|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله جعل الدنيا دار ممرٍّ واعتبار ، والآخرةَ دار جزاءٍ وقرار ،
أحمده سبحانه وأشكره على نعمِه وفضله المِدرار ، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له العزيز الغفَّار ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله
ورسولُه المُصطفى المُختار ، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة
الأطهار ، وأصحابه البرَرة الأخيار ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى
طريق الحق والهُدى سار . . . أما بعد :
لقد انشغل الكثير من الناس بالقضايا السياسية وصراعات الدول بعضها مع بعض ،
وأدخلوا الفضائيات إلى بيوتهم تعج بالفاتنات من النساء ، وتعرض أنواع
الموسيقى أثناء الأخبار ، فمن أذن لهم بذلك ؟ وهل لديهم دليل على حلِّه ؟
وليس هذا هو المراد من موضوعنا ، ولكن للتنبيه فقط .
أما خاطرتنا في هذه الليلة فهي عن هذه الحمى التي أصابت الناس وهي متابعة
للأحداث الراهنة على الساعة العربية والإسلامية خاصة ، كما يحصل اليوم من
محاكمة لرموز النظام المصري السابق وانشقاق الناس ما بين مؤيد ومعارض ، وما
يحدث من ظلم وتعسف وجبروت وقتل وظلم للمسلمين الأبرياء في سوريا وليبيا
واليمن وغيرها ، في تناس وتجاهل عن قضية إخواننا في الصومال الدولة المسلمة
التي تعاني الجوع والجفاف والموت الحقيقي ، ونحن نرفل بالخيرات والنعم من
الله تعالى ، فاللهم لك الحمد ولك الشكر ، واللهم ارزق المسلمين في كل مكان
مزيد من الخيرات والأعطيات ، وأنزل عليهم من بركات السماء ، وأخرج لهم من
بركات الأرض يا رب العالمين .
ونحن نشاهد الكثير من الفتن في هذا الزمان ، فلنا وقفة مع ذلك ، لاسيما
والمسلم وهو ينظر في أحاديث الفتن ويستمِعُ إليها ويقرأُ عنها ؛ ولنعلم أن
نبينا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم يُخبِرنا عن حلول الفتن واضطراب
الأحوال وأنباء الهَرْج والمَرج وحوادث آخر الزمان وأشراط الساعة ، فليس من
أجل التخويف والإنذار وحده ، ولا لمجرد الإخبار باقتراب الزمان وتغيُّر
الناس وحُلول الفتن والمحن فحسب ؛ بل لأجل الاشتغال بالعمل وبذل مزيدٍ من
الأعمال الصالحة ، وفعل الخيرات ، والاستعداد لهادم اللذات ، ليقدم العبد
لنفسه عملاً ينفعه عند الله عز وجل .
أيها الأخوة . . لنقف هذه الوقفة مع تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لرجل
سأل عن الساعة _ القيامة _ فقال للسائل : " ماذا أعددتَ لها ؟ " ، وفي لفظٍ
: " ويلكَ ؛ ما أعددتَ لها ؟ " .
فتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي من المعلِّم الهادي صلى الله عليه وسلم ،
فقد صرفَ السائلَ إلى ما يعنيه ويُفيده .
فالعبدُ الحازمُ المؤمنُ من إذا سمِع ما صحَّ من هذه الأخبار قادَه ذلك إلى
العمل والحَزم والاستعداد ، والخُسران والدَّمار لمن أعرضَ واشتغل
بالتأويلات والتخييلات الصارفة ، فهي أخبارٌ وأنباءٌ لزيادة الإيمان وإقامة
الحُجَّة ومزيد العمل والعبادة .
وتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي في قوله - عليه الصلاة والسلام - وهو يذكُر
الفتن : "
فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ ، الصبر فِيهِنَّ مِثْلُ
الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ
رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ !
أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : " لاَ بَلْ
أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ " [ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي،
والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" من حديث أبي ثعلبَة الخُشنيِّ رضي الله
عنه ] .
وَعَنْ مَعْقِلِ بن يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ
كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ " [ رواه مسلم ] ، والهرج : القتل والفتن واضطراب
الأمور واختلاطها .
قال أهل العلم: " أي : العبادة في وقت اختلاف الناس واشتغالهم " ، قالوا :
" وعظُم الفضل لأن الناس يغفلونَ عنها ويشتغِلون بها ، ولا يتفرَّغ إلا من
رحِم الله وعصَم " .
وتأمَّل ما تفعلهُ وسائلُ الإعلام في صرفِ الناس وانشغالهم بمُتابعتها
ليلاً ونهارًا ، يشغلُ بها المُبتَلى نفسَه وفِكرَه وأصحابه في تحليلات
وتعليلات وتخييلات وهو ليس فيها من قبيلٍ ولا دبيرٍ ؛ هل هذا خير أم انصراف
المرء إلى الإحسان في عمله ومسؤولياته المُؤتَمن عليها والمسؤولٍ عنها
والمُحاسَب عليها .
شغلَ نفسَه بقراءة الصحف وسماع المِذياع ومُشاهَدة القنوات ومُتابعة
المواقع ، ومن انشغلَ بما لا يعنيه انصرف عما يعنيه .
ولعلَّ المُتأمِّل يُدركُ لماذا شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم العبادَة
بالهجرة ؟
قال أهل العلم : " لأن الهجرة فرارٌ بالدين من المكان المَخوف المُضطرب إلى
المكان الآمِن الذي يُقيم فيه المسلمُ دينَه " .
والعبادةُ في أزمان الفتن فرارٌ من هذه الموجات ، فرارٌ إيجابي وليس
انهزامًا وسلبية ؛ بل هو البناءُ والعمل ، اشتغالٌ بالعمل الصالح والعبادة
والإصلاح ونُصرة الدين وجمع الكلمة والتحذير من الفُرقة ، في أبوابٍ من عمل
الخير وأنواعٍ من العبادات الواسعة مفتوحة ؛ من صلواتٍ ، وصدقاتٍ ، وصيامٍ
، وحجٍّ ، وعمرةٍ ، وزيارةٍ ، وإحسانٍ في المعاملات ، وصدقٍ في العلاقات ،
وصفاءٍ في القلوب ، وحبٍّ في الخير ، والنُّصح ، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، من كل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة
والباطنة ، من أعمالٍ مالية وبدنية وقولية وقلبية ، وما فتحَ الله من أنواع
الأعمال والطاعات ، ولكل عملٍ بابٌ من أبواب الجنة .
فشمَّر الصالحون المُوفَّقون عن ساعد الجدِّ ، وتلمَّسوا أبوابَ الخير
والنجاة والثبات ، واتقَوا الفتن ، واجتنَبوا أبوابَ الشر ، وتأمل أيها
العاقل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن قامت على أحدكم القيامة وفى
يده فسيلة فليغرسها " [ رواه أحمد ] .
الفسيلة : الصغيرة من النخل .
فاشتغلوا عباد الله بما ينفعكم ويقربكم من ربكم زلفى ، ولن تنفعكم متابعة
الأحداث لأنه لا يد لكم فيها ، وللأسف أن الكثير ممن زعم أنه يشاهد الأخبار
والتحليلات ينتقل عنها إلى غيرها من البرامج والأفلام والمسلسلات الهابطة
التي تحارب الشريعة وتناقضها ، فأولئك على خطر عظيم .
والله جل وعلا طوَى عن الخلق حقائق الغيب ، وضربَ دونه الأسداد ، وحجَبَه
عن أكثر العباد ، وفتحَ لهم بابًا يكون لهم فيه نفعُهم في أمور دينهم
ودنياهم ، لا يدخل عليهم ضرر ، ولا يشغلهم عن مهماتهم ووظائفهم التي خلقوا
لأجلها .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك