الإنسانُ مظهرٌ و جوهر ، و مبنى و معنى ، و
ذاتٌ و صفاتٌ ، و جِسْمٌ و وَسْمٌ ، و امتيازُه بتحقيقِ الحقيقة الإنسانية
، و الأخلاقُ تلك الحقيقة ، سواءً كانتْ أخلاقاً باطنةً أو أخلاقاً ظاهرةً
، فليسَ الشأنُ إلا في جوهرية الأخلاقِ و في سِرِّ إيجادها ، و لم تكنْ من
جملة المناقبِ إلا بذلك .
فمن الأخلاق ما يكون غريزةً في نفسِ الإنسانِ محاسنها و مقابحها ، و يزدادُ
النعتُ بهما عند التوظيفِ ، فكما هي مفطوراً بها الإنسانُ كصفةٍ و خُلُقٍ
كذلك مفطوراً بوصفها ، و ذاك عند أغلب الناسِ ، و ليس شيئاً مُطَّرِدَاً في
كل حالٍ و لكلِّ أحدٍ .
كذلك من الأخلاق والصفاتِ ما هو مكتَسَبٌ ، يُنالُ بالدُّرْبَةِ و الممارسة
، فعندما يأخذُ الإنسان بصفةٍ _ ليكون مُتَّصِفاً بها و موصوفاً عند الذكرِ
بها _ ممارساً لها في أحواله بعد معرفته بها يجعلُها مُصْطَبِغَةً فيه
فيرتقي إلى أن يكون موصوفاً بها و كأنها فِطرةً فيه ، يُرَقِّيْهِ ارتقاؤه
إلى حقيقة الصفة أن يكون غائصاً في أعماقها و أسرارها ، فيُدركُ بذوقِ
الحالِ ما لا يكادُ يكون مُصَدَّقاً عند أحد ممن لم يَصِلْ إلى ما وصَل
إليه ، و ذا في كلِّ صِفة ، فليسَ إلا تعلُّقٌ ثمَّ تخلُّقٌ ثُمَّ تحقُّقٌ
ثمَّ تَعَمُّقٌ ثمَّ تذوُّقٌ .
و قد يُدركُ أسرارَ الصفاتِ و الأخلاقِ بالاكتسابِ من لم يُدركها بالغريزة
و الجِبِلَّة ، حيث الاعتبارُ بالفعلِ الظاهرِ ببعثِ الباطن ، فلا تنبع
عينٌ إلا بدفع باطن الأرض ، و لا تبدو أخلاقٌ حِسان و لا صفاتٌ كاملة إلا
بصناعة باطنِ الإنسان إياها ، و على ذلك كان التعويلُ .
جاءت الأديانُ مُتَمِّمَةً حِسان أخلاقِ الناسِ ، و ذاك في صناعتها
توظيفياً مُترتِّباً على باعثِ الدينِ ، و باعثُ الدينِ الأخلاقي جاءٍ من
استجمالِ الناسِ محاسِنَ التوظيفِ الخُلُقي ، و إقرارُ الأديانِ محاسِن
الأخلاقِ لم يَكنْ إلا لِما أدركتْه من جمالٍ في بناءٍ للذاتِ الإنسانية و
لما تقوم به من تحقيقِ مقاصد الشرائع ، و ذاك الجمالُ المَرْضي به عند
الناسِ قَبْلَ الأديانِ من وَحي الغرائز الصحيحة السليمة ، و غرائز النفوسِ
لا تصِحُّ إلا بِصِحةِ النفسِ و الروحِ ، و القلبُ حادٍ و حاكمٌ .
فأخلاق الإنسانِ لا تَميلُ إلى سُوءٍ أو حَسَنٍ في ذاتها ، بل هي شيءٌ
صِرْفٌ لا تحملُ شيئاً ، و لا تصطبغُ فيها صِبْغةٌ إلا من جرَّاءِ توظيفِ
الإنسان ، فإن كان توظيفه إياها في المحاسن و المحامد كانت محمودة ، و إن
كان في المقابح و المذامِّ كانت مذمومة ، فغالبُ العيبِ في الصفاتِ من
قِبَلِ وضعِ الإنسان لها في غيرِ موضعها ، و كذا المدح من وضعها في موضعها
اللائق بها .
كثير من الأخلاق يَميلُ وصفها إلى الحُسْنِ ، و لا تقبلُ إلا وضعها في
المحاسن ، حيثُ كانتْ ميَّالةً نحوَ ذلك ، و يتَّصِفُ بها الكثير من الناس
لدواعيها هيَ لا لطلبِ الإنسان التخلُّقَ بها ، و صفات أُخَر في منأىً عن
الحُسْنِ و ميلٍ نحو السوءِ و لو سَعى إلى تحسينها في توظيفها الإنسان لعاد
خاسئاً و هو حسير ، و تُمدَحُ بالحُسْنِ مجازاً و ووصفاً للحالِ لا للذاتِ
.
يَصنع الإنسان الأخلاقَ بتوظيفها لا بالنعتِ بها ، فليس الصبورُ ممدوحاً
بذاتِ الصفةِ و الخُلُقِ إذا كان واضعاً إياه في غيرِ محلِّه ، و يُمدَح
الجَزِعُ بالصبرِ إذا تصبَّرَ في محلِّ الصبرِ ، كذا الشجاعةُ فليس شجاعاً
من أظهرها على ضَعيفٍ و ليس جباناً من جبُنَ عن قَوي ، فكان الأولُ
متهوِّراً أو شجَّعَه ضَعفِ الخصم ، و الآخرُ شُجاعاً لعدم أهلية الحالِ ،
و الشجاعةُ إدراك الشجاعِ الربحَ و الفوز لا القوة .
كلُّ خُلُقٍ لا بُدَّ من صناعته في مناسبته الحالَ التي يقتضيها ، فلكلِّ
خُلُقٍ وظيفة لا تكون إلا في وقتٍ يتطلَّبُها الحالُ ، و فواتُ وظيفةُ
وَقْتِ الخُلُقِ سُوءُ خُلُقٍ ، و أسرارُ الأخلاقِ تكمُنُ في وظائفها ، و
لكلِّ وقتٍ وظيفته .
تصنُّعُ الأخلاقِ يقتضي من المُتَخَلِّقِ أن يكون فَطِناً لأهليته للخُلُقِ
، و أن يأخذ الخُلُقَ بِحقِّه ، و يَعهدَ إلى نفسِهِ حفظَ الوظيفة العملية
للخُلُقِ ، فالأخلاقُ أمانات مُستودَعَةٌ ، و تضييعها جريمةٌ كونية .
فسِرُّ الأخلاقِ الحسَنةِ في حُسنِ توظيفها لا في تحسينِ توصيفها ،
فالوصائفُ عابراتُ دورٍ ليس لهُنَّ قرار و لا عليهنَّ تعويل ، و الدعوى
الخُلُقِيَّةِ لا تقوم إلا على برهان اليقين .
Abdullah.s.a