في مسيرةِ العقلِ و اشتغالِه في التفكيرِ في
جميع أحوال الحياة نجد تبايُنا في مدى إدراكِه لما حولَه ، و هذا التبايُنُ
يرْجع اختلافُه إلى مدى قوةِ تلك النظرة ، فمن كان ذا نظرةٍ بعيدةٍ ليس كمن
كان ذا نظرة لا تتجاوَزُ ظِلَّه ، و كذلك من كانت نظرته مرتبطة بالأسبابِ
غير من كانت نظرته مرتبطة بالنتائج .
قد يكون سببُ النظرةِ التفكيرُ ، و النظرةُ سبب التفكير ، فكان الحالُ
دَوْرَاً ، و عَوْداً على بَدءٍ ، و مهما يكن السببُ فالحالُ يدور في
الحكمِ مع الأثر الظاهر .
عُمْقُ النظرةِ في أبعادِ الأحداثِ ، و النظر إلى ما وراءها من الأشياء
التي لم يُوْلِها الكثير اهتماماً ، بل لم ينظر أحد إليها ككونها موجودة ،
فكانتْ المنظوراتُ أشياء لا تُحدثُ أثراً في الحياة .
أولئك الذين يمتلكون العُمقَ في نظرتهم إلى الأشياء يمتازون بقدرٍ من
العقلِ الفاحص ، و قدرٍ من الإدراك لما خلفَ تلك الأشياء ، فيُفصِح بشيءٍ
لا يؤمن به إلا هو ، حتى أولئك الذين يُشاركون بُعداً في النظرة العقلية ،
و عمْقاً في الإدراك ، لأن الـعمْقَ وظيفة نادراً أن تقبلَ شريكاً .
العُمْقُ قد يكون في التفكيرِ المنطقي ، و التحليل العقلي ، و قد يكون في
صناعةِ الآثار و النتائج ، فصاحبُ العُمْق لا يرضى بأن يكون طافحاً ، لأنه
لا يطفح على سطح الماءِ إلا الخفيف ، و صاحبُ العُمْق ثقيلُ الفكرِ و العقل
.
العُمْق لا يتأتَّى إلى الإنسان إلا بتحصيل كَمٍّ من حقائق المعارف و
الثقافات ، و لا لن يتأتَّى بمجردٍ تمريرِ العينِ و تشغيل الذهن بهامشيِّ
الثقافة ، أو يتأتَّى من تجربةٍ خرجَ بعُمْقِ فكرِهِ و نظرهِ بأثرٍ كبيرٍ
بنَّاءٍ .
في حياتنا احتياجنا لأصحابِ العُمْقِ ليس بأقلَّ من احتياجنا للماء ، لأنَّ
وجودَ أُلاءِ يبني حضاراتٍ كبيرة ، تدوم بعدهم ، كما بقيتْ حضاراتٌ قديمة
حتى اليوم ، و ربما ستبقى مزيداً ، ما بقيَ فينا ذوو العُمْق .
في وجودِ العُمْقِ في حياتنا إيجادٌ للهدوءِ و الاستقرارِ ، لشِبْهِ
التلازُمِ بينهما ، حيثُ رسوخُ العُمْقِ و بُعْدِه عن الأنظارِ بِبُعْدِ
نظراته ، في كلِّ عُمْقٍ هدوءٌ ، و لكلِّ هدوءٍ عُمْقٌ .
Abdullah.s.a