|
الحمد لله الواحد المعبود ، عم بحكمته الوجود ، وشملت رحمته كل موجود ، أحمد
سبحانه وأشكره وهو بكل لسان محمود ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
الغفور الودود ، وعد من أطاعه بالعزة والخلود ، وتوعد من عصاه بالنار ذات
الوقود ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، صاحب المقام المحمود ،
واللواء المعقود ، والحوض المورود ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، الركع
السجود ، والتابعين ومن تبعهم من المؤمنين الشهود ، وسلم تسليماً كثيراً إلى
اليوم الموعود . . . أما بعد : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فاتقوه رحمكم الله
تقوى من أناب إليه ، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه ، واعبدوه مخلصين له
الدين ، وراقبوه مراقبة أهل اليقين ، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين .
أمة الإسلام : في مثل هذه الأيام من كل عام ، يحزم الناس أمتعتهم ، ويجهزون
حقائبهم ، استعداداً للسفر ، ولكل منهم مقصده ، فمن كان قصده الترويح البريء
كان مأجوراً ، ومن كان قصده غير ذلك ، فالأعمال بالنيات ، وكل هجرته إلى ما
هاجر إليه ، ثم توفى إليهم أعمالهم يوم القيامة وهم لا يبخسون ، قال تعالى : "
إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون "
أيها المسلمون : الناس في هذه الإجازة الصيفية ، فرق شتى ، منهم من يستعد للسفر
، ومنهم من أخذ أهبته للزواج ، ومنهم من عزم على شراء سيارته ، ومنهم من يريد
تشييد منزله ، وغيرهم كثير ، فكل يحتاج إلى النفقات ، وتأمين الحاجيات ، ولا
يتأتى ذلك إلا بوجود المال ، وإن مما تأسف له النفوس ، ونذير حرب ضروس ، ما يقع
فيه كثير من المسلمين اليوم ، من تهافت على البنوك الربوية ، والمصارف المحرمة
، لاقتراض المال الحرام ، من أجل متعة دنيوية ما تلبث أن تزول وتذهب ، ويكون
وبالها على فاعلها ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا
أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين "
، فلربما كان البيت قبراً ، والسيارة تابوتاً ، والزوج وبالاً ، فاتقوا الله
أيها المسلمون ، واحذروا دخول الربا في تعاملاتكم وأموالكم ، فذلكم خير لكم إن
كنتم تعلمون .
أمة الإسلام : الربا من أكبر الكبائر ، وأعظم الجرائم ، وأشد العظائم ، الربا
يهلك الأموال ، ويمحق البركات ، ويجلب الحسرات ، ويورث النكسات ، قال تعالى : "
يمحق الله الربا ويربي الصدقات " ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل " [ أخرجه
أحمد والحاكم بسند صحيح ] ، آكل الربا ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم
، خارج من رحمة الله ، داخل في عذاب الله ، ما لم يتب ويستغفر الله ، عن جابر
بن عبد الله رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا
، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه ، وقال : هم سواء " [ أخرجه مسلم ] ، فأي ذنب أعظم
من ذنب ملعون صاحبه ؟ وأي مصيبة أكبر من مصيبة اللعن والطرد من رحمة الله تعالى
؟ فاتقوا الله أيها الناس ، واعلموا أنكم محاسبون ، وعن أموالكم مسؤولون ، ولن
تنفعكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئاً .
أمة الإسلام : الربا حرام كله ، قليله وكثيره ، قال تعالى : " وأحل الله البيع
وحرم الربا " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات ، وذكر
منها ، وأكل الربا " [ متفق عليه ] ، الربا حرب لله ولرسوله ، قال تعالى : " يا
أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم
تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " ، والعجيب والعجائب جمة ، أن من الناس من
يأكل الربا عالماً بحرمته ، عارفاً بعقوبته ، متذرعاً برحمة الله ومغفرته ،
ونسي المسكين أن الله جل جلاله يقول في كتابه العزيز : " اعلموا أن الله شديد
العقاب وأن الله غفور رحيم " ، ويقول سبحانه : " وإن ربك لذو مغفرة للناس على
ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب " ، الربا دمار للأفراد والشعوب ، وإشعال لفتيل
الحروب ، الربا هلاك للأمم والمجتمعات ، صغار وذلة للمتعاملين به ، ولا أدل على
ذلك من هذه النكبات التي حطت رحالها بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، من حروب
مدمرة ، وفيضانات عارمة ، وكسوف وخسوف ، ورياح عاتية ، وقتل وسرقات ، وجرائم
واغتيالات ، ونهب للممتلكات ، كوارث وحوادث ، ليس لها من دون الله كاشفة ، ولا
منجي منها إلا بتوبة صادقة ، ورجوع إلى الله الواحد القهار .
أيها المسلمون : في خضم معترك هذه الحياة ، وفي بحرها المتلاطم الأمواج ، هناك
فئة من المسلمين ، تجرءوا على الحرمات ، وارتكبوا المنهيات ، دون ورع ولا خوف ،
فأكلوا الربا ، ودعوا الناس إلى أكله ، مجاهرين بالمعصية ، وقد توعدهم الله
بعقاب من عنده ، على لسان نبيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي يدخلون
الجنة إلا من أبى " قيل : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : " من أطاعني دخل الجنة
، ومن عصاني فقد أبى " [ أخرجه البخاري ] ، ومن تعامل بالربا فقد خالف أمر الله
وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعصى الأوامر ، واقترف الزواجر ، وقد قال الله
تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم "
، وقد بين الله تعالى مآل العصاة والمذنبين ، والمتعاملين بالربا ، والآكلين له
، فقال تعالى : " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله
عذاب مهين " ، إن أمراً هذه نهايته ، وتلكم عاقبته لواجب على كل عاقل أن يجتنبه
ويحذره ، ويحذر الناس من خطره وشره ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا ظهر الزنا
والربا في قرية ، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " [ أخرجه الحاكم وحسنه الألباني
] .
أيها المسلمون : آكل الربا لا يستجاب لدعائه إذا دعا ، ولا تفتح له أبواب
السماء ، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، يمد
يديه إلى السماء ، يارب ، يارب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ،
وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك " [ أخرجه مسلم في صحيحه ] ، وعن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليأتين على الناس زمان
لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم حرام ، فإذ ذاك لا تجاب لهم دعوة " [
أخرجه البخاري ] ، فالربا شؤم على صاحبه ، ظلم للمتعامل به ، فيه ارتكاب لما
حرم الله ورسوله ، وربما سلط الله على صاحبه الآفات المهلكة ، والكوارث المدمرة
، من غرق أو حرق أو لصوص أو أنظمة جائرة تذهب به جميعه ، وكم رأى الناس وعاينوا
، وشاهدوا وباينوا ، عاقبة الربا على أصحابه ، فكم من الأثرياء المرابين ،
والأغنياء المحاربين ، الذين محق الله ما بأيديهم ، حيث علقتهم الديون ، فأخذهم
الله بعذاب الهون ، فصاروا عالة على الناس يتكففون ، وصدق الله العظيم القائل :
" فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً
* وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم
عذاباً أليماً " ، وصدق عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، القائل في الحديث
الصحيح : " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " [ أخرجه ابن
ماجة والحاكم وصححه الألباني 2 / 28 ] .
أمة الإسلام : للربا أثار مخيفة ، وعواقب عنيفة ، منها ما تم بيانه ، ومنها :
أن الربا سبب لظهور الأمراض المستعصية ، وكثرة الأدواء والأوبئة ، وتسلط الحكام
، وانتشار الفقر والبطالة ، وكثرة الجريمة ، وشيوع الفساد في البلاد بين العباد
، وهذا ما تعانيه الأمة اليوم ، فهل من مدكر ومتعظ ؟ في الحديث ، ما ظهر الربا
والزنا في قوم إلا ظهر فيهم الفقر ، والأمراض المستعصية ، وظلم السلطان ، ومن
أعظم آثار الربا فتكاً ، وأشدها ضرراً ، أنه سبب لعذاب القبور ، ففي الحديث
الصحيح الطويل الذي أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه ، أن آكل
الربا ، يُعذب من حين موته إلى يوم القيامة ، بالسباحة في بحر الدم ، ويلقم
حجارة من نار ، وهذا عذابه في قبره مع لعنة الله له ، ألا فاتقوا الله عباد
الله ، وذروا ما بقي من الربا ، واتركوا كل تعامل به ، واهجروا كل من تعامل به
، واحرصوا رحمكم الله على تحري المال الحلال ، ففيه غنية عن الحرام .
أيها المسلمون : لما كثرت البنوك الربوية ، وانتشرت الدعايات الصحفية ، تحت
شعارات مضلله ، وروايات باطلة ، بأسماء منمقة ، كالخدمات البنكية ، والنظام
المصرفي ، والمداينات ، والقرض والفائدة ، وحساب التوفير ، وودائع الائتمان ،
ونحو ذلك ، لما تغير مسمى الربا بتلكم المسميات ، انساق الناس وراء ترهات
الأحلام ، وسفهاء الأقلام ، فوقعوا في الربا عياناً بياناً ، فيا حسرةً على
العباد ، تاهوا في كل واد ، قال صلى الله عليه وسلم : " يأتي على الناس زمان لا
يبقى أحد إلا أكل الربا ، ومن لم يأكله أصابه من غباره " [ أخرجه أبو داود
والنسائي وابن ماجة ] ، والناظر في واقع المسلمين اليوم ، يدرك مصداقية هذا
الحديث ، وأي موظف لا يمر راتبه بأحد البنوك الربوية ، فسبحان الله ما أحلمه
على خلقه ، وما أرأفه بعباده ، وما أصبره على أذاهم ، ينزل عليهم نعمه ومننه
وخيراته ، ويقابلون ذلك بالمعاصي والجحود والكفران ، قال تعالى : " يعرفون نعمة
الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون " .
أيها المسلمون : إن الله حرم الربا في كتابه العزيز، وحرمه رسوله محمد صلى الله
عليه وسلم ، وأجمع العلماء على تحريمه ، ولم يُحل في ملة قط ، فمن اعتقد حله
وقد جاءته الآيات والأحاديث ، فإنه مفارق للإسلام ، وخارج منه ، لكونه مكذباً
لله ورسوله ، راداً على الله ورسوله ، قال تعالى : " قَـٰتِلُواْ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ " ،
فانظروا عباد الله كيف أذن الله جل وعلا بقتال من لم يُحرم ما حرمه الله ورسوله
، بل وأذن في حربهم ، وأخرجهم من دائرة الإيمان والعياذ بالله ، فالربا حرام
لما يحتويه من ظلم للبشرية ، وأكل لحقوق الإنسانية ، في الربا تجتمع جميع
الشرور ، بفعل الربا تصبح الأمم طبقتان ، طبقة غنية ، وأخرى فقيرة ، الربا من
أسباب الكسل والخمول ، الربا حرام كله ، مهما كانت أسبابه ودوافعه ، فليس هناك
مسوغ يجيز لعبد من عباد الله أن ينتهك حرمات ربه وخالقه ، الربا حرام في الأمور
الاستهلاكية والإنتاجية ، الربا حرام مع المسلمين وغير المسلمين ، الربا حرام
ولو حصل التراضي بين الطرفين ، لأنه عدوان لله ولرسوله ، ومعصية ظاهرة الحجة
والبيان .
أمة الإسلام : احذروا سخط الله ومقته وغضبه ، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله
وقاية ، بفعل الطاعات ، واجتناب المنهيات ، ألا وإن أعظم المنهيات بعد الشرك
بالله التعامل بالربا ، ولا يغرنكم من هلك مع الهالكين ، فتلكم سبيل الغافلين ،
وعاقبة المجرمين ، وتعاملوا فيما بينكم بالمعاملات الطيبة النافعة ، وكونوا
عباد الله إخواناً ، فرأس المال والخبرات ، تورث المنافع والخيرات ، فاحذروا
الربا أيها الناس ، لا يغرنك تسهيلاتهم، فهم والله لم يسهلوها محبة لكم، وإنما
يريدون اقتناصكم، فاليوم تكون الأمور سهلة، وغداً تجتمع الديون، ويكثر
المطالبون ، فلا تستطيعون وفاءها، فيعود الغني فقيراً ، والمترف مفلساً ،
فاتقوا الله تعالى في أموالكم ، واحذروا دخول الربا فيها ، وابتعدوا عنها طاعة
لله ، وخوفاً من عقوبته ، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه .
أيها المسلمون : كل الناس يعلم حرمة الزنا ، ولقد جعل الله الربا أشد من الزنا
، قال صلى الله عليه وسلم : " درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست
وثلاثين زنية " [ أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط ، وصححه الألباني ] ، وقال
صلى الله عليه وسلم : " الربا ثلاث وسبعون باباً ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل
أمه " [ أخرجه الحاكم وصححه الألباني ] ، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن ،
وسوء المحن ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من
الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما سمعتم ، فما كان من صواب فمن الله ، وما كان من
خطأ فأستغفر الله منه ، واستغفروه إنه كان للأوابين غفوراً .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً حمداً ، والشكر له شكراً شكراً ، له الحمد كله ، وله الشكر كله
، وله الفضل كله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، أهل هو أن
يعبد ، وأهل هو أن يشكر ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا له عبد
، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صلوات ربي وسلامه عليه ، وعلى
آله وصحبه ، ومن تبع سنته ، واهتدى بهداه . . . أما بعد :
فيا أيها المسلمون : لقد كثرت الدعايات للعمل بالربا ، وتعددت مجالاته ، وتنوعت
أساليبه ، فعلى المسلم أن يخشى الله ويتقه ، ويعلم أنه موقوف بين يديه يوم
القيامة ، فمن معاملات الربا المحرمة اليوم وأكثرها شيوعاً :
***
القرض بفائدة ، وصورة ذلك ، أن يقترض
شخص من آخر أو مؤسسة أو بنك مالاً على أن يرده وزيادة ، فهذا هو عين الربا الذي
أجمعت الأمة على تحريمه ، وجاءت النصوص الشرعية بمنعه والتحذير منه قال تعالى :
" وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره
إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " .
***
ومن صور الربا المحرمة ، بيع العينة ، وصورة ذلك ، أن يبيع سلعة بثمن مؤجل على
شخص ، ثم يشتريها منه بثمن حال أقل من الثمن المؤجل ، فهذه معاملة ربوية محرمة
، جُعلت السلعة فيها حيلة وستارة فقط ، يتحايلون على الله تعالى كما يتحايلون
على الأطفال ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، قال صلى الله عليه وسلم : "
لئن تركتم الجهاد ، وأخذتم أذناب البقر ، وتبايعتم بالعينة ، ليلزمنكم الله
مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم ، حتى تتوبوا إلى الله ، وترجعوا على ما كنتم عليه
" [ أخرجه أبو داود ] .
***
ربا الدين ، وصورته أن يبيع الرجل على آخر بيعاً إلى أجل مسمى ، فإذا جاء الأجل
، ولم يكن عند صاحبه قضاء ، زاد في الثمن وأخر عنه في الدفع إلى أجل مسمى آخر ،
وهذه هو الربا أضعافاً مضاعفة ، وهو ربا الجاهلية الذي نهى الله عنه بقوله
سبحانه : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله "
.
***
ربا النسيئة ، وله صورة متعددة ، منها : أن يقرض شخصاً مبلغاً من المال على أن
يرده وزيادة ، ومنها : بيع النقود بالنقود ، أو النقود بالذهب إلى أجل بزيادة ،
أو بيع ذلك من غير تقابض في المجلس ، ولو لم يكن هناك زيادة ، فهذا عين الربا
الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ،
والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ،
يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء " [ أخرجه
مسلم ] ، وفي رواية : " مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه
الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " [ أخرجه مسلم من حديث عبادة بن
الصامت رضي الله عنه ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ،
إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض " [ متفق عليه ] ولا تفضلوا بعضها
على بعض ، وقال صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة المذكورة : " ولا تبيعوا
منها غائباً بناجز " [ متفق عليه ] ، وهذه الأنواع من الربا واقعة اليوم بكثرة
جارفة ، وتكثر في المصارف ، وعند باعة الذهب والحلي ، وإذا اختلفت الأصناف حال
البيع ، فيلزم أن تكون مقبوضة في الحال فقط ، لقوله صلى الله عليه وسلم : "
بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم ، يداً بيد ، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم ، يداً
بيد ، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم ، يداً بيد " [ أخرجه مسلم والترمذي وأبو
داود ] ، ولفظ أبي داود : " ولا بأس ببيع الذهب بالفضة ، والفضة أكثرها ، يداً
بيد ، وأما نسيئة فلا ، ولا بأس ببيع البر بالشعير ، والشعير أكثرها ، يداً بيد
، وأما نسيئة فلا " .
***
ومن صور الربا اليوم ، أن يُعجل الموظف استلام راتبه قبل نهاية الشهر مقابل
فائدة مالية ، يسمونها عمولة البطاقة ، وفي حقيقتها زيادة مالية ربوية ، يرى
الناس ظاهرها ، ويخفى عليهم باطنها ، وهي معاملة ملعون صاحبها وآكلها والمتعامل
بها ، فاحذروا عباد الله من تلك الألاعيب المكشوفة ، التي يتحايلون بها على
الناس ، ليدخل الربا في أموالهم ، فتمحق بركاتها ، وتزول خيراتها .
***
ومن صور الربا ، استبدال الذهب القديم بذهب جديد ، ودفع الفرق بينهما ، وهذا
عين الربا ، والصحيح في ذلك ، أن يبع القديم ويقبض ثمنه ، ثم يشتري جديداً .
***
ومن وصر الربا ، أن يشتري ذهباً ديناً أو أقساطاً ، وهذا رباً لا يجوز التعامل
به ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر
، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ،
فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء " [ أخرجه مسلم ] ،
فليحذر تجار العملات ، وتجار السبائك الذهبية ، ألا يبيعوا حاضراً بغائب ،
فلابد من التقابض والاستلام والتسليم في مجلس العقد .
***
ومن صور الربا ، الإيداع بفائدة ، وصورته أن يضع ماله في أحد البنوك الربوية ،
ويعطيه البنك فائدة جراء الانتفاع بالمبلغ ، وهذا حرام ، وفيه تعاون على الإثم
والعدوان ، ومعصية الرحمن .
أيها المسلمون : لا ريب أن المسلمين أخوة ، يساعد بعضهم بعضاً ، ويعين أحدهم
أخاه ، بشفاعة حسنة ، أو واسطة لا ظلم فيها ، أو غير ذلك من أوجه المنفعة ، فمن
شفع لأخيه أو قضى له منفعة ، فلا يجوز له أن يأخذ مقابل ذلك أجراً ، ومن فعل
فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا ، قال صلى الله عليه وسلم : " من شفع لرجل
شفاعة فأهدى له عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا " [ أخرجه
أبو داود ] ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " من شفع لرجل شفاعة فأهدى إليه
هدية فهي سحت " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " كل قرض جر نفعاً فهر ربا " .
أمة الإسلام : ربما وقع المسلم في الربا وهو لا يعلم ، فمن كان كذلك ، وجب عليه
رد الحقوق إلى أهلها ، وترك الربا فوراً ، لأنه من أسباب سخط الله ، ومن وقع في
الربا مع بنك أو مصرف أو غيرها فإنه يرفع أمره للمحاكم الشرعية ، ليتبين الحق
من الباطل ، ألا فاعلموا أيها الناس أن من وقع في الربا عارفاً أو جاهلاً ،
فالعقد باطل ، لحديث بلال رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
بتمر جيد ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " من أين هذا ؟ " ، فقال : كان
عندنا تمر رديء ، فبعت منه صاعين بصاع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا
ربا فردوه ، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] ،
وهذا دليل واضح على بطلان العقد ولو تم التوقيع عليه ، والموافقة من قبل
المتعاقدين ، فكل تلك الأمور لا تجيز العمل بالربا .
أمة الإسلام : لقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين ، أبعد
الناس عن الحرام ، بل وتركوا المباح ، خوفاً من الوقوع في الحرام ، عرفوا قدر
الأموال ، وأمعنوا النظر في سبيلها ، وطرق الحصول عليها ، فكانوا لا يحصلونها
إلا من طريق مباح ، ولا يصرفونها إلا في وجه له منفعة ، سلكوا في تحصيلها سبيل
الورع ، وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود ، كان لأبي بكر رضي الله عنه
غلاماً ، فجاء يوماً بشيء ، فأكل منه أبو بكر رضي الله عنه ، فقال له الغلام :
أتدري ما هذا ؟ لقد كان ثمناً للكهانة ، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء
في بطنه ، وشرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبناً فأعجبه ، فقال للذي سقاه : من
أين لك هذا ؟ ، قال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها ، فأدخل عمر
يده فاستقاء ، هكذا أيها المسلمون كان سلفنا الصالح يخرجون الحرام من بطونهم ،
بعد أكله وهم جاهلون به ، وما ضرهم ذلك الفعل ، بل ملكوا زمام الدنيا ، ومفاتيح
الآخرة ، وكانت حياتهم طيبة ، وعاقبتهم حميدة ، الله أكبر يا عباد الله ، ما
أعظم الفرق بين قوم أخرجوا الحرام من بطونهم ، وقوم عرفوا الحرام ، وقرءوا كتاب
الله ، وتدبروا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم أقدموا على أكل الحرام ، شتان
بين الفريقين ، فريق ملكوا الأرض وخيراتها ، وفريق ضاع ملكهم اليوم ، فأصبحوا
عبيداً للأهواء والشهوات والشبهات ، قال الله تعالى : " إن الله لا يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من
الله من وال " ، وإذا كان أخف الناس عذاباً يوم القيامة ، رجل توضع تحت قدميه
جمرتان من النار ، يغلي منهما دماغه ، فكيف بمن يأكل الربا وقد توعده الله
بالخلود في النار ، فاتقوا الله أيها الناس ، واعلموا أن الله عز وجل ختم آيات
النهي عن الربا ، والأمر بتركه في سورة البقرة بقوله تعالى : " واتقوا يوماً
ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " ، فهل بعد هذا
البيان من النصوص الشرعية بيان ؟ لهي أعظم دليل وبرهان ، ولكن صدق الله العظيم
إذ يقول : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " ، وقوله
سبحانه : " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل
سبيلاً " ، وفي الموضوع أدلة كثيرة ، وأخبار غزيرة ، وفيما ذكرت كفاية ، لمن
أدركته العناية ، هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المختار ، صادق
الأخبار ، سيد الأبرار ، حيث أمركم بذلك العزيز الغفار ، فقال الواحد القهار :
" إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليماً "