|
الحمد لله المحمود على كل حال ، ونعوذ بالله من حال أهل النار ، الحمد لله الذي
وعد على الصبر بعظيم العطاء ، وجزيل السخاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له دائم البقاء ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دعا إلى ربه فأنار العقول
وأخرجها من الظلماء ، صلى الله عليه وعلى أصحابه مصابيح الدجى ، ونجوم الهدى ،
وسلم تسليماً كثيراً . . وبعد :
فكم هي المصائب والنكبات التي تحصل للإنسان على مر الدهور ، وجريان العصور ،
ابتلاءً من الله تعالى لعباده ليمحص المخلصين من المنافقين ، والصادقين من
الكاذبين ، فمن الناس من إذا أصابته مصيبة ، أو نزلت به نازلة ، شكى بثه وحزنه
للناس ، وتسخط على أقدار الله تعالى ، وربما دعا بدعوى الجاهلية ، فشق الجيوب ،
ولطم الخدود ، ودعا بالويل والثبور ، وهذا خلاف ما أمر به الشارع الكريم حيث
قال الله تعالى آمراً عباده بالصبر : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا
ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " [ آل عمران 200 ] ، وقال تعالى : " يا أيها
الذين استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين " [ البقرة 153 ] ، وجاء
ذكر الأمر بالصبر في المصائب ، أحاديث صحيحة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ،
فعَنْ أُسَامَةَ ابْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ ،
تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا ، أَوِ ابْنًا لَهَا فِي
الْمَوْتِ ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ : ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ
لِلَّهِ مَا أَخَذَ ، وَلَهُ مَا أَعْطَى ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ
مُسَمًّى ، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ، فَعَادَ الرَّسُولُ
فَقَالَ : إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا ، فَقَامَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ ابْنُ عُبَادَةَ ،
وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ
الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ ، فَفَاضَتْ
عَيْنَاهُ ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : "
هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا
يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ ـ وعند مسلم على ابن لها
قد مات ـ فَقَالَ : " اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي " ، قَالَتْ : إِلَيْكَ
عَنِّي ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي ، وَلَمْ تَعْرِفْهُ ، فَقِيلَ
لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَتْ بَابَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ
بَوَّابِينَ ، فَقَالَتْ : لَمْ أَعْرِفْكَ ، فَقَالَ : " إِنَّمَا الصَّبْرُ
عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
فعلينا معاشر المسلمين أن نعلم أن المؤمن يتقلب في هذه الدنيا بين خير وشر ،
وضراء وسراء ، ومواجع وفواجع ، وكوارث ومصائب ، منها ما هو خفيف يمر مر السحاب
، ومنها ما هو كالجبال الراسيات ، امتحاناً من الله تعالى لعباده ، وتمحيصاً
لإيمانهم ، واختباراً لصدقهم ، تصديقاً لقوله تعالى : " ألم * أحسب الناس أن
يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله
الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " [ العنكبوت 1-3 ] ، فالفتنة في هذه الدنيا لا
بد منها لتمحيص العبد ، وله الأجر العظيم ، إذا صبر واحتسب المصيبة عند ربه ،
فسوف يخلف الله له خيراً منها ، ويشهد لذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها والذي
سيأتي ، وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ ، وَلَا
وَصَبٍ ـ مرض ـ وَلَا هَمٍّ ، وَلَا حُزْنٍ ، وَلَا أَذًى ، وَلَا غَمٍّ ،
حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ
" [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] . فالفتنة والمصيبة التي تصيب العبد ما هي إلا
رفعة في درجاته إذا صبر واحتسب الأجر ، لأن الدنيا مزرعة للآخرة ، وليس العكس ،
فالإنسان يسعى جاهداً في هذه الدنيا ليبني الآخرة ، فالدنيا ضيقة في نظر العبد
المسلم ، لأنها دار ممر ، لا دار مقر ، سرعان ما يموت ويتركها خلف ظهره ، فطوبى
لمن عمل فيها خيراً ، وأُجِرَ كثيراً ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ " [ أخرجه مسلم ] ، فمن
أراد الله به خيراً عرضه للفتن ، وأصابته المصائب ، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ
يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ " [ أخرجه البخاري ] وفي لفظ :
يُصَب منه ،
وثمة سؤال مهم لماذا تصيب المسلم الفتن
والمصائب ؟
الجواب : حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة ، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا
يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ ، فِي نَفْسِهِ ، وَوَلَدِهِ
، وَمَالِهِ ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ " [ أخرجه
الترمذي وأحمد ، وقَالَ الترمذي : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
فالمصيبة سبب لحصد الحسنات ، وتكفير السيئات ، ولقاء الله تعالى نظيفاً طاهراً
، خالياً من الأوزار والخطايا .
ومن منطلق الشرع القويم ، والحق المبين
، أقدم للقارئ الكريم بعضاً من الأسباب التي يتسلى بها عن مصيبته ، ويعالج حرها
، ويقهر سمومها ، وتكون حافزاً للصبر على الفتنة في الدنيا :
1-
فمن أعظم أسباب علاج المصائب النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف
صبر على أذى قومه ، وكذلك صبر الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم على
تكذيب أقوامهم لهم ، قال تعالى لنبيه آمراً إياه بالصبر : " فاصبر كما صبر
أولوا العزم من الرسل " [ الأحقاف 35 ] .
2-
النظر في العاقبة الحسنة لمن صبر واحتسب أجر المصيبة عند الله تعالى كما في
قوله تعالى : " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه
راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " [ البقرة ] ،
وقال صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد تصيبه مصيبة ، فيقول : إنا لله وإنا
إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها ، إلا أجاره الله في
مصيبته ، وأخلف له خيراً منها " [ أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد ] ،
وفي حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : أَتَانِي أَبُو سَلَمَةَ
يَوْمًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَوْلًا فَسُرِرْتُ بِهِ ، قَالَ : " لَا تُصِيبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
مُصِيبَةٌ ، فَيَسْتَرْجِعَ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ
أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي ، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا ، إِلَّا فُعِلَ
ذَلِكَ بِهِ ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَحَفِظْتُ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَلَمَّا
تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ اسْتَرْجَعْتُ وَقُلْتُ : اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي
مُصِيبَتِي ، وَاخْلُفْنِي خَيْرًا مِنْهُ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي ،
قُلْتُ : مِنْ أَيْنَ لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ، فَلَمَّا انْقَضَتْ
عِدَّتِي ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَأَنَا أَدْبُغُ إِهَابًا لِي ، فَغَسَلْتُ يَدَيَّ مِنَ
الْقَرَظِ ، وَأَذِنْتُ لَهُ ، فَوَضَعْتُ لَهُ وِسَادَةَ أَدَمٍ حَشْوُهَا
لِيفٌ ، فَقَعَدَ عَلَيْهَا ، فَخَطَبَنِي إِلَى نَفْسِي ، فَلَمَّا فَرَغَ
مِنْ مَقَالَتِهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا بِي أَنْ لَا تَكُونَ
بِكَ الرَّغْبَةُ فِيَّ ، وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ فِيَّ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ ،
فَأَخَافُ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئًا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ بِهِ ، وَأَنَا
امْرَأَةٌ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ ، وَأَنَا ذَاتُ عِيَالٍ ، فَقَالَ : " أَمَّا
مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْغَيْرَةِ فَسَوْفَ يُذْهِبُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
مِنْكِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ
الَّذِي أَصَابَكِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا
عِيَالُكِ عِيَالِي " ، قَالَتْ : فَقَدْ سَلَّمْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَقَدْ أَبْدَلَنِي اللَّهُ
بِأَبِي سَلَمَةَ خَيْرًا مِنْهُ ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " [ نفس المصدر السابق ] .
وهذه الكلمة ـ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي ، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا
مِنْهَا ـ من أبلغ علاج المصاب وأنفعه للإنسان في عاجلته وآجلته ، فإنها تتضمن
أصلين عظيمين :
أحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد
عارية منه ، فهو كالمعير ، يأخذ متاعه من المستعير .
وليس العبد هو الذي أوجده من عدم ، حتى يكون ملكه حقيقة ، ولا هو الذي يحفظه من
الآفات بعد وجوده ، ولا يبقى عليه وجوده ، فليس له تأثير ولا ملك حقيقي ،
وأيضاً فإنه متصرف فيه بالأمر ، تصرف العبد المأمور والمنهي ، لا تصرف الملاك ،
ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي .
الثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا
وراء ظهره ، ويجيء ربه كما خلقه أول مرة ، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، ولكن
بالحسنات والسيئات ، فإذا كانت هذه بداية العبد وما حوله ونهايته ، فكيف يفرح
بموجود ، أو يأسي على مفقود ، ففكره في مبدئه ومعاده ، من أعظم علاج هذا الداء
.
3-
ومن علاج المصائب أن يعلم العبد علم اليقين ، أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما
أخطأه لم يكن ليصيبه ، قال تعالى : " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم
إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم
ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور " [ الحديد ] .
4-
ومن علاجها : أن ينظر إلى ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه
، وادخر له إن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه
لو شاء لجعلها أعظم مما هي ، فربما أصيب بعض الناس بفقد أحد أبنائه ، وهذه
مصيبة ولا ريب ، لكن لو تدبر أن الله تعالى قد أبقى له بقية الأبناء لصبر وشكر
الله على بقاء البقية الباقية منهم .
5-
ومن علاجها : أن يطفىء نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل
واد بنو سعد ، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة
، وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى ، إما بفوات محبوب أو حصول مكروه ،
وأن شرور الدنيا أحلام نوم ، أو كظل زائل ، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً ، وإن
سرت يوماً ساءت دهراً ، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً ، وما ملأت داراً خيرة إلا
ملأتها عبرة ، ولا سرته بيوم سرور ، إلا خبأت له يوم شرور ، قال ابن مسعود رضى
الله عنه : لكل فرحة ترحة ، وما ملىء بيت فرحاً إلا ملىء ترحاً ، وقال ابن سرين
رحمه الله : ما كان ضحك قط ، إلا كان من بعده بكاء .
6-
ومن علاجها ، أن يعلم أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها وهو في الحقيقة من تزايد
المرض .
7- ومن علاجها ، أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاة والرحمة
والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع ، أعظم من المصبية في الحقيقة .
8-
ومن علاجها ، أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر
شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه ، وإذا صبر واحتسب ، أنضى شيطانه ، ورده
خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن
يعزوه ، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء
بالويل والثبور ، والسخط على المقدور .
9-
ومن علاجها ، أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة ، أضعاف ما
كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى
له في الجنة ، على حمده لربه ، واسترجاعه ، فلينظر أي المصيبتين أعظم : مصيبة
العاجلة ، أو المصيبة بفوات بيت الحمد في جنة الخلد ، وفي الترمذي عَنْ جَابِرٍ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَوَدُّ
أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ
الثَّوَابَ ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا
بِالْمَقَارِيضِ " ، وقال بعض السلف : لولا مصائب الدنيا ، لوردنا القيامة
مفاليس .
10-
ومن علاجها ، أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله ، فإنه من كل شيء عوض ، إلا
الله فما منه عوض ، كما قيل :
من كل شيء إذا ضيعته عوض * وما من الله إن ضيعته عوض .
11-
ومن علاجها ، أن يعلم أن حظه من المصيبة ، ما تحدثه له ، فمن رضى فله الرضى ،
ومن سخط فله السخط ، قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ عِظَمَ
الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا
ابْتَلَاهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ
السَّخَطُ " [ أخرجه الترمذ وأبو داود وابن ماجة وأحمد ، وقَالَ الترمذي :
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ] .
فحظ العبد من المصيبة ما أحدثته له ، فاختر خير الحظوظ أو شرها ، فإن أحدثت له
سخطاً وكفراً ، كتب في ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً في ترك
واجب ، أو فعل محرم ، كتب في ديوان المفرطين ، وإن أحدثت له شكاية ، وعدم صبر ،
كتب في ديوان المغبونين ، وإن أحدثت له اعتراضاً على الله ، وقدحاً في حكمته ،
فقد قرع باب الزندقه أو ولجه ، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله ، كتب في ديوان
الصابرين ، وإن أحدثت له الرضى عن الله ، كتب في ديوان الراضين ، وإن أحدثت له
الحمد والشكر ، كتب في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحامدين ، وإن
أحدثت له محبة واشتياقاً إلى لقاء ربه ، كتب في ديوان المحبين المخلصين .
12-
ومن علاجها ، أن يعلم أنه في الجزع غايته ، فآخرة أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو
غير محمود ولا مثاب .
13-
ومن علاجها ، أن المصاب بالمصيبة ، إذا رأى مصيبة غيره ربما هانت عليه مصيبته .
14-
ومن علاجها ، وهو أعظم سبل علاج حر المصيبة ، التزام أمر الله تعالى ، الذي أمر
عباده بالصبر على الفتن والمصائب ، ووعدهم على ذلك بعظيم الأجر .
وفي ختام هذا الموضوع ، أسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً الصبر في مواطن الفتن
، وأن يلهمنا طاعته في كل أحوالنا ، وان يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، وأن
يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
في 17/1/1426هـ