|
بسم الله الرحمن الرحيم
الكسوف والخسوف :
الحمد لله الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، وأشهد أن لا إله إلا الله
المنجي من عذاب النار وعذاب القبر ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ما أشرقت
شمس وأنار بدر . . أما بعد :
فقد خلق الله الليل والنهار والشمس والقمر لحكمة بالغة وغاية سامية ، فهم
يسبحون الله تعالى لقوله تعالى : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل
سابق النهار وكل في فلك يسبحون } ، فالليل سكن وراحة واطمئنان والقمر نوره ،
أما النهار فمعاش وكد وتعب ونصب والشمس ضياؤه ، ولهذا قال الله تعالى : { وهو
الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً } ، والله تعالى
حكيم عليم لا يخلق شيئاً عبثاً ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وإنما خلق
كل شيء لحكمة ، ومما خلق الله تعالى الشمس والقمر ، وهما آيتان من آيات الله
تعالى خلقا من أجل مصلحة عامة أو خاصة وكل ذلك بتقدير الله عز وجل ، فقال جل من
قائل سبحانه : { هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد
السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون } ، وقال
تعالى : { فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير
العزيز العليم } ، يقول بن كثير في تفسير هذه الآية : " والشمس والقمر حسباناً
أي يجريان بحساب مقنن مقدر ، لا يتغير ولا يضطرب ، بل لكل منهما منازل يسلكها
في الصيف والشتاء ، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً " انتهى
. وقال بن سعدي في تفسير هذه الآية : " والشمس والقمر حسباناً ، بهما تعرف
الأزمنة والأوقات فتنضبط بذلك أوقات العبادات ، وآجال المعاملات ، ويعرف بها
مدة ما مضى من الأوقات " انتهى .
عباد الله : من حكمة الله تعالى أن جعل في تلك الآيتين العظيمتين _ الشمس
والقمر _ جعل فيهما تخويفاً لعباده إذا طغوا وبغوا ، أن يراجعوا دينهم قبل أن
يحل بهم عذاب ربهم ، ولهذا كان الكسوف والخسوف ظاهرتين غريبتين يخوف الله بهما
عباده ، قال تعالى : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً } ، لذلك كان الدافع
للكسوف والخسوف هو تخويف العباد ، وليس أموراً فلكية عادية طبيعية فحسب كما
يصورها أعداء الملة والدين ، ليبعدوا المسلمين عن دينهم ، لتقسوا قلوبهم ، ولا
يعد لديهم أي اهتمام بهذه الآية العظيمة ، حتى أن البعض منهم يفرح ويستبشر
بوجود هاتين الآيتين ، ومنهم من يذهب إلى قمم الجبال ، وأعالي التلال ،
ليشاهدوا ذلك الحدث العظيم بالمناظير والتلسكوبات ، ويغمرهم الفرح والسرور ،
وغفلوا بل عميت عقولهم عن السبب الحقيقي لذلك ، فرحماك ربنا رحماك .
أيها المسلمون : معلوم أن الكسوف والخسوف لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ،
فالأمر أكبر من ذلك وأخطر ، فهي آيات من آيات الله تعالى الدالة على عظمته
وجبروته وقوته ، ليخوف بها عباده حتى يتوبوا إلى بارئهم ، ويعودوا إلى دينهم ،
فالواجب إذا رأى الناس ذلك أن يفزعوا خائفين وجلين ، مبتهلين باكين ، ويتضرعوا
إلى الله بالدعاء والتوبة والإنابة ، وأن يكثروا من الاستغفار ، ويظهروا
الافتقار للواحد القهار ، ويكثروا من الصدقة وأعمال البر والخير ، والإحسان إلى
الفقراء والمساكين ، ومساعدة اليتامى والأرامل ، وأن يهرعوا إلى الصلاة ، وهي
صلاة غير مألوفة ، لم يألفها الناس ولم يعتادوها .
أيها الأخوة في الله : كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع
وفزع معه المسلمون فزعاً شديداً ، وخرج عليه الصلاة والسلام مسرعاً إلى المصلى
، حتى أن رداءه سقط على الأرض ولم يشعر به من شدة فزعه وخوفه ، وهول تلك الآية
العظيمة ، وعندما وصل المصلى نادى مناد بالناس ( الصلاة جامعة ) ، فاجتمع الناس
رجالاً ونساءً ، صغاراً وكباراً ، فصلى بهم صلاة غريبة لغرابة واقعتها ، والناس
يصرخون ويبكون خوفاً من الله تعالى ، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك
الصلاة ، رأى الجنة والنار ، ورأى أموراً جساماً ، فرأى النار ، فقال : ما رأيت
منظراً أفظع منها _ اللهم أجرنا من النار _ ثم بعد الصلاة خطب الناس خطبة بليغة
وعظهم وذكرهم بربهم سبحانه ، وخوفهم من عقوبته وسطوته .
معاشر المسلمين : حالنا اليوم مع الكسوف والخسوف حال غريبة قد لا تمت للإسلام
بصلة والعياذ بالله ، فكم وقع الكسوف والخسوف ، وكم صلينا تلك الصلاة ، ومع ذلك
فالناس بل أكثرهم ما بين لهو ولعب ، ومشاهدة للحرام عبر القنوات والشاشات
والمجلات ، وجلوس على الشوارع والأرصفة لسماع دندنة خبيثة محرمة ، وآخرون
نائمون لاهون غافلون ، وكثيرون غارقون في بحر الذنوب والمعاصي ، فإذا رأوا تلك
الآيات لم يحرك ذلك فيهم ساكناً ، فهل بعد هذه الغفلة من غفلة ، فهم سكارى وما
هم بسكارى ، ألهتهم المغريات والملهيات ، فلا إله إلا الله ، وسبب ذلك ما أوقعه
أعداء الدين في قلوب المسلمين ، من تهوين وتسهيل لأمر الكسوف والخسوف ، وأن ذلك
أمر طبيعي يحدث كل عام ، وأن سببه ظاهرة طبيعية لا خوف ولا قلق منها البتة ،
حتى قست قلوب كثير من المسلمين فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، والصحيح أن الكسوف
والخسوف آيتان من آيات الله تعالى يظهرهما لحكمة بالغة ، ليراجع الناس دينهم
ويصحوا من غفلتهم ، لكن وللأسف قد فتم للأعداء ما أرادوا ، فتساهل الناس بأمر
الكسوف والخسوف ، حتى لم يقبل على المساجد إلا كبار السن ومن كتب الله لهم
الهداية والتوفيق ، أما الآخرون فهم غارقون في سباتهم وغفلتهم ولهوهم ولعبهم ،
لا خوف ولا حياء من الله تعالى ، نسأل الله أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً .
عباد الله : هناك سببان للكسوف والخسوف ، سبب حسي ، وآخر شرعي ، فالسبب الحسي
لكسوف الشمس ، أن القمر يقع بينها وبين الأرض فيحجب ضوءها عن الأرض ، أما سبب
خسوف القمر ، فهو وقوع الأرض بين الشمس والقمر ، فتحول الأرض بينهما ، ومعلوم
أن القمر جرم معتم يستمد نوره من الشمس ، فإذا حالت الأرض بينهما وقع الخسوف .
أما السبب الشرعي وهو المهم ، فيتضح جلياً في الحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة
قال : كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال
الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن
الشمس والقمر لاينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا الله
" ، وعن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشمس والقمر
آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ، ولكن الله تعالى يخوف بها عباده " [
البخاري ] ، إذاً السبب الشرعي في حدوث الكسوف والخسوف هو تخويف الله للعباد ،
ليتركوا ما وقعوا فيه من الذنوب والمعاصي والآثام الجسام ، وتوالى حدوث تلك
الآيات في هذا الوقت بالذات لكثرة المغريات الحياتية ، والانفتاحية والإباحية
التي تعيشها معظم المجتمعات ، فانجرف الناس في تيار الحضارة الزائفة ، فضلوا
أنفسهم وأضلوا غيرهم ، فأرسل الله تبارك وتعالى تلك الآيات تخويفاً وإنذاراً
لعباده كيلا يحل بهم ما بحل بمن سبقهم من الأمم الغابرة ، فعليهم أن يرجعوا إلى
ربهم ويعودوا إلى دينهم حتى لا يقع بهم سخط الله وغضبه ، قال تعالى : { ظهر
الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم
يرجعون } ، فالواجب على المسلم إذا رأى تلك الآيات العظام والعلامات الجسام أن
يبادل إلى طاعة ربه ومولاه ، وأن يفزع إلى الصلاة خوفاً من ربه سبحانه ، ويترك
ماسوى ذلك من ملاه وملاعب ومغريات .
عباد الله : بالنسبة لكسوف الشمس لا يمكن أن يحدث إلا في أواخر ليلة الثامن
والعشرين ، أو التاسع والعشرين ، أو الثلاثين ، لأنه في تلك الأيام يكون القمر
قريباً من الشمس فيحجب بعض ضوئها عن الأرض فيحدث الكسوف ، أما خسوف القمر فلا
يحدث إلا في أيام إبدار القمر ، أي في الأيام التي يكون فيها القمر بدراً ،
ويكون ذلك في ليلة الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر [ انظر فتاوى بن
تيمية 12/370 ] .
أيها المسلمون : أما كيفية صلاة الكسوف فهي كما صليناها ، فعن عائشة رضي الله
عنها قالت : خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالناس ، فقام فأطال القيام ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم قام
فأطال القيام ، وهو دون الأول ، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ، ثم
سجد فأطال السجود ، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى ، ثم انصرف
وقد انجلت الشمس ، فخطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك
فادعوا الله وكبروا ، وصلوا ، وتصدقوا ، ثم قال : يا أمة محمد ، والله ما من
أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً " [ البخاري ] .
ولنا مع هذا الحديث وقفات :
1- أن الكسوف والخسوف آية من آيات الله تعالى يخوف الله بها عباده .
2- الكسوف يرتبط بالشمس ، بينما الخسوف يكون مرتبطاً بالقمر ، وذلك إذا اجتمعا
، فيقال : كسوف الشمس ، وخسوف القمر ، أما إذا انفردا فيطلق على كل منهما كسوف
وخسوف ، فيقال : كسوف الشمس وخسوف الشمس ، وكسوف القمر وخسوف القمر .
3- إذا حصل الكسوف والخسوف ، فعلى الناس أن يفزعوا إلى الصلاة والدعاء والصدقة
والتكبير والتهليل وذكر الله تعالى على كل حال ، والإقلاع عن المعاصي والذنوب ،
والتوبة إلى الله علام الغيوب .
4- اختلف العلماء في حكم صلاة الكسوف والخسوف ، فمنهم من قال : أنها سنة ،
ومنهم من قال : أنها واجبة ، وهو اختيار العلامة بن قيم الجوزية رحمه الله
تعالى ، والصحيح أنه سنة مؤكدة وهو قول جماهير العلماء .
5- يسن لصلاة الكسوف خطبة واحدة ، وهو قول الشافعي وإسحاق وكثير من أهل الحديث
، بينما ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه ليس لها خطبة ، والصحيح في
ذلك أنه يسن لها خطبة وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين .
6- تعجيل التوبة والإنابة إلى الله تعالى ، قبل أن يحل الموت ، هادم اللذات ،
ومفرق الجماعات ، فحينئذ لا ينفع الندم ، فما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع إلا
بتوبة .
7- أن يكون ابتداء وقت الصلاة من حين بداية الكسوف ، ونهايتها إلى أن ينجلي .
8- التحذير من الذنوب والمعاصي ، وأنها سبب هلاك الأمم والأفراد .
9- أن الكسوف والخسوف لا يكون لموت زعيم ولا لحياته ، ولا لموت عالم ولا لموت
رفيع ولا وضيع ، ولو كان ذلك حاصلاً ، لحصل لموت أشرف البشر وأفضل من وطئت
قدماه هذه الأرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه وجه أمته إلى أن الكسوف
والخسوف آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، وإنما يخوف الله
بها عباده ، فخرج بذلك من يقول أن الشمس أو القمر انكسفت لموت فلان من الناس ،
فلا ينكسفان لموت عالم ولا حاكم ولا قريب ولا بعيد .
10- اطلاع الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على بعض أمور الغيب التي
لا يستطيعها أحد من الناس .
11- يجوز أداؤها في أوقات النهي ، فتؤدى بعد صلاة العصر ، وبعد صلاة الفجر ،
لأنها من ذوات الأسباب التي إذا وقع سببها أوديت .
12- يجوز أداؤها ركعتين في كل ركعة ركوعان أو ثلاث أو أربع أو خمس ، لأن ذلك
ثابت عن الصحابة رضوان الله عليهم ، ولكن الأفضل الاقتصار على الذي جاء عن
النبي صلى الله عليه وسلم .
13- الاعتبار فيها بالركوع الأول دون الثاني ، لأن الأول هو الركن ، فمن فاته
الركوع الأول من الركعة الأولى أو الثانية فعليه الإتيان بتلك الركعة كاملة بعد
سلام الإمام .
14- من المعلوم أن الركوع فيها طويل جداً ، فماذا يقول المصلي في هذا الركوع ؟
لقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بقوله : " فأما الركوع فعظموا فيه
الرب " ، فيقال : سبحان ربي العظيم ، سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ،
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا
نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ، أما السجود فيكثر فيه من الدعاء ، لأن العبد
أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ، فيكثر من الدعاء لأنه حري بالإجابة في هذا
الموضع الذي يخضع فيه العبد لربه سبحانه وتعالى ، فيرغم أنفه وجبهته لخالقه
سبحانه .