|
" صُورٌ تُرى و تُقْرَأُ و تُعاشُ "
أدونيس
حُبُّ الجمالِ مغروسٌ في
النفسِ البشريةِ ، سِرٌّ من أسرارِ حُسْنِ التقويم الخَلْقِي في البشر ،
تميلُ إلى الجمالِ كثيراً ، و تلْحظُ الجمالَ في كلِّ شيءٍ من المُكوَّناتِ
حولها ، و لهذا كانت كثيراً ما تُنَقِّبُ عن الجمالياتِ و تُحاكيها ،
فكانتْ تقوم بالرسمِ لما تستحسنه و تراه جميلاً .
و الرسمُ من الفنونِ التي أضفتْ على الحياةِ جمالاً من جمالها ، لما فيه
مِن حكايةٍ مرسومةٍ بريشةٍ ذاتِ لونٍ أو ألوانٍ ، فليسَ الرسم هوايةً عبثية
يقوم بها الرسَّام بريشته ، بل هي مَظْهَرُ ما بَطنَ في نفسِه ، فالرسمُ
مُتنفَّسُ الرسَّامِ الفكريُّ و الشُّعوريُّ و الدينيُّ ، فبعض الرسَّامين
يرسُم ما يُوصِلُ للغيرِ فكرةً يحملها فيُوصلها بريشةِ التشكيل ، و ربما
حملت الرسْمةُ شُعوراً مكنوناً مكبوتاً في نفس الرسَّامِ ، مُفرحاً أو
مُحزنا ، مضحكاً أو مُبكياً ، و قد تكونُ دِلالةً على دينٍ أو تحملُ رمزاً
دينياً ، فالرسْمُ هوايةٌ و رسالةٌ .
فالرسْمُ يكون أولاً قبلَ ظهورهِ على اللوحاتِ و الأوراقِ مرسوماً معنوياً
في رُوحِ الرسَّامِ ، و إن لم يكنْ رسَّاماً بيده أدرَكت روحه مرسوماً
يُطابقُ ما ارتسم فيها ، فلا يُرسم الرسَّامُ رسمةً بيده إلا بوحيٍ من رسم
روحه ، و لا رسمَ ظاهرٍ إلا برسمِ باطنٍ ، فالباطنُ منبعُ الجمالياتِ و
الظاهرُ مَشْهدها ، فالرسمُ ، و سائرُ الفنون البشرية ، تنبعثُ من تذوقِ
الروحِ لها ، و العقلُ و الدينُ يَحكمان التوظيفَ لا يُحكمانِ التكييفَ .
موهبةُ الرسم باليدِ تكون مَجْمَعَ التكاتف الروحي و الجسدي ، فينطبعُ ما
في الروحِ بآلةِ الجسدِ على محلِّ الرسمِ و أثرُ هذا التكاتف كبيرٌ على
إيحاءِ المرسوم و على نفسِ الناظرِ إليها ، و لا تكاد تهفو النفوسُ
المتذوقة الرسمَ إلا لمثل هذا النوعِ ، على الضِدِّ تماماً حين يكون الرسمُ
ليس موهبةً مغروزةً في الإنسان ، فيكون رسمُه اصطناعيٌّ اكتسابي ، فيكون
الأثرُ فيه من تلقاءِ الذوقِ الجسدِي أو ما استطعمته الروحُ لا ما اختلقته
من تلقائها ، فيقِلُّ الإقبالُ على هذا النوعِ من الرَّسمِ ، و مثلُه ما
كان في الروحِ تَوقٌ نحو الرَّسمِ و لكنَّ الجسدَ لا يُعينُ على ذلك فتكونُ
باحثةً عن رسَّامٍ أو رسمةٍ تُشابه ما تريده ، و هذان بدلانِ ، و البدَلُ
أعورُ .
المرسومُ ربَّما كان شيئاً حيَّاً ، إنسانٌ أو حيـوانٌ ، أو شيئاً جمادياً
، شِبْه حيٍ أو جمادياً خالصاً ، أو كان رمزياً ، أيَّاً كان نوعُ المرسومِ
فإنه لا يحملُ في طيَّاتِهِ معانيَ ينثرها الرَّسام ، قد يُدرك تلك المعاني
مَن عرفَ الرَّسَامَ و ما يعيشُه من أحوالٍ ، أو ربما عُرفت من حيثُ الحاضر
الذي يعيشه ، فالرسمُ يَعكسُ حالةَ الرَّسام النفسية تماماً ، في رُسوم
الترميزِ تكون أبعادُ الرسماتِ إما مُضطربة ، و إما لها دلالاتٌ نفسيةٌ
عميقةٌ ، إن صُوحِبَتْ بشرحٍ و إيضاحٍ كانَ بلاغاً مبيناً ناطقاً عن
المرسومِ ، و للرمزيةِ أثرٌ على النفسِ حين تُدركها أشد من أثرِها لو كانت
بيِّنةً واضحة ، فللغموضِ إيحاءٌ يُدركُ بالنهوضِ ، و في رسم الأحياءِ ،
البشر وغيرهم ، أو الجمادياتِ بأنواعها مقاصدُ الذكرى ، أو وقفةُ الأطلالِ
، أو استشرافُ المستقبلِ .
للمكانِ و الزمانِ أثرهما في تكوين رسالة الرسم ، فالذي تهفو نفسُه للقديمِ
، زماناً و مكاناً ، و يندبُ وجودَه في زمنٍ غايرَ و ناقضَ الماضي العريق
تجد في رسوماته لمساتِ الماضي ، و كذلك من شَكى الحاضرَ أو مدحه فلرسوماته
فيه وجودٌ طاغٍ ، ذماً و قُبحا ، أو مدحاً و حُسناً ، مثلهما الذي يرنو
بنظرته نحو مستقبلٍ بعيدٍ أو قريبٍ ، فلا يدري كيفَ يكون حالُه فيه ، فيرسم
مستقبَلاً مُتخيَّلاً حسْب تشكيلاتِ الروحِ الصورةَ المرسومة .
إدخالُ اللونِ على الرسمِ يُضفي عليه معنى يَبْلُغُ بالمرادِ أبعدَ غايةٍ ،
حيثُ كانت الألوانُ لُغاتٌ تُدركُ بها الأبصارُ مقاصِد النفوس ، و لكلِّ
لونٍ رسالتُه ، و لكلِّ لونٍ ، كذلك درجتُه ، و وضعُ اللونِ في الرسمةِ
ضروريٌ من حيثُ الأهمية ، و المناسبة ، و الموافقةُ لحالِ الرسمة ، و كذلك
رسالة اللونِ للناظرِ فيه ، و اختيارُ الألوان يكتنفه ذوقُ الروحِ و رؤية
العقلِ و مهارةُ الفنِّ .
إضافةُ الأشكال الهندسية ، أو التشكيل الترميزي في الرسوماتِ يُعطي دلالاتٍ
بعيدة المدى ، و هي من المُعيناتِ لا من الأساسات ، و جنوحُ كثيرٍ من
فنَّانِي الرسمِ إلى إضافةِ الأشكال ، أو التشكيل الرمزي لم يكن عبثاً و
لهواً ، لذلك أقبلَ الناسُ على رسوماتٍ أُضيْفَ عليها ذلك لكشفها عن شيءٍ
في نفوسهم .
ارتباطُ الرسمِ بالواقعيةِ و الخيالِ نهجٌ من الذوقِ الرسمي سلكه
الرسَّامون ، و الرسم الخيالي مِن أبدعِ أنواعِ الرسمِ لما فيه من إشعال
فتيلة التفكيرِ العقلي لمعايشة الخيالِ في الواقع الذهني لا الخارجي ، و
كثيراً ما تحقَّقَت رسوماتٌ كانت أول أمرها خيالاً و استبعدها الناسُ ، و
ما يصنع العقلُ خيالاً يستحسلُ تحقُّقُه ، بخلافِ الرسومات الواقعية فإنها
تكون مرتبطةً بزمانٍ معروفٍ ، فهي حكايةٌ زمانٍ حاضرٍ ، و تاريخٌ له بعد
ذهابه .
مِن الرسمِ المُغَيَّبِ ، الرسمُ اللفظي ، و هو الرسمُ النَّعتي أو الوَصفي
، فاللغةُ ترسُم بحروفها كما ترسم الريشة بألوانها ، و لا يكادان يجتمعانِ
في رسَّامٍ ، فإما يمهرُ الشخصُ بالرسم اللفظي أو الرسم الشكلي ، و إذا
اجتمعَ فجمال إبداعٍ حِيْزَ بحذافيرِهِ في نفسٍ واحدة ، إلا أنَّ أحدهما
يُعبِّرُ عن الآخرِ بما يُدركه شبيهه ، فالرسَّامُ التشكيليُّ يُعبِّرُ عن
الرسام اللفظي برسمٍ يُدركه تشكيليٌ مثله ، سواءً رسَّاماً أو متذوقاً ، و
كذلك الرسَّام اللفظي يُعبِّرُ عن الرسمِ الشكلي بألفاظٍ يُدركُ اللفظيُّ
منها رسالةَ الرسمةِ .
الرسمُ رسالةٌ روحيةٌ جسدية تُجسِّدُ بألوان الكونِ رسالة الكونِ ، و تحملُ
للآتينَ بقيةَ رسائل ألواحِ مَن سبقوهم ، و يصنعُ حضارةً قادمة ، فليسَ
هوايةً بلا غاية ، و لا لعباً و لهوا ، و إن اتُّخِذَ كذلك ففي طيَّاته
رسالته ، جميلٌ أن ننتهضَ بتفعيلِ جمالياتِ الرسمِ بشتَّى أنواعه لغايةِ
الجمالِ المقاصدي لا الجمال المشاهدي ، فقد مضى زمن الصورِ الجوفاءِ
الفقيرةِ من المعاني .
Abdullah.s.a