|
" و دَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ
و إنْ كانتْ لهم جُثَثٌ كِبارٌ "
المُتنبي
في خلوةٍ معَ النفسِ يَجول نظرُ الفؤادِ في
أمورِ هذا الزمانِ ، و ما فيه من تقلُّباتٍ و أحداثٍ ، و ما فيه من ناسٍ
مختلفينَ في الأخلاقِ و الطِّباعِ و الصفاتِ ، تعرفُ منهم و تُنكرُ كثيراً
، و يأخذُني التعجُّبُ أحايينَ كثيرةً في نقد الزمانِ و عِتابه و لومه ، و
هو ليس إلا ظرفاً أجرى اللهُ فيه ما أجراه من أحداثٍ ، و جعلَهُ
مُتَقَلَّبَ الأحوالِ و دَولةً للتغيُّراتِ الكونية ، و البشرُ في مَهْمَهِ
المسيرِ في حياتهم يَغفلونَ عن مخلوقيَّةِ الزمانِ و مجبوريَّتِه ،
فتتوهَّمُ نفوسهم أن عوائقَ الطريقِ منه ، و أن معاولَ الهدمِ من صُنعه ، و
مسكين هذا الزمانُ ، و لكنَّه في أذهانِ قومٍ لا يُدركون إلا ظاهراً ساحراً
، و السِّحرُ ظَهْرُ زَيْفٍ ، و الظَّهرُ نكرةٌ .
تلك التغيراتُ في الزمانِ ليستْ من النوعِ الواحدِ في الناسِ ، فربما كانتْ
قاسيةً على النفوسِ فلا تحتملُ القسوةَ ، و ربما كانتْ ليِّنَةً على البعضِ
فتأنَسُ ، و القسوةُ و اللينُ متغايرتانِ في الفهميَّةِ لدى العقولِ و
انطباعاتِ النفوس .
تأتي القسوةُ على حينٍ من غَيْبةِ شُعورِ العقلِ بوظيفته فتكون الغفلةُ
محكومةً بهوى النفسِ فيُنتقَد الزمانُ مِن عُقلاءَ فُهماءَ حُكماءَ ، و
ربما أصابوا ذاك عمداً فسبُّوا الدهرَ و القصدُ منه بلاغةَ الحال فيَرْمونَ
بذمِّهِ مَن حلَّ فيه و أصبح مظروفاً ، لا ذمَّ الزمانِ .
شكايةُ الناسِ من ضَيمِ الزمانِ شكايةُ قلبٍ فاهَ بها لسانُ الجسَدِ ليَحكي
للناسِ شَجواً و شجناً ، إنهم ما شَكوا زمانهم لنقصٍ اعتراهم من ذواتهم ، و
لا لعيبٍ كانَ فيهم مُصْطبغاً ملتصقاً ، و إنما شَكوه لأنَّ أهلَ الزمان
غَدوا أهلَ سُوءٍ ، و السوءُ إذا حلَّ أفسدَ ، و الزمانُ يتأثَّرُ بفسادِ
البشَرِ فذموا زمانَ البشرِ أهلِ السوءِ لا الزمانَ ذاته .
يمتلكُ أُناسٌ في زمانهم كثيراً من الصفاتِ التي تجعلُ الزمان مُنقاداً بين
أيديهم يَخدُمهم ، و لكنَّهم لا يرونه مُسْعِفاً مُعيناً ، فتنقدحَ في
نفوسِهم شرارةُ كُرْهٍ مِن أسَى الحالِ فلا تقوى نفوسهم على تقبُّلِ الأمرِ
فيذمونَ زمانهم ، و لا يلوون على شيءٍ إلا على قُدومِ ساعةٍ تَغفو فيها
أرواحهم إغفاءةً طويلةً لا تصحو إلا على دارِ التخليدِ ، ليكونوا في
إغفاءتهم في سلامةٍ و مأمَنٍ من رَيْبِ الزمانِ و خطرِهِ على نفوسهم ، و هم
يرون مَن ليس بشيءٍ شيئاً ، لا بفعلِ الزمانِ و لكن بفعلِ أهل الزمان
القالبين لميزان العدلِ في إعمارِ الأرضِ ، شَكوا شِكايتهم ، و صرخوا بأعلى
صوتٍ بين الناسِ في ذلك ، و لا يُلامون حينَ يُرى الوضيعُ رفيعاً ، و
الرفيعُ وضيعاً ، فقلبُ الميزانِ من عيبِ الزمانِ ، و لا يُقلَبُ ميزانٌ
إلا بقلبِ حالِ النفوسِ عن مَهْيَعِ الرشادِ إلى مَضْيَعِ الغِواية .
إنَّ ندبَ الحَظِّ عند ضَيْمِ الزمانِ شُعورٌ لازمٌ على النفسِ إخراجه ، و
إلا كان فيه ضرراً عائداً بالمرضِ عليها في العقلِ فلا يُدرك حقيقةَ شيءٍ ،
و في النفسِ فلا تستقرَّ على حالٍ ، و في الخُلُقِ فلا ضبطَ لسلوكٍ ، و في
الروحِ فلا مأمَنَ في مأمَنٍ ، فهي آهاتٌ تختلجُ نفوسهمْ فكانوا مُبدينَ
فيها رسالةً للناسِ الذين هم ناسُ الزمانِ الوُضعاءُ بأنَّ الزمانَ حالُه
قُلَّبٌ ، فربَّ يومٍ أصبحَ لكَ يكون مُمسياً عليكَ ، فلا مقياسَ عدلٍ في
الزمانِ في الهِباتِ بقدرِ مقياسِهِ في الهاتِ .
أهل الزمانِ ليسوا شيئاً ، فقد مضى أولئك الناسُ الذين همْ ناسُ صِدقٍ و
بقيَ ناسٌ هم زيفٌ و مَحْقٌ ، فلا يَكادُ يَجد أحدٌ أحداً إلا و يُوحي إليه
بأنَّ له وجهاً آخرَ سيُرِيْهِ إيَّاهُ في حينٍ ، فلا يأمَنُ زماناً هذا
نوعُ ناسِهِ ، و لا يفرَح بمُفْرِحٍ و لا يبْكِ بِمُبْكٍ ، فقد استوتِ
الأحوالُ و استبهمت الرجالُ .
و في وجودِ ناسِ الزمانِ الذين غبَرَتْ حقائقُهم كسبٌ كبيرٌ ، و لكن "
المُؤَمَّلُ غيبٌ و لكَ الساعة التي أنتَ فيها " ، و عَوْدُ الحقائقِ نادرٌ
، و يكونُ نَزْراً لا يُذكرُ ، و ما لا يُذكرُ يَغْبُرُ .
هذا الضيمُ الزمانيُّ صيَّرَ الكثيرَ من العقلاءِ في حيرةٍ ، فلمْ تَقْوَ
العقولُ العظيمة على فَقْهِ الحالِ ، و لم تحتملِ النفوسُ وَقْفاً على
الأطلالِ ، فبانتْ النفوسُ الكرائِهُ عن جادَّةِ الصوابِ فأبانتْ ما ليس
يقبلُه عقلُ من أتى ، فأعملَ العقلَ نقداً و ذماً ، و لو أعملَ النفسَ في
مقامِ تلك الحالِ لارتأى غيرَ ذا ، و حينَ تخاطُبِ العقلِ مع النفسِ و
المشاعرِ لا تكون النتائجُ محمودة ، فالعقلُ و العاطفةُ لا يتفقانِ ، و لا
بُدَّ من غالبٍ .
و هذه تقتضي غُرْبَةً في النفسِ ، فتكون الأرضُ الواسعةِ ذاتَ ضِيْقٍ ،
ففقدانُ المؤانِسِ المُعينِ داعيَ دمعٍ ، و مُناجيَ لَوْعٍ ، حيثُ ذهبَ
أقوامٌ كانتُ أكنافهم سكناً ، و استسكنَ نفسَهُ جِلْدَ جَرَبٍ ، و الجرَبُ
هلاكٌ ، فلا يأنَسَ في ضَيْمِ الزمانِ عاقلٌ إلا بسَكَنِ الغُرْبَةِ ، و
استئناسَ الوحشِ ، و استيحاشَ البشَرِ ، فتكون القِمَمُ الجبليةُ سَكناً ،
و الجمادُ مُساكناً ، و النباتُ أكلاً ، و الطيرُ مُؤاكلاً ، فما أقسَى
النفسَ إذا تغيَّرَ ثوبها و لم تَرْضَه .
فضيمُ الزمانِ في شِقوةِ العاقلِ و سَعْدِ الجاهلِ ، و الشريفُ لا يرضى
بالضَّيْمِ ، و ضيمُ تِلْوَ ضَيْمٍ يغدو فيها العاقلُ حيراناً ، فيضرب
أخماساً بأسداسٍ ، و يطيش عقلُه حيْصَ بَيْصَ ، فينقُش على جبين الزمانِ
البئيسِ أسْمى ما تجودُ به قريحته مِنْ شِعرِ المشاعرِ أو نَثْرِ المحابرِ
، فيكون شاهداً إذْ ذاك .
و لمْ يكُن أولئكَ الذين ضامهم الزمانُ بِضَيْمِه مكتوفِيْ الأيدي دونَ
حِراكٍ بتأثيرٍ ، فإنهم سَعوا في رَفْعِ ضَيْمِهِ بما كانوا موهوبين إيَّاه
مِن قُدْرَةٍ في عقلٍ و حكمةٍ ، و الزمانُ لم يُواتِيْهم بِفُرَصِ التوفيقِ
في نتائجِ الأعمالِ ، و الأنْفُسُ طُلْعَةٌ إلى ذَوْقِ ثمراتِ البِذار ، و
مَعَ ضَميمةِ حَقْرِ الناسِ الوُضعاءِ ، و صَدِّ نفوسهم عن عَونِ العُقلاءِ
إلى عدم مواتاةِ الزمان تَوسيعٌ للخرقِ ، و لا رَتْقَ لمنيعِ الفَتْقِ .
شِكايةُ الزمانِ حينَ الاستسلامِ قُبْحٌ و عيبٌ ، فلا يُغالِبَنَّ الزمانُ
إلا ناشطاً ، و أما العاجز فالزمانُ يَكسرُ ظهره ، و مناطحِ الصخرةِ شُجاعٌ
، و حينَ التَّعَبِ يُحمَد بشجاعته و لا يُذمُّ بِخسارته ، كذا الزمانُ و
ضَيْمه حينَ يُغالبُ حالَه و ضيمه الرجالُ بإصلاحٍ و إنارةٍ و لا
يُواتَوْنَ بشيءٍ فإنَّهم ألْقَوا بمهامِّ الوظائفِ على ظهرِ الزمانِ
أمانةً ينقلًُها عبرَ قريضِ الشعرِ و عريضِ النثرِ لِمَنْ يَقْدُمُ مِن
أهلِ كِتابِ الحكمةِ ليأخذوا ذاك بقوةٍ .
سؤال يُجيبُ الزمان يُجيبُ عنه ، و أما أهلُه فليس أحداً قادراً على
الإجابة ، لأن الإجابة فعلٌ و ليست قولا ، و الزمان لا يقول :
متى يُغادرُ غدر الزمان ؟