|
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله
الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الثقلين ، صلى الله وسلم
عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين . . وبعد :
من كان يصدق أن مساجد المسلمين أصبحت أمكنة لعرض أنواع الموسيقى والأغاني ؟ من
كان يصدق أن بيوت الله تعالى أضحت مسارحاً لعرض أصوات الطرب والأهازيج ؟ .
لقد عجز الأعداء أن يحولوا بيوت الله إلى كنائس أو حتى أماكن مشتركة للعبادة ،
تُدق فيها النواقيس والأجراس ، ولكن وبحيلهم الخبيثة ، ومكرهم ودهائهم المقيت ،
استطاعوا أن يجعلوا لهم أذناباً من أبنائنا وإخواننا ليكونوا خير معين لهم على
تنفيذ مآربهم ، وتنفيذ خططهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قال الله تعالى : " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً " [
الإسراء ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " [ حديث صحيح
] ، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يرفعون أصواتهم بالذكر وهم مُحْرِمون
فقال لهم : " اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، وإنما تدعون
سميعاً بصيراً " ، ولما دخل المسجد عليه الصلاة والسلام وجد أصحابه وقد ارتفعت
أصواتهم بالقراءة فقال : " لا يجهر بعضكم على بعض " ، وكانوا يرفعون أصواتهم
بالقراءة في الصلاة ، فنهاهم عن ذلك وقال : " من ذا الذي ينازعني القرآن " أو
كما قال عليه الصلاة والسلام .
فهذه النصوص الشرعية تدل على كراهة أو تحريم رفع الصوت بقراءة القرآن أو
الأذكار في المساجد وهي بيوت الله عز وجل ، والقرآن كلام الله تعالى ، والذكر
أفضل الأعمال ، ومع ذلك فإنه لا يجوز لمسلم أن يزعج من حوله في المسجد بالقراءة
، لما في ذلك من إشغال الذهن ، وتشريد الفكر ، فلما كانت هذه فتنة ومفسدة للغير
، مُنع منها المسلم ، درءاً للفتنة ، وإغلاقاً لباب الإيذاء المترتب على رفع
الصوت بين الناس ، لاسيما وهم يؤدون أعظم الفرائض .
فما بالنا اليوم بمن يأتون المساجد في ضيافة الرحمن جل جلاله ، واقفون بين يدي
العزيز الجبار ، وبدل أن يخشعوا في صلاتهم ، وينصتوا لإمامهم ، ويُنيبوا إلى
ربهم ، تجدهم يدخلون بهواتفهم المحمولة ، دون إغلاق ، بل يتركونها تعمل لينطلق
منها موج هادر من الموسيقى المحرمة شرعاً وعرفاً ، تصعق المستمع ، وتشغل الخاشع
، تغضب الرحمن جل جلاله ، وترضي الشيطان وأعوانه ، أصوات مفجعة ، ونغمات مفزعة
، وأغان موجعة ، أدخلوها أعظم البقاع حرمة وقدسية ، وأحب البلاد إلى رب البرية
، فأين عقول أولئك البشرية ؟
والله تعالى يقول : " ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه " [ الحج ] ،
ويقول سبحانه : " ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " [ الحج ] .
وأي تعظيم لحرمات الله وأناس يدخلون بجوالاتهم إلى بيوت الله ، وأي تعظيم
لشعيرة الصلاة وعبيد لله لا يخشون الله ولا يخافونه ، تنبعث من هواتفهم
الموسيقى الماجنة الصاخبة ، وأدهى من ذلك وأمر ، وجود أصوات الأغاني داخل
المساجد ، نسأل الله العفو والعافية ، ونسأله الثبات على دينه ، ونسأله أن لا
يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، إنها والله فتنة عظيمة ، ومصيبة كبيرة ، حطت
رحالها بالأمة ، وياللعجب عندما ترى بعض الناس يسمع ولا ينكر ، بل ربما ابتسم
أو ضحك ، أو قال لا دخل لي ، فأين الإسلام ؟ أين الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ؟ أين الغيرة على دين الله ؟ وأين الغضب لله إذا انتهكت محارمه ؟
رُحماك ربنا بحال أمتنا ، أمة أكل عليها الزمن وشرب ، إلا من رحم الله وقليل ما
هم .
فيجب على كل مصلٍ أن يتقي الله عز وجل ، وأن يجعل مخافة ربه نُصب عينيه ، وأن
يغلق جواله إذا دخل المساجد ، أو يجعله على الصامت أو الهزاز ، ووالله إن إغلاق
الجوال لهو أنجح وسيلة للخشوع ، وعدم التعلق بالدنيا .
فيجب على المسلم أن يكون وقَّافاً عند حدود الله ، مبتعداً عن النواهي ،
منزجراً عن الزواجر ، حتى لا يشغله شيء عن صلاته ، فبقاء الجوال يعمل دليل على
سخف الرجل وضآلة عقله ، وقلة تفكيره ، " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن
هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً " [ الفرقان ] .
ولا يختص الكلام بأصوات الموسيقى والغناء المنبعثة من الجوالات ، بل حتى أصوات
الأذان وقراءة القرآن ، فهي أصوات تؤذي المصلي ، وتنزع طمأنينته وخشوعه لربه ،
فلا يجوز لأحد أن يؤذي المسلمين والمصلين ، لاسيما وقت الصلاة ، لأن الصلاة
أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ، وهي أول ما يُحاسب عليه العبد من عمله يوم
القيامة ، وهي عمود الإسلام وفسطاطه الذي لا يقوم إلا به ، فلذلك يجب العناية
بالصلاة أشد عناية ، والاهتمام بها أعظم اهتمام .
ومن دخل المسجد وترك جواله مفتوحاً فقد أساء وظلم وتعدى وأسرف وآذى ، والله
تعالى يقول : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا
بهتاناً وإثماً مبيناً " [ الأحزاب 58 ] ، ويقول سبحانه : " إن الذين فتنوا
المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " [ البروج ]
، ولا يخفى على كل ذي لُب أو عقل راجح ما للجوال من مضار ومساوئ داخل المساجد .
وفي نظري أن مرد تطاير أصوات الجوالات
في المساجد يعود إلى ثلاثة أمور :
الأول :
الجهل بحكم الشرع في هذه النازلة والمعضلة الخطيرة ، وقد زال الجهل بفضل الله
تعالى بصدور فتاوى العلماء بتحريم استخدام الجوال داخل بيوت الله عز وجل من
خلال الخطب والمحاضرات والأشرطة والنشرات ، والمسلم يعلم علم يقين حُرمة
الموسيقى والغناء ، فأي جهل بعد ذلك .
الثاني :
النسيان ، الله تعالى لا يؤاخذ عباده بالنسيان ، لكن هناك الملصقات الحائطية ،
والإرشادات الكتابية ، الدالة على تذكير المصلي بضرورة إغلاق جواله ، وهنا قد
زال النسيان ، وهب أن مصلياً دخل بجواله ونسي إغلاقه ، فإن رنَّ وهو في الصلاة
فيجب عليه أن يخرجه ويغلقه ، حتى لا يستمر في الرنين بين الفينة والأخرى ، وهذا
أسلم حل لذلك ، وها قد انقشع غمام النسيان ، وظهر البيان بالبرهان .
الثالث :
الكبر والعناد ، ولا أظن مسلماً متقياً عارفاً بالله وحدوده وعقوبته ، ويتكبر
على الله وعلى عباد الله ، لأن الله هو المتكبر الجبار ، الله هو الكبير
المتعال ، ولله الكبرياء في السموات والأرض ، الكبرياء رداء المولى جل وعلا ،
في الحديث القدسي : " قال عز وجل : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن
نازعني واحدًا منهما عذبته " ، الكبر من أشد الذنوب عقوبة ، قال النبي صلى الله
عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " [ أخرجه مسلم ]
، ولا يتكبر إلا إنسان فيه شعبة من الجنون ، أو ربما فقد عقله ، لأنها خُلة لا
تنبغي إلا لله عز وجل وحده ، ولا أظن مسلماً عاقلاً يتلبس بصفة ليست له ، وليس
من أهلها ، فهو عبد لله ، مملوك لله ، ضعيف ، فقير ، لا يملك لنفسه ضراً ولا
نفعاً ، لا يملك حولاً ولا قوة ، فكيف يتكبر العبد وقد خرج من مجرى البول مرتين
، ويحمل في بطنه العذرة القذرة ، والله عز وجل منزه عن النقائص والمعائب .
ولكن هناك فئة من الناس ربما فقدوا الإيمان من قلوبهم ، ونزعوا الدين من صدورهم
، فلا يخافون الله ولا يتقونه ، ولا يردعه إلا حكم السلطان ، وجور الحكام ،
وتسلط الأمراء ، كما قال عثمان رضي الله عنه : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا
يزع بالقرآن " ، وهذا صحيح ، فبعض الناس لا يرتدع بآيات القرآن الكريم وزجرها
ونهيها ، ولا بالسنة وتحذريها وتخويفها ، ولكن يخشى عقوبة غير الله ، ويخاف غير
الله ، وهذه ثلمة في الدين والعياذ بالله ، فلو أمر السلطان بمنع الدخول بأجهزة
الجوال إلى المساجد ورتب على ذلك عقوبة أو حتى بدون عقوبة ، لما دخل بها أحد
أبداً ، فنسأل الله السلامة والعافية .
فألا يخاف من يدخل بجواله المسجد ويزعج المصلين ، ألا يخاف أن يرفع أحدهم يده
متضرعاً لإلى الله تعالى بأن يهلكه أو يشل أركانه ، أو ينتقم منه بأي طريق كان
، فليتنبه صاحب الجوال لهذا الأمر ، فإنه ليس بالهين ولا بالسهل ، فالدعاء في
ذلك الموطن مستجاب ، فربما أصابته دعوة الناس في ذلك المسجد ، فيبوء بالخسارة
في الدنيا والآخرة .
وأشير هنا إلى قول الله عز وجل : " لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي
لشديد " [ إبراهيم ] ، الجوال نعمة من نعم الله المتعددة والمتوالية علينا ،
وفوائده لا ينكرها أحد ، وذلك إذا استخدم الاستخدام الأمثل ، أما إذا تم
استعماله في المنكر والمحرم وذلك بإدخاله إلى بيوت الله للتشويش على الناس ، أو
التجسس عليهم في مجالسهم ، أو تصوير الصور المحرمة واستقبالها ، أو إدخال نغمات
موسيقية وأصوات محرمة فهذا وأمثاله حرام ، وهو من استعمال النعمة في غير مكانها
، بل ربما انقلبت النعمة نقمة والعياذ بالله ، ويجسد القرآن هذه الحقيقة في
سورة النحل في قول الله تعالى : " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة
يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع
والخوف بما كانوا يصنعون " ، فهلا تأمل الناس هذه الآية ؟
فالواجب علينا جميعاً شُكر هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا ، ومن شُكر هذه
النعمة استخدامها في طرق الخير ، والحذر من طرق الشر ، حتى تدوم النعم ولا تزول
.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله
وأصحابه .