|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق لحج بيته
، وسهل الوصول إليه بحكمته ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في
أسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من
خليقته ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته ، ومن تبعهم واقتفى أثرهم
وعمل بسنته . . وبعد :
معاشر الحجاج : من أعظم فضائل العشر الأول من شهر ذي الحجة ، أنها فيها
ركناً عظيماً من أركان الإسلام ، فمن أقامه أقام الدين ، ومن هدمه جاحداً
لوجوبه فقد هدم الدين ، ألا وهو الحج ، فالحج واجب على الفور لمن توفرت فيه
شروطه ، من إسلام وعقل وبلوغ واستطاعة ، قال تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ
فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } ، عَنْ أَبِى أُمَامَةَ رضي
الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لَمْ
يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ ،
أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ ، فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ
يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا " [ رواه أحمد وأبو يعلى والبيهقي
وقال الشوكاني : حسن بالمتابعات ] ، فمن استطاع الوصول إلى بيت الله الحرام
، وأداء مناسك الحج ، وملك الزاد والراحلة ولم يحج ، فهو آثم مخطئ مُلام ،
فمن لم يحج حج الفريضة ، وهو الحج الواجب ، فالبدار البدار بالحج ، قبل أن
تحصل العوائق ، وتحل الصوارف ، وطوبى للحجاج ، وهنيئاً لمن أعد العدة للحج
هذا العام ، فقد جاء في فضل الحج أنه يغفر الذنوب كلها ، وأنه سبب لدخول
الجنة ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رض الله عنه - قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَرْفُثْ ،
وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " ، وعَنْه رضي الله
عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " الْعُمْرَةُ
إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ
لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ " [ متفق عليهما ] ، فبادروا بالحج
، واغتنموا فرص العمر والصحة والسعة والعافية ، قبل الفقر والهرم والشغل
والمرض ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " تَعْجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يَعْنِى
الْفَرِيضَةَ - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ " [ رواه
أحمد ] .
أيها الحجاج : أتى عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ الطَّائِيِّ إلى رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى
الصَّلاَةِ فَقُالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ
طَيِّيٍ ، أَكْلَلْتُ رَاحِلَتِي ، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي ، وَاللَّهِ مَا
تَرَكْتُ مِنْ حَبْلٍ _ المكان المرتفع من الرمل _ إِلاَّ وَقَفْتُ
عَلَيْهِ ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم : " مَنْ شَهِدَ صَلاَتَنَا هَذِهِ ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى
نَدْفَعَ ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً
، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ ، وَقَضَى تَفَثَهُ _ يعني نسكه _ " [ رواه أبو
داود والترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] ، ومع هذا التوجيه النبوي
الكريم ، والإرشاد المصطفوي العظيم ، إلا أننا نجد جهلاً في أحكام الحج عند
كثير من الحجاج ، فتراهم يرهقون أنفسهم ، ويتحملون المشاق والمتاعب ،
وَيَكْلَفُون ما لا تطيقه أنفسهم ، فيقفون فوق الجبال الشاهقة ، والمرتفعات
العالية ، وصولاً لغار أو مكان ، لم يثبت في النص ثواباً في وصوله أو نواله
، فالله الله عباد الله ، عليكم بالسكينة يا حجاج بيت الله ، ارفقوا
بإخوانكم الحجاج ، ولا تضيقوا على أنفسكم ، ولا تجهدوها في تتبع آثار
وأمكنة ربما كان في اتباعها إيقاع ضرر ، وإلحاق خطر ، على كثير من البشر ،
وعليكم بالرفق ، فقد قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ
الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ
شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ " وعن الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَدِيفَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ
، وَغَدَاةِ جَمْعٍ _ مزدلفة _ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا : " عَلَيْكُمْ
بِالسَّكِينَةِ " [ رواهما مسلم ] .
فاتبعوا هدي نبيكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم ، ففي اتباعه خير وهدى ونور
وفلاح وفوز في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ
اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران31 ] .
وقال عز وجل : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن
تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ
وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ } [ النور54 ] .
وقال سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ النساء13 ] .
وقال تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً } [ النساء69
] .
وقال عز وجل : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ
وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور52 ] .
وقال سبحانه : { وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً
عَظِيماً } [ الأحزاب71 ] .
وقال تعالى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ
حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ
يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح17 ] .
وإياكم حجاج بيت الله العتيق ومخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه
وسلم ، فمخالفتهما كبيرة عظيمة ، وعاقبة وخيمة ، قال تعالى : { لَا
تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور63 ] .
وقال تعالى : { وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء14 ]
.
أيها الحجاج : تأملوا قول الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ } [ الحجرات10 ] .
إنما المؤمنون إخوة في الدين , فأصلحوا بين أخويكم إذا اقتتلا ، وخافوا
الله في جميع أموركم ؛ رجاء أن تُرحموا .
وأمعنوا النظر في هذا الحديث الذي رواه مسلم عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما يَقُولُ : إِنَّ رَجُلاً سَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ :
" مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " ، عَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم : " الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ ، إِنِ اشْتَكَى
عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ "
[ رواه مسلم ] ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ
، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ " [ رواه مسلم ] .
والنصوص الواردة في حق المسلم على أخيه كثيرة ، لكن من تدبرها وتأملها بعين
الحق والنصح والحب ، وجد أن ما يحصل اليوم من مضايقات ومصادمات وزحام بين
الحجاج في الطواف والسعي وحول الجمار لهو أمر يندى له الجبين ، ولا يمت
للدين بصلة ، فالإسلام دين يسر وسهولة وليونة ، دين رفق وتأنٍ وهوادة ، لا
عنف فيه ، ولا شدة فيه ، بل هو دين الحب والتآلف ، دين الإخاء والصفاء ،
وهكذا يجب أن يكون من به تمسك ، وبه تنسك .
حجاج بيت الله الحرام : إن ذلكم الزحام الشديد الذي يحصل حول الكعبة
المشرفة ، وبين الصفا والمروة ، لهو دليل جهل ، وعلامة قلة فهم ، عند كثير
من الحجاج ، وإلا فلو أعطى كل حاج الفرصة لأخيه ، ولو التزم الجميع بما
تمليه الأنظمة داخل الحرم ، وحول الجمرات ، لما فقدنا مسلماً بسبب الزحام .
فالواجب على الدول أن تقوم بتوعية حجاجها بهذا الشأن ، حتى نسلم من ترهات
الأعداء وتبجحهم ، وكثرة كلامهم حول ما يحصل للحجيج من مخاطر أوقعوها
بأنفسهم ، وتهافتوا فيها .
فالتوعية السليمة ، والتوجيه السديد يقينا بإذن الله مثل هذه المهالك .
فما حصل للحجاج من مخاطر وموت وزحام كله بسبب قلة التوعية ، وعدم الإرشاد ،
وسوء التصرف .
ولو أن الحجاج عملوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ، فعملوا بهدوء وسكينة
واطمئنان ، وخشوع لله وتضرع ، وأفسح كل لأخيه لكانت الأحوال أفضل مما هي
عليه .
أيها الحجاج : مما ينبغي على الحاج العناية به ، أن يحرص على أخذ التصريح
الخاص بالحج ، واتباع الأنظمة والقوانين التي سنها ولي الأمر ، لأن من خالف
ولي الأمر فقد خالف النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن خالف نبيه فقد خالف أمر
ربه ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء59 ] .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ : " مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ يَعْصِنِي
فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي ،
وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي " [ متفق عليه ] .
ومن تأمل هذين النصين وما جاء في معناهما من الأمر بطاعة ولي الأمر ، وجد
أن في عصيان ولاة الأمر ضرر على المسلم في حاله ومآله ، فالحج المبرور هو
الحج الذي يتركب من أمرين :
أولهما : الإخلاص لله في حجه .
ثانيهما : اتباع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذا وافق العمل هذين الشرطين كان مبروراً متقبلاً ، ولو تأملنا حال من عصى
ولاة الأمر ، وخالف الأنظمة التي سنها للناس ، فإنه قد خالف الكتاب والسنة
بوجوب طاعة الأمير ، وحجه بذلك لا يكون مبروراً فلا يصدق عليه ما جاء في
ثواب الحج المبرور الذي جاء فيه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " الْعُمْرَةُ إِلَى
الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ
لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ " [ متفق عليه ] .
والله أسأل أن يوفق الحجاج والمعتمرين ، وأن يعيدهم إلى بلادهم وأهليهم
سالمين غانمين ، غير خزايا ولا مفتونين ، وأن يحفظهم من كل سوء ومكروه ،
وأن يكبت عدوهم ، ويجعل كيده في نحره ، وتدبيره تدميره ، إنه سبحانه قريب
سميع مجيب الدعوات ، والحمد لله رب الأرض والسموات ، وعلى نبينا محمد أعظم
التسليمات والصلوات .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك