التوسُّعُ المعرفيُّ قاضٍ باتِّساعِ وُجهاتِ
النظرِ و اختلافِ الرأي ، و تلك الوُجهاتُ و الاختلافُ مِن مُوسِّعاتِ
المعرفةِ و الثقافة ، و لولاها لبقيَت المعارفُ في ضِيْقٍ و حيِّزٍ محدودٍ
، و تلك سنةٌ من سُنن الله في الثقافات و المعارفِ .
و ذلك الاختلافُ من نتائجِ إعمالِ العقولِ وظائفَ التفكيرِ ، فإن العقلَ في
إعمالِهِ التفكيرَ في الواردِ عليه يختلفُ في التحليلِ له من عقلٍ إلى آخرَ
، في محالَّ يُجرى فيها ذلك ، بناءً على خلفياتٍ يعتمد عليها ، كالخلفيةِ
الدينية بصورتها العامة ، و كالخلفية اللغوية ، و كالخلفية البيئية ، و مِن
ثَمَّ يَحدُثُ تغايرُ الفهومِ للأشياءِ المُتَّحَدِ في النظر فيها و
الإعمال العقلي فيها .
حيثُ لا سلامةَ من الاختلافِ في البيئة البشرية ، إذْ هو من لوازمها و من
عللِ إيجادهم ، كان الوقوف على تثقيفٍ لمقاصِد الاختلافِ من الأمورِ
المُرْشِدة و المهامِّ المُنْجدة ، ليكون وجودُ الاختلافِ رحمةً كما رَمى
إلى ذلك الأكابرُ ، و بلا تثقيفٍ لمقاصِدِه بل تفعيلٌ لدورِ صُوَرِهِ و
مشاهده يَغدو _ كما هو الآن _ شراً لا خيرَ مرجواً منه .
الثقافات و المعارفُ لا تخرجُ عن منطقتين فهومُ الناسِ فيهما ، و لا
تعْزُبُ عن محلَّيْن ، شأنا ثابتاً فيهما :
الأولى : منطقةُ الاتفاق .
و هي منطقةٌ تجمَعُ مقاصِد العلم ، و تُعنى بمُجملاتِ أصولِهِ ، و أساسياتِ
الثقافة ، مما لا يَسَعُ أحداً أن يُجريَ فهماً ليخرُجَ عنها بقصدٍ
التغييرِ ، و هي منطقةٌ تجمعُ أربابَ الفنِّ الواحد تحتَ رايةِ الانتماءِ
إليها ، دون تفريقٍ و إقصاءٍ إلا في حينِ خَرْقِ ذلك بمخالفةٍ ناقضةٍ
للتآلُفِ و التواصُلِ ، كمنطقةِ الأديانِ انتساباً ، فلا ينتسبُ مسلمٌ
لغيرِ الإسلامِ إلا بخرْقِ منطقةِ انتسابِهِ بمخالفتِهِ مقاصِد و أصولَ
الدين ، و كمنطقةِ الفنونِ الثقافية فلا يُقْصَى أحدٌ عنْ فنٍّ منتمٍ إليهِ
إلا عندما يأتي بمخالفةِ أصولِ الفنِّ و أُسُسِهِ فلا يكون منسوباً حينَئذٍ
، فالمخالفةُ هنا خِلافٌ منزوعةٌ منه تاءُ التأليفِ لكونه شراً مناقضاً
مقاصد العلم و معاقِد الأصلِ .
و هذه المنطقةُ لا يُخْرَجُ منها من أجرى فهمَه في :
الثانية : منطقة الاختلاف .
و هي منطقةُ إعمال العقولِ في درْكِ مقاصِد المنطقة الجامعة ، على حَسْبِ
قُوةِ العقلِ إدراكاً و إعطاءً ، فكانت متباينة الفهومُ فيها مما أحدثَ
أنواعاً منها ، كُلُّها تجتمعُ في تبيانٍ لِسَعةِ مقاصِد العلمِ ، و
شُموليةِ أصول الثقافةِ ، و هذه المنطقةُ أوْرَثَتْ كثيراً من الفَتْحِ
الثقافي المعرفي ، فباختلافِ الفهومِ تنويعٌ و توسيعٌ للمعارفِ ، حيثُ
مبادلةٌ بين القبولِ و الردِّ ، و الأخذِ و الإعطاءِ ، و فيها فَتْقٌ
لمنابعَ أُخَرَ في المعارفِ و العلوم ، لذا كانتْ عائدتها نفعاً ، و ليستْ
هذه موصومةً بالعَيْبِ و النِّقْمةِ بل نُعِتَتْ بالخيرِ و الرحمةِ ،
لأثرِها في السَّعةِ و التأليفِ .
منطقةُ الاختلافِ تُحْدِثُها بواعثُ لا تخرُج عن ثلاثةٍ :
الأولُ : العقليةُ البشرية .
فليستْ عقولُ الناسِ على نَسَقٍ واحدٍ ، و لا نُسْخةً مكرورةً في كلِّ
كائنٍ بشري ، بل هي متفاوتةٌ في الإدراكِ و الوعي ، و كان بذلك تفاوتٌ في
الحكمِ و الفهمِ ، و اختلافُ العقليةِ البشريةِ قد يكون فِطرةً ليسَ للشخصِ
يدٌ فيها ، كمن قلَّ فهمُه لِقِلَّةِ ذكائه و إدراكه ، و قد يكون اكتساباً
في حالِ قَصْرِ العقلِ على فَهْمٍ موروثٍ ، أو حَصْرِهِ على مصدرٍ واحدٍ لا
يُبتغى بِهِ بَدلا ، فمما لا بُدَّ منه حينها أن يكون هناك مخالفةٌ لذي
رأيٍ آخرَ مخالفٍ .
الثاني : الأدلةُ و البراهين .
ففي كلِّ علمٍ دلائلُ مسائله ، و براهينُ علومه ، و تلك إما أن تكون جائية
لا تحتملُ إلا معنًى واحداً ، فالخروجُ عنه مذمومٌ صاحبُه ، و إما أن تكون
مما يحتملُ أوجُهاً ، أقلَّها وجهانِ و ربما زادت ، فتكون العقولُ في
توظيفِ الفهمِ في تلك الاحتمالاتِ ، فيؤخَذُ باحتمالٍ من قومٍ ، و يؤخذ
بآخرَ من آخرين ، و قد يكونُ بعْضٌ يَحملُ دليلاً على كونه قَطعيَّاً في
الدلالةِ الحُكمية ، و غيرُه لا يرى في ذلك القطعيَّةَ الواردةَ عليه .
و هذه الاحتمالاتُ قد تكون بسببِ تعدُّدِ الأدلةِ في أمرٍ واحدٍ مختلفةً في
الحكمِ ، فقد يكون أحدهما ميَّالٌ إلى المنعِ و الآخرُ إلى عدمهِ .
الثالث : اللغةُ .
فللغةِ دورٌ كبيرٌ في تغييرِ فَهْمِ الأدلةِ و البراهين ، ففيها اختلافٌ في
البناءِ الإعرابي ، و في التغيير الصَّرْفي ، و في المعاني المتعددةِ
للفظةِ الواحدةِ ، وفيها اللهجاتُ البُلْدانيةُ القَبَلِيَّةُ ، و فيها
التطوُّرُ الدِلاليُّ للكلمة ، و فيها الحقيقةُ و المجازُ ، و لدلائلِ
اللغةِ أثراً كبيراً كدلائلِ الأفعالِ الأمْرِيَّةِ ، فهذا الاختلافُ
اللغويُّ سببٌ في تبايُنِ الأفهامِ في دَرْكِ المُرادِ و تعيينه .
و فيما مضى عذرٌ قائمٌ لكلِّ من أتى منه اختلافٌ في شيءٍ من جزئياتِ العلوم
و المعارفِ ، فيُحافَظُ بمعرفتها على صِلَةِ الربطِ بمنقطة الاتفاقِ
الجامعة ، و يُحظى بأثرِ التنويعِ المعرفي بمنطقةِ الاختلافِ الواسعة ،
فيكون سلطانُ الرحمةِ جامعاً بالتأليفِ و التواصلِ الباني مناراتِ العلوم و
المعارفِ ، و لا يبذلُ العذرَ إلا من أدركَ حظاً مِن السَّعةِ في العلوم و
المعارفِ ، و كان طُلْعَةً في فنونٍ شتَّى ، و أما من كان قاصرَ الطَّرْفِ
على جزءٍ من العارفِ و العلومِ فلن يكون عاذراً أحداً خالَفَه في شيءٍ
سائغٍ .
Abdullah.s.a