمئنان ،
قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ } .
أيها المسلمون : يقول الله تعالى : " إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ " ، ذم الله أهل الجاهلية
بجاهليتهم ، والتفافهم حول حميتهم ، فمنع الإسلام الاعتزاء بالقبيلة ، لأن ذلكم
خسارة وبيلة ، فالمؤمنون أخوة ، والمسلمون وحدة وقوة ، وبهذا تسقط جميع الفوارق
، وكل القيم ، فلا فضل لألوان البشر ، ولا تفاضل بنسب ولا مال ولا جاه ، ميزان
التفاضل ، هو قول الله تعالى : " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ
أَتْقَـٰكُمْ " ، قال صلى الله عليه وسلّم : " إن الله تعالى أذهب عنكم غيبة
الجاهلية ، وفخرها بالآباء ، الناس رجلان : مؤمن تقي ، وفاجر شقي " ، لقد كانت
العصبيات قبل البعثة عميقة الجذور ، قوية البنيان ، فاستطاع رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، أن يجتث جرثومة التمييز العنصري ، وآفة التفريق القبلي ، بكل صوره
وأنماطه ، من أرض كانت تحيي ذكره ، وتهتف بحمده ، وتتفاخر على أساسه ، وفي
الصحيح : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سئل :
" أي الناس أفضل ؟ قال : " أتقاهم " ، قيل له : ليس عن هذا نسألك ، فقال : "
يوسف نبي الله ، ابن يعقوب نبي الله ، ابن إسحاق نبي الله ، ابن إبراهيم خليل
الله " ، فقيل له : ليس عن هذا نسألك ، فقال : " عن معادن العرب تسألوني ؟
الناس معادن ، كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية ، خيارهم في الإسلام
إذا فقهوا " ، فالفقه في الدين ، وتقوى رب العالمين ، هي مقياس التفاضل ،
وميدان التنازل ، أما الدنيا ، فمتاعها زائل ، وميزانها مائل ، لا تعدل عند
الله جناح بعوضة ، فهي منقوصة مبغوضة ، في السنن : عن النبي صلى الله عليه
وسلّم أنه قال : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على
أبيض ، ولا لأبيض على أسود ، إلا بالتقوى ، كلكم لآدم ، وآدم من تراب " ،
حضارات حديثة ، وتقدمية غثيثة ، تزعم التقدم والرقي ، والمساواة والبعد
الإنساني ، بينما شعور التمييز العنصري ، وإحساس التفريق القبلي ، يتنفس بقوة
في مختلف مجالاتها ، ويتغلغل بشدة في شتى ميادينها ، السياسية والاقتصادية ،
والإعلامية وحتى الدينية ، وحين كادت هذه العادة الجاهلية ، أن تتسلل إلى الصف
المسلم ، حيث تفاخر مهاجري ، وأنصاري ، كل بقبيلته وعصبته ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم الذي كان يرعى المسيرة ، ويهتم بطهارة السريرة : " أبدعوى
الجاهلية وأنا بين أظهركم " ، لم يرضَ صلى الله عليه وسلم أن تظهر بين أصحابه
في المجتمع المسلم ، بذرة غريبة في مجتمع طاهر ، ولو كان في الألفاظ ، فهذا أبو
ذر يعير رجلاً بأمه ويناديه : يا ابن السوداء ، فغضب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال : " أعيرته بأمه ، إنك أمرؤ فيك جاهلية " وهذا لا ينقص من قدر أبي ذر
رضي الله عنه ، وهكذا عباد الله ماتت العصبيات الجاهلية ، على عتبات هذا الدين
العظيم ، وأساسه القويم ، عن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه ، أَنَّ
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلى
عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ
مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ " [ أخرجه أبو داود ] ، وقال صلى الله
عليه وسلم : " من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثا جهنم " [ أخرجه بن حبان وغيره
، وصححه الحاكم ] ، ومع اندثار تلكم النعرة التحزبية ، وتحريمها في الكتب
الشرعية ، إلا أنه في أعقاب هذا الزمن ، انبرى أقوام من بني جلدتنا ، لإحياء
العصبيات الجاهلية ، والتحزبات القبلية ، ويهتفون بها ، ويدعون إليها ، حسداً
من عند أنفسهم ، ويتفاخرون على أساسها ، ويمنحونها الاستمرار ، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم سيد الأخيار يقول : " دعوها فإنها منتنة " رضوا بالعفن لصيقاً ،
وبالنتن رفيقاً ، فأفيقوا أيها الناس ، وخذوا حذركم ، فهناك أناس تدينوا وأعفوا
اللحى ، وقلوبهم بالأنانية ثكلى ، وبالقبلية ملئ ، وكأن الدين مقصور على فصيلة
دون غيرها ، أو منطقة دون أخواتها ، رأوا أنهم شعب الله المختار ، وقد قالت
اليهود ذلك قبلهم ، وليس منا من تشبه بغيرنا ، لقد أذن في عصر النبوة عبد حبشي
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل اليمن : " أتاكم أهل اليمن هم أرق
قلوباً ، الإيمان يمان ، الفقه يمان ، الحكمة يمانية " ، فسبحان الله ! أأصبحت
المناصب تبعاً للقبلية ، وقد قال رسول رب البرية : " أرْبعٌ في أُمَّتِي من
أمرِ الجاهلـيةِ لا يَتْرُكُوْنَهُنَّ : الفَخْرُ في الأَحسابِ ، والطَّعْنُ في
الأنسابِ ، والاستسقاءُ بالنجومِ ، والنـياحةُ " [ أخرجه ابن حبان وأصله في
الصحيح ] ، فالله الله يا دعاة الحزبية ، وناصروا العنصرية ، اتقوا الله تعالى
فيما أمركم به ، وولاكم عليه ، وندبكم إليه ، في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى
صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ، فدققوا النظر ، وخذوا
العبر ، فقد جاءتكم النذر ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعنا بما
فيه من الآيات والذكر الحكيم ، وأسعدنا باتباع هدي النبي الكريم ، صلى الله
عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم ، واستغفروا الغفور الرحيم ، يغفر لكم الذنب العظيم
، إنه شكور عفو حليم .
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ، تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي
إلى رضوانه ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه والأنبياء إخوانه .
. . أما بعد : فاتقوا الله أيها الناس ، فالتقوى سبيل لزرع الأشجار والظلال ،
وموصل إلى جنة ذي الجلال ، واحذروا طرق الزيغ والضلال ، فهي المسلك إلى النار
ذات الأغلال .
أخوة الدين والعقيدة : ومن مسائل الجاهلية ، التي نهى عنها رب البرية ، مخالفة
لأهل الوثنية ، التقليد الأعمى ، والتبعية الرعناء ، لما تسببه من خلل ، ومصاب
جلل ، يحط رحاله بالأمة ، ويجلب لها الغمة ، قال تعالى ، ذماً لأهل الأهواء ،
من الجاهلية الجهلاء ، مبيناً مضار التقليد الكبرى : { وَكَذَلِكَ مَا
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } ، فأهل الجاهلية لا يبنون دينهم على ما جاءت به الرسل
، بل يبنونه على أسس أحدثوها ، وأصول ابتدعوها ، تقليداً لمن ضل من آبائهم ،
ومحاكاة لمن زاغ من أوليائهم ، وقال سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }
، فأهل الفساد والضلال ، وأصحاب الزيغ والانحلال ، لا يكونون أمثلة يقتدى بها ،
ولا أسوة يحتذى بها ، إنما القدوة الطيبة ، والأسوة الحسنة ، هو النبي صلى الله
عليه وسلم ، ومن تبعه على هديه وسنته ، وحياته وسيرته ، قال تعالى : { لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } ، وقال سبحانه : "
الله تعالى: { وَمَآ ءَاتـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَٰكُمْ عَنْهُ
فَٱنتَهُوا } ، فطوبى لمن سار على نهجه وقام ، واقتدى بسنته واستقام ، قال صلى
الله عليه وسلم : " إِنّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرى اخْتِلافاً كَثيراً ،
فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنّةِ الْخُلَفاءِ الرّاشِدينَ الْمَهْدِيّين ،
عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الأُمُورِ ،
فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ " [ أخرجه الحاكم وصححه ] ، وإذا رأينا واقع
الأمة اليوم ، فهو واقع مرير ، يعتريه كثير من التغيير ، لمن تدبر وتأمل ،
وتفكر وتعقل ، كشف للعورات ، تتبع للموضات ، سراويل قصيرة فوق الفخذ للشباب ،
ألبسة تحت الركبة للنساء ، نِعَمٌ من الله لبني الإنسان ، قوبلت بالعصيان
والنكران ، قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً
يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ
مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } ، ومن استقرئ حال الناس اليوم
وجد عجباً ، ووقف تائهاً منذهلاً ، نساء متبرجات بزينة ، داعيات إلى الرذيلة
والفتنة ، تركن الحشمة ، وتنحين عن العفاف ، ورضين ببؤر العار والاستخفاف ،
روائح العطر منهن نفاذة ، والمشية أخاذة ، والحركة وقادة ، فيا سبحان الله !
أليس لهن آباء وإخوان وأزواج ، أم أنهم رضوا بالدياثة ، وقبلوا المعصية ، من
يرضى أن يجعل قريبته عرضة للناظرين ، وألعوبة للشياطين ، وسلعة للعابثين ، عبد
الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حرم الله عليهم
الجنة : مدمن الخمر ، والعاق لوالديه ، والديوث الذي يقر في أهله الخبث " [
أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم ] ، عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة ديوث " [ أخرجه الطيالسي ] ، فاحذروا يا رجال
الأمة من أن تكونوا عرضة للعقوبات الإلهية ، الوارد في النصوص الشرعية ، خذوا
على أيدي النساء ، وامنعوهن من التبرج والنقاب والتطيب عند الذهاب إلى الأسواق
، أو أماكن تجمع الناس ، حرموا ما حرم الله ورسوله ، كونوا قوامين على النساء ،
وإلا فستبوءون بالخسارة ، في دار الدنيا والآخرة ، هذا وصلوا وسلموا على هادي
البشرية ، ومنقذ الإنسانية ، من نار محمية ، إلى جنة عليه ، فقد أمركم بذلك رب
البرية ، فقال سبحانه في آية وعظية : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ،