عندما يكون العقلُ منشغلاً بشيءٍ من الأمور
التي تستدعي الكتابةَ ، كفكرةٍ ، أو تحقيقٍ لشيءٍ ، أو خاطرةٍ ، أو كتابٍ ،
أو غيرِ هذه ، يكون الشخصُ محتاجاً لأن يحظى بشيءٍ من الوقت لكتابةِ ذلك ،
و ربما لا يكون الوقتُ مُسْعِفاً ، فتضيعَ عليه إن لم يكن ذا ذاكرةٍ قوية
تعْلُقُ بها واردات العقلِ .
الكتابةُ لا تُعْرَفُ إلا عن طريقِ اليَدِ ، و هناك مَن نَدَّ و شَذَّ
فكتَبَ بِرِجلِهِ أو بِفَمِهِ ، و تلك قَد تكون معقولةً مع الزمنِ و إدمان
الناسِ مُشاهدتها و تواتُرِها عندهم ، و قد يكون كثيرٌ يقوم بذلك مع
الدُّرْبَةِ و المُهُورِ فيه ، فبِالدُّرْبَةِ يكون الكثير .
بَيْدَ أنه في حالةِ تدفُّقِ المُعطياتِ من العقلِ ، و تأخُّرِ المبادراتِ
بكتابةِ إملاءاتِ العقلِ ، يكون الشخصُ ساعتها في حِيْرةٍ من أمره ، و
تعلوهُ كآبةٌ خوفَ ضَيْعةِ ما تدفَّقَ من عقلِهِ و فكره ، فليس لديه ما
يَكتُبُ مُرادَهُ ، و خشيةُ ذهابِ الوارد واردة .
هُنا تأتي مهارةُ الكتابة بالعقلِ ، أو قُل : الكتابة بالذهنِ ، و هي
تستدعي كونَ الشخصِ حاضرَ الذهنِ مُستحضراً ما في خزينةِ فكرِهِ ، فيستطيع
أن يَكتُبَ و لو اليسيرَ مما لديه .
لن يكون القبولُ لهذه المهارةِ مُتأتياً على وجهِ السُّرْعةِ عند الكثير ،
لاستغرابِ ذلك و لاستبعادِهِ أيضاً ، و الأمرُ ليس على ما يبْدُرُ في
فُهومِ الكثير ، و إنما هو ترتيبٌ يقومُ بالخيالِ العقلي ليكون كحقيقةٍ
واقعةٍ .
قد تكون الكتابةُ لجُملةِ ما في العقلِ ، على اختلافٍ في طولٍ و في قِصَرٍ
، و تلك لا تكون إلا لمن يملُك قُوةً في التخزين الذاكري ، و قبلُ في
التخزين المعرفي ، فالمعرفةُ الثقافية تفتحُ للشخصِ كثيراً من آفاقِ
الطرْحِ ، و حين تبدو في عقله تلك الأفاق فبقدرته تخزين ما جال في خاطره
كلِّهِ ليكتُبَه بيده بَعْدُ ،و لكن إذا قَويَتْ الذاكرة .
و قد تكونُ كتابةُ العقلِ لرأسِ الواردات الفكرية ، و شرْط الرأسِ أن يكون
كافياً في دَرْكِ ما لم يُكتَب ، فيكون كاشفاً واصفاً للباقي ، حتى لا
يلْحقُ الشخصَ تعبٌ في معرفةِ ما بقيَ .
كتابة رؤوس الأفكار و المعارفِ بالعقلِ هي مما لا يغفَلُ عنه أحدٌ ، و هي
أقلُّ شيءٍ في كتابةِ العقلِ ، و الذي لا يعرفُ إتقانها ، بل لا يعرفُ
شيئاً منها هو في حضيضِ العجزِ و في عُمقِ تعطيل العقلِ ، و هذه كافيةٌ في
عدم تقديرِهِ عقلِهِ ، و في خللِ العقلِ ذ1تِه .
كافٍ في ذلكَ أن يأتي في كتابةِ رؤوسِ الموضوعِ بعقلِهِ على مقاصِده
الكُبْرى ، على أن يكون مراعياً شَرْطَ ذلك ، تماماً كالطريقةِ ذاتها
باليدِ .
تأتي أهميةُ مهارةِ الكتابةِ بالعقلِ عند تزاحُمِ الأفكارِ و المواضيعِ في
ذهنِ الشخصِ ، فيكون من الضروري أن يسعى لاكتساب مهارةِ ذلك بقوةٍ ليكتسبَ
وقتاً كثيراً و عطاءً وفيراً .
و تأتي لكوننا في عصرِ السرْعةِ ، فالحياةُ لا تقبْلُ البُطْءَ و التأخُّرَ
، لا التأنِّي ، فإن لم تكن مهارةُ الكتابة بالعقلِ مأخوذةً و ماهراً بها
الإنسانُ فإنَّ الحياة لن تقفَ عجلَتُها عليه ، بل ستتجاوزُه إلى إتمام
مسيرتها ، و الفطينُ يُسابقُ الزمن ، فإنَّ الزمن إن لم يُسْبَقْ سَبَقَ .
و بَعْدُ ، فليست مهارةُ الكتابةِ بالعقلِ ضَرْبٌ من المُستحيلِ إلا في
حالةِ اعتقادِ أنَّها كهيئةِ الكتابة باليد ، و عقلُ الإنسان فيه من
القُوَّةِ العظيمة ما لو اعتنى الإنسان أدنى اهتمام بها لصنع العجيبَ
المُدهِشَ ، و شواهد هذا في الوجود كثيرةٌ ، فلتكُنْ فينا عزيمة اكتساب
مهارة الكتابة بالعقلِ ، فالعقولُ جبَّارةٌ مِعطاءةٌ ، و لا يَعرفُ البشرُ
قُوةَ عطائها إلا عند البحثِ في قُدراتها .
" الكتابةُ بالعقلِ " استيحاءٌ من قولةِ أحدهم لشخصٍ : أنت تكتُبُ بيدك أم
بعقلك ، فيدك لا تستطيع أن تكتب ما في عقلك ، فربما كانت لعقلك يدٌ تكتبُ و
تُرسلُ " .