عمليةُ التواصُلِ بين الناسِ مهمةٌ في بناءِ المجتمعات ، و في تحقيقِ
مقاصِد الحياةِ ، و الإنسانُ مدَنيٌّ بِطبعِهِ ، ميَّالٌ لمصاحبةِ بَني
جِنْسِهِ ، فلا يكاد يُطيقُ صبراً في غيابِهِ عن صاحبٍ ، و لا في غربته عن
وطنه .
و لأهمية التواصلُ في حياة الإنسانِ كانَ وجودُ حدٍّ
له جُغرافي في غريزة النفس البشرية ، مبنيٌّ على مدى قُوةِ منزلةِ الطرفِ
الآخرِ لدى الشخص ، و مناطق الحدود الجغرافيةُ في عملية التواصل البشري
أربع :
الأولى : المنطقة العميقة ، و هي منطقة خاصةٌ
لا يقبل الإنسان دخولَ أيَّ حدٍّ فيها ، إلا في حالةِ إذنٍ أو جَبْرٍ ،
لأنها منطقة محظورٌ على الغيرِ لقُرْبِها إلى الذاتِ و شِبْهها بها ، و هي
نوعان :
النوع الأول : ما تتراوح مسافتها بين ( 15_45
سم ) و هذه يدخلها بالإذن كلُّ من له وصف المحبةِ الكبيرة عند الشخصِ ، و
في اللقاءاتِ ما تكون بالمصافحة ، و في المجالسِ يكون بينهما محلُّ شخصٍ
فارغٌ .
النوع الثاني : تتراوح مسافتها بين (0 _ 15
سم ) و هذه لا تكون إلا في حالةِ من التداني الشديد ، و التي يكون فيها
عِناقٌ أو ضمٌّ إن كان ذا غربةٍ أو نوعَ بُعْدٍ ، و على الاستمرارِ بين
المحبِّيْن كما في شعرهم .
و يَخترقُ هذه المنطقةَ أحدُ شخصين :
أولهما : حبيبٌ قريبٌ ، على رُتْبَتَيْ
المحبوبين : الخاصة و الأخص _ ، و هذه تكون بإذن الشخصِ و رِضاه .
ثانيهما : عدوٌّ مباغتٌ ، أو لِصٌّ نشَّالٌ ،
و هذه لا تكون إلا جبراً و قهراً .
الثانية : المنطقة الشخصية ، و هي تلك التي
تكون في علاقاتِ الشخصِ مع غيره ممن ليس بينه و بينهم علاقة حميمية ، أو
تكون في المناسبات ، و تعطينا بأنَّ الشخصَ الآخرَ مقبولٌ عند صاحبِ
المنطقة التواصلية ، و تتراوح المسافة فيها بين (46_1.2سم ) .
الثالثة : المنطقة الاجتماعية ، و هي تكون مع
الغرباءِ ، و يُحافظ عليها كِلا الطرفين لا أحدهما ، و لا يُجترأ على
خَرْقها إلا عند اختلاف قدر المسافة عند الطرفين ، و المسافة بين
(1.2_3.6م) .
الرابعة : المنطقة العامة ، تلك التي تكون في المحالِّ العامةِ ،
كالمحاضراتِ ، و المسرحياتِ ، و الخُطَبِ ، فإنَّ المسافةَ بين الشخصِ و
جمهوره واسعة تبدأ من (3.6م _ فما فوق ) .
اختراق مناطق التواصل :
قَد يقعُ أحدٌ في اختراقِ منطقة تواصلٍ ليس من حقِّه أن يخترقها ، و ليس
أهلا لدى صاحبها أن يدخلها ، ذلك الاختراقُ حين نعرفُ بواعثَه و أسبابَه
يجعلنا نعرفُ قيمةً تواصلية أعمق ، فيُصَحَّح للطرفِ المخترِقِ سلوكَه ،
كما أننا سنكون قد عرفنا قدرَ كلٍّ في تواصلِه بالآخر من حيثُ تلك المنطقة
التي يجعلنا فيها ، أسباب الاختراقِ للمنطقتين الشخصية و الخاصة ثلاثة :
السبب الأول : اختلاف الثقافات و طبائع الأمم
، فمسافة المنطقة الخاصة عند ناسٍ قد تكون هي المنطقة الشخصية ، فيقتربُ
الثاني إلى الأول في دخوله منطقته الخاصة لكونها في ثقافته شخصيةً ، فكلُّ
ثقافةٍ و أرضٍ لها نظامُ حدودِ تواصلٍ مع الآخرين .
السبب الثاني : العوارض العامة ، كالزحام الشديد و كالإنقاذ من
مكروهٍ ، أو من الحلاقِ و الطبيبِ و مصممِ الأزياءِ .
السبب الثالث : الفطرةُ أو التكبُّرُ ، و كثيراً ما يُرى من أشخاصٍ
اختراقَ تلك المنطقتَيْن _ الخاصة و الشخصية _ لكونه مفطوراً على ذلك و
يقوم بها تلقائياً ، أو يكون من متغطرسٍ متكبِّرٍ فيكون احتقاراً لصاحب
المنطقة ، قد يقوم بها المحقِّقُ مع المُتَّهَمِ زرعاً لخوفٍ لنزعِ اعترافٍ
.
بَعد هذا البيانِ لحدود مناطقِ التواصل الجغرافية نكون قد استبان لنا أن
علاقاتنا مع الآخرين ليست سواءً ، و أن على كلٍّ منا أن يلزمَ حدود منطقته
التي وضعه فيها صاحبُه الآخر حتى يُبْقَى على ديمومة التواصلِ و الألفة .
هذه الحدودُ مبنيةٌ على الحدود الروحية الباطنية غالباً و أصالةً ، فكلُّ
من كان قريباً من الروحِ و القلبِ كانت منطقةُ جغرافيته قريبةٌ ، و رُبَّما
بَعُدَتْ منطقةٌ جغرافيةٌ قهراً فيُبقى على المنطقة الروحية القلبية ، و
ليسَ منْ قُرِّبَ ظاهراً قُرِّبَ باطنا ، فللجسد حدود و للروح حدود في
التواصلِ ، و القيمةُ المعتبرة في حدود الروحِ .
عبد الله العُتَيِّق
-------------------------------
(*) مُفادٌ أصلُه من " البيان بلا لسان " لـ : د. مهدي عرار (ص : 6266]
Abdullah.s.a