|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ،
والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . أما بعد :
فقد كثر عقوق الأمهات في هذه الآونة الأخيرة من الزمان ، بسبب البعد عن دين
الواحد الديان ، ونتيجة لكثرة مغريات الحياة الدنيا ، وتهافت الكثيرين
عليها ، ونسياناً لرد الجميل ، ورغبة عن مقابلة الإحسان بمثله ، حتى نشأ
لدينا جيل تنكر لدينه وأهله ووطنه _ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم _ .
كم من الرجال والشباب من يضرب أُمه ويهينها ويطردها من بيته أو بيتها أو
ربما قتلها ، يالله . . ضربها وطردها وقتلها ، ياله من عاق ، إنه جاهل غافل
سفيه لا عقل له .
طرد أُمه التي أفنت عمرها لأجل تربيته وتنشئته ، أحبته أكثر من نفسها ،
وأيم الله أكثر من نفسها ، تفديه بروحها ، جاعت ليأكل ، وسهرت لينام ،
وتعبت ليرتاح ، وشقيت ليسعد ، تحبه ويكرهها ، وتجله ويهينها ، ما هذه
المفارقات ؟ وما هذا التباين ؟
أزالت عنه الأقذار والأوساخ ، ونفست عنه همومه ، وأذهبت غمومه ، تراقبه في
كل حين ، تلحظه في كل وقت ، تخاف عليه من نسمة الهواء ، إذا خرج من البيت
لم تقر لها عين ، ولم يغمض لها جفن ، حتى يعود ، ثم إذا عاد إلى البيت رفع
صوته عليها لماذا تنتظرينني ؟ أتحسبين أني طفل ؟ وكالها من الكلمات القاسية
، واللفاظ النابية مالا تستحقه ، لم يعرف يوماً ماذا يدور بقلبها وعقلها ،
خوفاً عليه وشفقة ، لم يعرف يوماً معنى الأمومة ؟ فهداه الله من ولد عاق .
ولقد حذر الله تعالى من قول : " أُف " للوالدين ،
وحذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من عقوق الأمهات ، فَعَنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ
الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ ، وَمَنْعًا وَهَاتِ ، وَكَرِهَ
لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " [
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ] .
وَإِنَّمَا خُصَّتْ الْأُمُّ هُنَا إظْهَارًا لِعِظَمِ حَقِّهَا وَإِلَّا
فَالْأَبُ مُحَرَّمٌ عُقُوقُهُ ، فكم من الأبناء والبنات من عقوا أمهاتهم
وتركوهن يبكين ، فويل لهم من فاطر الأرض والسموات ، إن قطيعة الوالدين من
أشد الذنوب خطراً ، وأعظمها ضرراً ، فقد توعد الله صاحبها باللعن ، لعنه
الله من فوق سبع سموات ، قال الله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ *
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى
أَبْصَارَهُمْ } [ محمد 22-23 ] .
ألا وإن أعظم الرحم صلة الوالدين ، لأنهما سبب وجودك في هذه الحياة ، فهل
تقابل ذلك بالجحود والنكران ؟
العاق يحرم نفسه بركة العمر ، وبركة الرزق ، وبركة الولد ، العاق يعرض نفسه
للعذاب في الدنيا والقبر والآخرة ، فيخسر خسارة كبيرة ، العاق يقطع صلته
بربه .
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله
الخلق ، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل ، فقال : مه !
فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . فقال : ألا ترضين أن أصل من وصلك
وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذاك " [ رواه البخاري ومسلم ] .
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما
من ذنب أحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة
، من البغي وقطيعة الرحم " [ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، وقال
الترمذي: هذا حديث صحيح ] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : " مَنْ سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه ، ويُنْسَأ له في أجله ، فليصل
رَحِمَه " .
ألا ويلك أيها العاق يوم القيامة من شديد العقاب ، وأليم العذاب ، لا ينظر
الله إليك ، ولا يكلمك بل إلى جهنم أجارنا الله منها ومن عذابها ، عن ابن
عمر رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا
ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان
عطاءه ، وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والديوث ، والرجلة " [
رواه النسائي والبزار واللفظ له بإسنادين جيدين والحاكم وقال صحيح الإسناد
، وقال الألباني : حسن صحيح ] .
فبر الأمهات والإحسان إليهن ، وكذلك الآباء ، سبب لزيادة الرزق ، وزيادة
العمر ، وصلاح الذرية ، وحسن الخاتمة ، والعقوق على النقيض من ذلك ، فهو
سبب للفقر والخسارة ، وموت الفجأة ، وسوء الخاتمة ، وعقوق الأولاد .
أيها العاق . . والله ثم والله ، مهما قدمت لأُمك من خير وبر وطاعة وإحسان
فلن توفيها ولو زفرة من فراتها ، ولا طلقها من طلقاتها حين ولادتك ، ولكن
الله يجزي البار خيراً على إحسانه ، وثواباً على بره .
عقوق الأمهات سبب لحبس اللسان عن قول شهادة التوحيد ، فهذا علقمة شاب في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم ملأت قصته الكتب والسطور ، والدواوين والصدور
، شاب يصلي المكتوبات ويحافظ على الرواتب ، يصوم رمضان ، ويصوم غيره من
الأيام ، تزوج بامرأة ، أطاعها وعق أُمه ، فغضبت عليه ، ولما حضرته الوفاة
قيل له : قل : لا إله إلا الله ، فلم يستطع قولها ، وعجز عن النطق بها ،
لماذا يا علقمة ؟ ماذا عملت يا علقمة حتى يُحبس لسانك عن قول : لا إله إلا
الله ؟
لقد عق علقمة أُمه ، أرضى زوجته وأسخط أُمه ، أطاع زوجته وعصى أُمه ، سخطت
عليه أُمه فسخط الله عليه ، غضبت عليه أُمه فغضب الله عليه ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " رِضَى اللَّهِ فِي رِضَى الْوَالِدَيْنِ ،
وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ " [ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ ] .
فجاءوا إلى النبي فقالوا : إن لسان علقمة لم ينطق بكلمة التوحيد وهو في
الموت ، فقال : قولوا لأمه : إما أن تأتيني وإما أن آتيها ، فقالت : بل أنا
آتي رسول الله ، فلما جاءت إليه سألها عن خبر علقمة ، فأخبرته أنه كان
يعقها ، فقال : إما أن ترضي عنه وإما أن أحرقه بالنار ، فقالت : بل أرضى ،
تنظروا إلى قلب الأم ، قلب رحيم ، قلب شفيق ، قلب رفيق رقيق ، قلب حنون ،
قلب عطوف ، لم ترض أن يُحرق ولدها وقد أحرق قلبها ، فلما رضيت عنه صدقاً
وحقاً ، نطق علقمة بالشهادة .
فاحرصوا معاشر الأبناء والبنات على رضى أُمهاتكم ، فرضاهن رضى لله ، وسخطهن
سخط من الله .
من أراد الجنة فليقبل قدم والدته فعندها الجنة ، وقد وردت الوصية بالوالدين
في غير آيةٍ ، لِما للوالدَين من منزلةٍ كبيرة وكريمة في وجود الانسان .
ووصّينا الانسانَ بأن يحسِن إلى والديه ويبرَّهما في حياتهما وبعد مماتهما
، وخصَّ الأمَّ بالكلام لأنها تقاسي في حمله مشقةً وتعباً ، وفي وضعه
آلاماً كثيرة ، ثم في إرضاعه وتربيته ، فالطفلُ يقضي معظم وقتِه مع أمهِ ،
وفي رعايتها وحنانها وعطفها . . لهذا كلّه تستحقّ الكرامةَ وجميل الصحبة
والبر العظيم . وقد وردت أحاديث كثيرة تحثّ على بِرّ الأمهات .
روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمَّكَ ثم أمك ثم أمك ،
ثم أباك " ، وجاء في الحديث : " الجنّةُ تحت أقدام الأمهات " .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه ، أن النبي قال لرجلٍ يسأله عن حقوق الوالدين :
" هما جنَّتاك وناراك " ، وفي البخاري ومُسْلم : " أحقُّ الناسِ بالصحبة
الأم " .
وأختم أيها الأبناء والبنات بهذه القصة :
جلس الشاب مع عروسه على المنصة والنساء حولهم _ وهذا أمر لا يجوز للرجل
فعله ولا يجوز للنساء حضور مثل ذلك _ المهم جلس بجانب عروسه ، وأُمه التي
حملته وأرضعته ورعته وزوجته في أشد حالاتها فرحاً ، ففلذة كبدها قد تزوج
وحان أوان رد الجميل ، الآن تجلس هي ويقوم هو ، وترتاح هي ويتعب هو ، وتنام
هي ويسهر هو ، أليس الله تعالى يقول : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } ،
ألم يقل الله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } ، وبينما هو يتجاذب
أطراف الحديث مع عروسه ، وأمه تحتفل بهما على المنصة رائحة غادية ، فرحة
مسرورة ، إذ به يفاجأ بعروسه وهي تقول له : أخرج أُمك من هنا فأنا لا أُحب
أن أراها ، فقام وجاء بأمه وقربها إليه وقال للحاضرات : من يشتري أُمي ،
فذهل الجميع ، كيف يبيع أُمه ؟ من يشتري أُمي ، فسكن الجميع في وجوم غريب ،
وصمت عجيب ، لم يجبه أحد ، فقال : أنا أشتري أُمي ، أنا أشتري أُمي ،
فاشترى أُمه ، واشترى جنة عرضها السماء والأرض ، وقال لزوجته : أما أنت
فطالق ثم طالق ثم طالق ، طلق العاقة ، طلق الجاهلة ، طلق السفيهة ، فزوجة
هذه أفكارها ، وتلك آراؤها ، لهي نكسة ونكبة وسوء على زوجها وعلى أُسرتها
ومجتمعها وأمتها ، وهل تباع الأم ، تباع مهجة الفؤاد ، تباع سبب الحياة
والوجود ، لا يعدل وجودها أثمان الدنيا وأموالها ، لا مقارنة بين الأم
والزوجة ، ولا مقارنة بين الأم والولد ، فالأم إذا ذهبت لا تعوض ، والزوجة
بدلها مئات وآلاف وملايين ، أحسن منها وأجمل وأنسب وأغنى ، والولد كذلك
يعوضه الله عز وجل بغيره ، أما الأم فلا تُعوض أبداً ، لقد اشترى من ربته
وتعبت وسهرت لأجله ، اشترى من تجري الجنة تحت قدميها ، اشترى رحمة الله ،
فلله دره من رجل بار بوالدته ، فهل من رجل رشيد ، وبنت رشيدة ؟
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك