|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله قابل التائبين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقيل
عثرات النادمين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، صلوات ربي
وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
. وبعد :
منَّ الله تعالى على أحد العصاة بالتوبة النصوح ، والعودة إلى الله ربه
تبارك وتعالى ، وترك ما كان مقيماً عليه من الذنوب والمعاصي ، والتي طالما
عصى الله عز وجل بها ، فهنيئاً له هذه التوبة ، فما كان من أحد أئمة
المساجد إلا أن قابله بعنف وغلظة وفظاظة ما أمر الله بها ، بل نهى عنها ،
وطلب منه الخروج من المسجد وألا يصلي في مسجدهم ، ألم يعلم ذلكم المسكين أن
المساجد لله ، بل من منع الناس من خول المساجد فقد ارتكب جرماً عظيماً ، هل
المسجد له أم لله يتقرب ببنائه إلى الله ؟ عجباً لأحوال كثير من الناس ومن
تصرفاتهم الرعناء ، ومن جهلهم وحمقهم ، ومن غيرتهم غير المعتدلة ، بل
الجائرة ، والتي وصلت بأحدهم إلى أن يطرد التائب من بيت الله ، ويكون عوناً
للشيطان على أخيه ، فربما كره التوبة ذلك التائب ، فيبوء الآخر بالخسارة ،
وعليه وزر جرائم التائب فيما بعد ، فالتائب حبيب الرحمن جل جلاله ، ألم يقل
الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِين } [ البقرة222 ] ، من يحول بين التائب والتوبة ؟ لا أحد ،
فباب التوبة مفتوح ما لم تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها ، بل ربنا
تبارك وتعالى يفرح بتوبة العبد ، فكيف يتجرأ أحد ويمنع عبداً من توبة ، ألا
يخشى من حديث جُنْدَبٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قال : " أَنَّ رَجُلاً قَالَ : وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ
لِفُلاَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى
عَلَىَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ ؟ فَإِنِّى قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ ،
وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ " [ رواه مسلم ] ، فيا أخي المسلم كن عوناً للتائبين
العائدين إلى ربهم ، وافرح بذلك ، ولا تثبط هممهم وتخذلهم وتجعلهم ينكصون
على أعقابهم فتكون للشيطان ولياً ، وكذلك على الآباء والأمهات والأولياء في
بيوتهم ، عليهم أن يسعوا جاهدين للإلحاق أبنائهم وبناتهم بقوافل التائبين
العائدين إلى ربهم بعد غربة سنين عديدة ، ووحشة مزيدة ، وليفرحوا بذلك
ويغتبطوا به ، لنخرجهم من ظلمات الجهل والفساد والفضائيات وما تمجه الشبكات
، وتلفظه المجلات والجوالات من سم زعاف ، وولع بالفاحشة ، وحب للرذيلة ،
وننقذهم من ذلك كله ليعودوا إلى حياض الدين ، ويكونوا حماة له ، ودعاة إليه
، فيا أيها الناس جربوا التوبة النصوح وسوف تجدون لذة لم تجدوها طوال عمركم
، شجعوا أبناءكم على التوبة لتجنوا برهم في حياتكم وبعد مماتكم ، وإنه لن
يجد بر أولاده من تركهم هملاً لا يعرفون معروفاً ، ولا ينكرون منكراً ، لن
يجد إحسان أولاده من تركهم عرضة لأصحاب الشر والفساد ، لن يجد طاعة أبنائه
من تركهم خارج المنزل ليلاً ونهاراً ، وتركهم يلهون اللهو المحرم ،
ويعاقرون الخمر ، ويستمعون للمعازف ، ويشاهدون الأفلام الخليعة ،
والمسلسلات البائسة الفاسدة لاسيما ما يحارب الدين منها ، أو يقضي على
الأخلاق الحميدة ، ويدعو للفاحشة ، وأدعوكم لهذا الحديث ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ
عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ
يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " [ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
] .
أما آن الأوان لأن نتوب جميعاً ، ونعود إلى ربنا وخالقنا ورازقنا ، ونحكم
عقولنا ولا نسلمها لعدونا الشيطان الرجيم ، أو لشياطين الإنس ، أقول : آن
الأوان لنقبل على الله عز وجل وننطرح بين يديه ، ندعوه ونرجوه أن يرحمنا
ويتقبل توبتنا ، ويعفو عنا ، ويمحو سيئاتنا ، فالله رحيم غفور كريم ، يغفر
الذنوب جميعاً إذا صدق العبد في توبته ، وأعود مذكراً إذا رأينا تائباً
فعلينا أن نشجعه ونأخذ بيديه ولا نتركه ، بل نساعده ونعاونه على الاستمرار
في توبته حتى يقف على قدميه ، ويعرف طريق الصلاح وطريق الهدى ليستمر عليه
حتى يلقى ربه ، ولا نكون سبباً في تقاعس العصاة عن التوبة بسبب تجهم وجوهنا
أو كراهيتنا لما هم عليه من معاص ، بل علينا أن ندعوهم للهداية والرشاد ،
ونبين لهم خطأهم الذي هم فيه ، فلعل الله سبحانه أن يهديهم ويمن عليهم
بتوبة صادقة تكون في موازين أعمالنا ، ولا يدعونا ما هم عليه من المعاصي
لكراهيتهم وبغضهم وعدم الاقتراب منهم ، فأنت هداك الله ربما بعد ضلاله وزيغ
عن طريق الحق ، وهم كذلك يريدون من يحرك الخير في قلوبهم ، وما هي إلا
كلمات وابتسامات وجلسات حتى يصفى لك إخوانك ، ويكونون من ركب الدعاة ، لا
تيأس ولا تتشاءم ولا تتبرم ، فالله قادر على هداية الناس جميعاً ، فالدعوة
باللين والحسنى سبب لتأليف القلوب ، أما الغلظة فسبب للنفرة ، وزيادة في
الضلالة ، قال الله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [ آل
عمران 159 ] ، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك